یعد الصراع والتدافع ظاهرة اجتماعیة قدیمة في التاریخ الإنساني، بل أنها سمة ملازمة للمجتمعات البشریة. حيث لازمت وجود الإنسان في مسيرته ثلاثة ظواهر تمثل جوهر نشأة الظاهرة السياسية وهي ظاهرة الاختلاف وظاهرة التنوع وظاهرة الندرة ،واصبح الناس متنوعون وحاجاتهم متزايدة ومتنوعة والموارد نادرة نافذة ومحدودة ،مما أنتج الاختلاف الذي يؤدي إلى تبادل وتعاون او إلى تنافس وصراع ،وبالتالي أصبحت التسوية السياسية ضرورة فأنتجت قواعد التبادل والتعاون / وقواعد الصراع والتنافس ،وفرضت أدوات لإدارة التعاون أو الصراع وهو قلب العملية السياسية وجوهرها حيث تعتبر وظيفة إدارة الصراع السياسي من الوظائف الرئيسية لأي حركة سياسية ،ومن جهة أخرى فإن الصراع هو أحد أنماط التفاعل الاجتماعي الذي ینشأ عن تعارض المصالح، وهو موقف تنافسي (وآلية صراع) سيما عندما یدرك فیه كل من المتنافسین أنه لا سبیل للتوفیق بین مصالحهم، فتنقلب المنافسة إلى صراع یعمل فیه كل طرف على تحطیم مصالح غریمه وربما ممتلكاته وثقافته.
وتبرز أهمية الصراع السياسي كونه يعلب دورا مركزيا في عملية التغير والتطور الاجتماعي، لذلك اختلف العلماء في تفسیرهم له، فذهب بعضهم إلى أن وجود الصراع والتدافع داخل الجماعة إنما یعبر عن حالة مرضیة یجب السیطرة والقضاء علیها، في حین یرى البعض بأن الصراع والتدافع السياسي والاجتماعي یمثل حالة إیجابیة لابد من وجودها في المجتمعات البشریة من أجل التنمیة والتقدم والتطور.وفكرة الصراع تتمحور حول رغبة الأفراد والجماعات في إشباع حاجاتهم المتعددة، ووجود موانع الإشباع، ينشأ عنه الرغبة في إزالة تلك القیود، للوصول إلى الأهداف، وبذلك یتم الصراع على مستویین، كما ذهب إلى ذلك (أرسطو ):مستوى الأفراد: وسببه كفاح الأفراد من أجل إشباع حاجاتهم الأساسیة. ومستوى الجماعات والطبقات: وسببه عدم المساواة في الحقوق السیاسیة والثروة… الخ، وذلك ما ینطبق برأیه على حركة التاریخ الإنساني.
أما عن العوامل التي تؤثر في التدافع والصراع فيمكن حصرها في العوامل ذات الطابع السياسي : كالصراع حول السلطة. والعوامل ذات الطابع الاقتصادي: كالصراع للسیطرة على رأس المال وعلى وسائل الإنتاج. والعوامل ذات الطابع الثقافي: كالصراع بين الأفراد والجماعات بسبب الاختلاف في الدین أو اللغة أو القیم الاجتماعیة، وكل منهم يريد فرض ثقافته…. الخ .والصراع أو التدافع كان ولازال جوهر الوجود البشري، حيث يخبرنا قانون التدافع بأنه لا مفر من عملية التدافع المستمرة في السلم والحرب فهي حالة دائمة لا يجوز تجاهلها او الأمل في زوالها .وقد أكد القرآن هذا المعنى بقوله تعالى “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ” سورة البقرة 251 وفي سورة الحج قال سبحانه :” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ” الحج 40.
ويشير الإمام البنا رحمه الله في رسالة المؤتمر الخامس إلى منهجية التعامل مع هذه السنة الكونية بقوله : “لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، لكن استخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وماهي منكم ببعيد” .
وبهذا المعنى لا مفر من عملية التدافع، سواء كان :على مستوى الفكرة حيث تصطرع المنظومات القيمية سواء الليبرالية او الشيوعية او الإسلامية، او على مستوى التنظيم حيث تصطرع النظم التي تحمل هذه الأفكار سواء كانت أحزابا أو دولا، او على مستوى الأشياء حيث يكون الصراع على البترول أو مصادر الطاقة او أسلحة الدمار الشامل . وهو الامر الذي يجعلنا نميز بين نوعين من التدافع والصراع ،التنافسي بمعنى أن تكون النتيجة النهائية للتدافع بين طرفين متنافسين هي فوز كليهما بشيء من الخيرات او ما يطلق عليه وضعيةwin * win،وتدافع صراعي صفري zero*sum game حيث لا يتقبل كلا الطرفين وجود طرف آخر إطلاقا ويسعى إلى إنهائه تماما، وعدم التفرقة بين النوعين توقع في مطبات قاتلة سيما عندما يعتقد احد الطرفين أن الصراع تنافسي بينما يراه الطرف الآخر صراعا صفريا،وفي القضايا الكبرى ينبغي تحديد نظرة الطرف الآخر للصراع بدقة والابتعاد عن الأماني حتى يمكن تقدير الموقف وعمل الحسابات اللازمة له.
وانطلاقا من هذه الأهمية للصراع والتدافع وخطورة الغفلة عن العوامل التي تؤثر فيه وعدم التفريق بين التنافسي والصفري منه ،اصبحت هندسة التدافع والصراع واتقان المهارات التي تساعد على تسيير المراحل التي تميزهما من فروض الكفاية التي ينبغي ان تضطلع بها فئة مختصة حيث تبدأ بتحديد طبيعة الصراع بناء على عاملين أساسيين هما :الأول كيفية رؤية كافة أطراف الصراع(مكونات وفواعل السوق السياسية)، والثاني هو ميزان القوى بين أطراف الصراع(ترتيب الفواعل حسب قدرات الصراع والتأثير)، فهي إذن عملية تخضع إلى المعطيات على ارض الواقع وموازين القوة بين الأطراف المختلفة، و يمكن التعامل مع التدافع السياسي ضمن إطار نظرية الألعاب (Game Theory)والمباريات المشهورة التي تمثل آلية مهمة لإدارة التدافع السياسي وينبغي على مهندس إدارة الصراع التفنن في تطبيقها،وهو أسلوب يستخدم لدراسة الاستراتيجيات التي يتبناها اطراف الصراع على اعتبار ان الصراع الحالي يتضمن اغلب اشكال الصراع (المعارك- المناظرات- المباريات الصفرية وغير الصفرية ) حيث يمكن استخدام الأسلوب الرياضي لنظرية المباريات لتحليل كل أشكال الصراع التي يتبعها كل طرف للوصول الى أهدافه سواء تعلق الامر بدراسة كيفية رؤية كافة اطراف الصراع لصراع في حد ذاته (رؤية الكلية MACRO) او تعلق الامر بمعرفة وتحديد ميزان القوى بين اطراف الصراع (رؤية تفصيلية MICRO).على اعتبار ان العوامل التي تحدد طبيعة التدافع والصراع هي حاصل جمع الرؤية الكلية (رؤية اطراف الصراع) وميزان القوى بين الأطراف والى اين يميل .
ولا يمكن أن تنجح هندسة التدافع السياسي الا اذا توفرت لها الأدوات التي تساعد على إنجاح وظيفة إدارة الصراع والتدافع السياسي وأتقن مهندس إدارة التدافع المهارات المتعلقة بالتدافع ،فكثيرا ما نستخدم أدوات غير سياسية لتنفيذ مواقف سياسية وهو مطب سياسي ينبغي تجاوزه ،ومن الأدوات الرئيسية لإدارة التدافع والصراع السياسي نقترح العشارية التالية:
اولا : وجود القيادة الراشدة المرشدة :
وتبرز هنا أهمية القيادة التي تقود العملية السياسية، سيما إذا اعتبرنا أن جوهر عملية الصراع هو اختلاف المصالح والرؤى وقوامها عنصر القوة، فهي بامتياز تدافع بين العقول القائدة، على اعتبار ان القائد هو أهم عنصر في الصراع والقائد الذي نقصده هنا هو القائد الذي له رؤية وعنده التزام بالهدف الذي يتحرك من اجله ولديه القدرة على إدارة الآخرين وتوظيفهم لتحقيق الهدف الذي يسعى إليه بما يمتلكه من مهارات قيادية وعلى راسها قدرته على تجسيد ثلاثة وظائف متزامنة وهي:
1. أولا التطوير المستمر بالقراءة والبحوث والنظر والتعلم والتدريب والسياحة ومعرفة التجارب الناجحة عن قرب حتى تستطيع القيادة التفوق على العقول القائدة الداخلة في الصراع،
2. وثانيا خلق ميزة تنافسية للحركة والتي تقول على إيجاد فرصة او قدرة معينة للتغلب على العقبات التي تقف أمام الحركة للوصول إلى أهدافها مقابل المنافسين،
3. وثالثا القدرة على استخدام أدوات القوة وهي ثلاث: المال وما يتعلق به والإقناع وهو القوة الفكرية المنطقية التي تسمح بإقناع طرف ما بان يخضع لرغبة الطرف الموجه للفكرة وعناصر القوة الصلبة، وهذه العناصر الثلاثة تشكل لب أدوات القوة التي تستخدم في الصراع.
ثانيا : القرار والموقف السياسي الراشد :
والقرارات الرشيدة هي تلك القرارات التي تمر بالمراحل التالية :تحديد المشكلة أو الموضوع مثار البحث، تحليل الموقف، تحديد البدائل والتدبر فيها، التفكير في النتائج التي ستترتب على الأخذ بكل من هذه البدائل ودراسة هذه النتائج، الاختيار بين هذه البدائل.
ثالثا : إتقان مهارات إدارة التدافع السياسي حيث يوصي الخبراء القائم بإدارة التدافع بمايلي:
• ينبغي أن تكون طموحا وتخطط لوضع أفضل يتيح لك خيارات أفضل في المستقبل ،لكن في اللحظة الراهنة قرارك ينبغي أن ينطلق من ميزان القوى القائم لا المرغوب والمخطط له .
• تعرف على نقاط ضعف خصمك واستغلها بالحدّ الأقصى ،وركّز ضرباتك عليها، وإن استطعت ضربه في المقتل فلا تتردد، وتجنّب مواجهته في مساحات قوته إلا إذا فرضت عليك المواجهة .
• تجنّب حرق المراحل .. واحذر من التعجّل ،فكر ثم تقدّم ..واعرف أين تضع أقدامك قبل أن تخطو.. “قيس قبل ما تغيص” .وتذكّر أن المعلومات هي طريقك لذلك، فالمعلومة قوة ،و افهم كيف يفكر منافسك ،وتعرّف على تصوراته عنك (كيف ينظر إليك ويراك).
• حافظ على هدفك الاستراتيجي، و إسع لتحقيق إنجازات وأهداف صغيرة تخدم هدفك الاستراتيجي، واستثمرها لرفع معنويات مؤيديك ،وتذكّر أن الإنجازات الكبيرة نتاج لتراكم الإنجازات الصغيرة وأن المواجهات تحسم غالبا بالنقاط وليس بالضربة القاضية ،وهذا يتأتى من إدارة الصراع واتخاذ القرارات بشكل صحيح والاعتماد على معلومات موثقة وتحليل موضوعي ناضج وتقدير موقف دقيق واستراتيجيات وأدوات مناسبة .
• قدّر أوراق قوتك وأوراق قوة منافسك بدقة وموضوعية، بعيدا عن التهويل أو التهوين، كي تتمكن من قراءة ميزان القوى بصورة صحيحة ،وحتى تتخذ قرارات سليمة تتوافق مع ميزان القوى القائم .
• لا تستخدم جميع أوراق قوتك دفعة واحدة ،فتكشفها وتحرقها وتستنزف رصيدك، لكن جدولها، وتدرّج في استخدامها، واحتفظ ببعضها كعنصر مفاجأة، وتذكر أن المدى الزمني للصراعات طويل في الغالب مما يقتضي توسيع نطاق تحالفاتك وصداقاتك قدر المستطاع، ومن لا تستطيع كسب صداقته حيّده ما أمكن ،وتجنّب توسيع دائرة الخصوم والأعداء .
• اعرف متى تنحني للعاصفة ،ومتى تتصدى لمواجهتها بكل عنفوان حيث” يستحيل الوقوف في هذا العالم دون انحناء أحيانا“ ،تراجع خطوة للخلف حيث يكون ذلك ضروريا ولكن خطط كيف تتقدم بعد ذلك خطوتين، فالانسحاب الجيد خير من المقاومة السيئة“.
• أدر تحالفاتك بذكاء ،وتجنّب أن تتحول إلى ورقة في يد حلفاء أقوى، فتخسر استقلاليتك ،وتضيّق هوامش مناورتك ،وتصبح ورقة في يد آخرين، وتذكّر أن التحالفات ينبغي أن تفيدك وتكسبك ورقة قوة ،لا أن تقيّدك وتضعفك و لا ترفض فكرة تبادل المصالح وتقاطعها، فهو الأساس في العلاقات السياسية، و اسع لإقناع الآخر الذي تتقاطع مصالحك معه بأنه يجني مكاسب كبيرة من تبادل المصالح معك ،وأوهمه بأنه المستفيد الأكبر من العلاقة.
• وسّع دائرة خياراتك وبدائلك ولا تضيقها ،تجنّب أن تحصر نفسك في خيار واحد أو احتمال واحد أو مسار واحد أو هدف واحد أو أداة واحدة لإدارة الصراع. وتجنّب الإسراف في إطلاق الوعود فقد تكسب آنيا لكن الوعود قد تنقلب ضدك .
• خصص نسبة مهمة من ميزانيتك وإمكاناتك لأداة وسلاح الإعلام والدعاية والحرب النفسية، وتذكر أن ذلك يساعدك على :امتلاك ورقة قوة مهمة للغاية .وعلى رفع معنويات أفرادك ومؤيديك.
• تجنب منطق “معركة حياة أو موت” ومنطق شمشون ”علي وعلى أعدائي“.و لا تخلط بين السياسات المتغيرة وفقا للظروف والمعطيات، وبين الثوابت والمبادئ ،فتضيق على نفسك واسعا،وحين تضطر لمخالفتها تبدو كأنك تتخلى عن مبادئك وثوابتك .
• احرص على إحاطة نفسك بالمساعدين الأقوياء حتى لو أتعبوك ،فالأتباع والمؤيدون والمصفقون لن يضيفوا لك شيئا، ولن يصدقوك النصح، كما لن ينبهوك إلى الأخطار والمزالق، ولن يرشّدوا قرارك.
• لا تتعجل إنهاء الصراع إذا لم تكن النتائج لصالحك،فبقاء الصراع مفتوحا أفضل لك من حسمه ضد مصالحك.
• باستمرار اطرح سؤال:هل يعمل عامل الوقت لصالحك أم ضدك؟
• إحرص على تحقيق النتائج وقطف الثمار، فليس مهما كم تعمل وتبذل من الجهد، بل المهم كما تحصد من النتائج .
• ركز على فعلك الذاتي: فهو الذي تتحكم به ويخضع لسيطرتك وتستطيع من خلاله تقييم أدائك وتطويره.
رابعا : إتقان استخدام الاستراتيجيات وتوزيع الأدوار: وتبرز هناك عدة استراتيجيات لإدارة الصراع الداخلي أو الخارجي نوجزها فيما يلي : 1.إستراتيجية استخدام القوة و/ أو السلطة (الإخماد)، 2. إستراتيجية التلطيف، 3. إستراتيجية التجنب، 4. إستراتيجية التسوية، 5. إستراتيجية تدخل جهة أو طرف ثالث، 6. إستراتيجية الانضمام، 7. إستراتيجية العملية الديمقراطية، 8. إستراتيجية تبادل الوظائف والأدوار، 9. إستراتيجية التعاون، 10. إستراتيجية المجابهة، 11. إستراتيجية توسيع الأهداف .
خامسا: إدارة علاقات عامة ومعلومات فعالة .
سادسا : انتشار واسع وتنوع في النخب والفئات والديموغرافيا.
سابعا : خطة للاستهداف الجغرافي والديمغرافي .
ثامنا : الجمع بين متغير الناخب الصوت والناخب الصوط(80/20).
تاسعا : اتقان ادارة وتسيير الموقع في ميزان القوى .
عاشرا : ادارة وتسيير الاختلاف والحوار القيادي بصناعة الوحدة الافقية والعمودية.
سنعود الى شرح النقاط الست الأخيرة في الحلقات القادمة ان شاء الله .
تعليقات الزوار ( 0 )