عضو المكتب التنفيذي الوطني أ. ناصر حمدادوش يكتب: ما بعد الجماعات التقليدية.
هناك حقيقةٌ تاريخيةٌ تنطق بوجود الجماعات الدينية والتنظيمات المذهبية والفلسفية والكلامية عبر التاريخ الإسلامي، كظاهرةٍ صحية في ظل الحضارة الإسلامية السمحة، وذلك ضمن التعددية الإسلامية التي تنتمي إلى دائرة: الاختلاف في الفروع الفقهية والفكرية لا في الأصول الدينية والعَقدية. وإذا كان ذلك جائزا في ظلِّ الخلافة الإسلامية وممكنٌ في زمن تطبيق الشريعة، فإنَّ مبرِّرات وجودها بعد سقوط الخلافة وتعطيل الشريعة الإسلامية من بابٍ أولى، بعدما تخلَّت الأنظمة المعاصرة عن خدمة الدِّين والالتزام به، وهو ما دفع بهذه الجماعات الإسلامية إلى العمل على عودة الإسلام من أجل الاستئناف الحضاري للأمَّة من جديد.
ومع عدم اختلافنا على الأهمية الاستراتيجية “للتنظيم” كأحد أهمِّ أسباب النَّجاح في المشروع الحضاري، والذي يتطلب التخطيط الواعي والبصيرة النَّافذة، كما قال تعالى: “… أَدْعُو إلى الله على بصيرة..” (يوسف:108)، ومع عدم إنكارنا للدور الاستراتيجي الذي قامت به هذه الجماعات في مئوية الصَّحوة في الحفاظ على القيم الإسلامية وترسيخ الهوية الدينية وعودة الشعوب إلى جذورها التاريخية والاعتزاز بأبعادها الحضارية، فإنَّ ذلك لا يعفينا من التقييم والتقويم والتصويب من باب التجديد والتطوير لا من باب الترف الفكري وجلد الذات، وهو ما يجعلنا نقف على ثغراتٍ أصبحت خطيرةً في جسم هذه الجماعات التقليدية. 1) أزمة القيادة والمناهج التقليدية: لابدَّ أن نعترف بأنَّ واضعي المناهج التربوية والتكوينية لهذه الجماعات هم: “شيوخ دين”، الذين كان اعتمادهم على “التلقين والحِفظ والوَعظ” أكثر من اعتمادهم على “التفكير السياسي والتخطيط الإداري والنقد الموضوعي”، وأنَّ الذين ينظّرون لها هم “رجال التنظيم” وليس “رجال الاستراتيجيا”، وقد أصبحت هذه المناهجُ تقليديةً ومتواضعةً أمام هذا الكمِّ الهائل من التطوُّر الفكري والعلمي والتكنولوجي، مع صعوبة تحرُّر المنظومة الفكرية من قبضة الاعتبارات التنظيمية، فغلب “العقل السُّكوني الإجرائي التشغيلي” على “العقل التأمُّلي التَّجديدي النَّقدي”، وهو ما يستدعي تأسيس العقل المفكِّر لها، الذي لا يغرق في الأعمال الظرفية وردود الأفعال الآنية، بل يتطلَّع إلى نقلات نوعية بالإعداد الكامل، واستشراف سيناريوهات مستقبلية بالتدريب العلمي، وإدارة الصِّراعات المصيرية والتدافعات الوجودية بالتأهيل القيادي.
2) إشكالية البيعة التنظيمية والبيعة السِّياسية: هناك خياراتٌ فقهية لبعض الجماعات الإسلامية بأنَّ البيعة لا تكون إلاَّ سياسيةً لوليِّ الأمر، وذلك خوفًا من قوله صلى الله عليه وسلَّم: “إذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فاقْتُلُوا الآخِرَ منهما”، تحرُّزًا من شقِّ عصَا الطاعة ومفارقة الجماعة وإحداث الفُرقة بين الأمة. إلاَّ أنه هناك خياراتٌ فقهية لجماعاتٍ إسلاميةٍ أخرى ترَى جواز تعدُّد البيعة، والجمع بين البيعة السياسية في الدولة لوليِّ الأمر وبين البيعة التنظيمية في الجماعة لقيادة التنظيم. وتكون هذه البيعة أكثر حرجًا في التنظيمات الأممية الدولية العابرة للحدود، والتي تطرح إشكالية سيادة الدول والدساتير والقوانين، وتتعارض مع استقلالية قرار التنظيمات القُطْرِية. وتزداد هذه الإشكالية عندما تكون من الطابوهات المحرَّمة ضمن عناصر السِّرية دون مصارحة الشُّعوب بها، ويزداد هذا الحرج أكثر عندما تكون معيارية ضمن التنظيمات السِّياسية والحزبية، وهي التي تنشد الانفتاح والانتشار، وتسعى للوصول إلى الدولة عبر الإرادة الشعبية، وهو ما يستدعي مراجعة هذه البيعة وما يترتَّب عنها من شروط العضوية وتولِّي مسؤوليات القيادة – وخاصة في الحزب السياسي – بالتأصيل الشرعي والتقعيد القانوني لها.
3) هاجس السِّرية: لقد سيطر على هذه الجماعات هاجس السِّرية وثقافة المحنة ومخلَّفات الأزمة، وإذا كان ذلك مبَرَّرًا في زمن الآحادية بسبب غلق الأنظمة الشمولية والاستبدادية لفضاء التعددية السياسية والجمعوية والإعلامية فإنَّ خلود هاجس السِّرية “ثقافةً وسلوكًا” عند هذه الجماعات يشكِّل خطرًا وجوديًّا عليها، إذ تهزُّ عنصر الثقة بينها وبين الشعوب، وتجعلها في حالات صراعٍ وجودي بينها وبين الأجهزة الأمنية والمؤسَّسات الرَّسمية للدولة، ولن يكون لها سبيلٌ بعد ذلك في الوصول إلى الدولة وصناعة النهضة وبناء الحضارة. وهي – فوق ذلك – على خلاف الهدي النبوي الشَّريف، الذي كان من أهمِّ ميزاته: الجهرية لا السِّريَّة، إذْ كانت السرية مرحلةً مكِّيةً استثنائيةً ومؤقتة بـ: 03 سنوات فقط، وقد انتهت بقوله تعالى: “فاصْدَعْ بما تُؤمَر..” (الحجر:94)، فانطلقت مسيرة الإسلام للعالمين جميعًا، في رابعة النَّهار: تحت الشَّمس وفي دائرة الضَّوء، بعيدًا عن دهاليز التنظيمات السِّرية التي أخطأت في الفهم والعمل بحديث: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان والسِّر”، فاعتبرت السرِّية أصلاً والعلانية فرعًا، بلسان الحال أو بلسان المقال.
4) عقدة التمركز على الذَّات والتعصُّب في الوَلاء: فمع جواز العمل الجماعي المنظم في قوله تعالى: “ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..”(آل عمران:104)، إلا أن هناك آفات يجب الانتباه إليها وعدم الوقوع فيها، ومنها: خطر الانعزال عن الأمَّة والتعصُّب في الولاء والبراء، وذلك بقياس درجة القربِ والبعد والحبِّ والبغض في العلاقة بين مكوِّنات الشَّعب الواحد على أساس الانتماء، والله تعالى يقول: “إنَّما المؤمنون إخوة..” (الحجرات:10) – كلَّ المؤمنين – بدون تمييزٍ على أساسٍ فكري أو إيديولوجي أو تنظيمي، فتحوَّل الإسلام الفسيح عند بعض الجماعات إلى “جماعةٍ تنظيمية” منغلقة ومتعصِّبة، وتحوَّلت “الدعوة الإسلامية” كفكرةٍ إسلاميةٍ صميمةٍ وناصعةٍ للعالمين جميعًا إلى مذهبٍ فكريٍّ خاصٍ، بفهمٍ بشري للإسلام وبفكرٍ إيديولوجي خاصٍّ بالتنظيم، وبدل أن تكون قيادة النَّاس ودلالتهم على “الله تعالى” هي الغاية الكبرى من الوجود التنظيمي، أصبح الانخراط في الجماعة والارتقاء في السُّلَّم التنظيمي لها هو مبلغُ علمِ وعملِ المنتسبين لها، وبدل أن يكون التنظيم في خدمة المشروع الإسلامي تحوَّل هذا المشروع في يد هذه الجماعات إلى أداةٍ للاستقطاب والصِّراع مع الآخرين، فتحوَّل التنظيم إلى حجابٍ كثيفٍ بينه وبين الشَّعب، بل هناك من هذه الجماعات مَن اعتبرت نفسها هي الفرقة الناجية في الحديث الأشهر: “.. وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلّها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة..”، وهناك منها مَن وقعت في مقولات “الاستعلاء الإيماني” و”العزلة الشعورية” فتميَّزت عن الأمَّة بذلك الغرور في احتكار الدِّين وامتلاك الحقيقة، وهناك مَن اعتبرت نفسها هي “جماعة المسلمين” المقصودة في حديث: “أنْ تلزَم جماعةَ المسلمين وإمامهم”، وكلُّ ذلك تعصُّبٌ خطيرٌ وانحرافٌ مدمِّر.
5) مشكلة التنظيم الشُّمولي: لقد نادى فقهاؤنا قديمًا بضرورة الذهاب إلى ما بعد المذاهب، نتيجةً للانغلاق المذهبي والتعصُّب الفقهي الضيِّق، والذي حجب عن النَّاس سماحة الإسلام وبساطة فطرته.
ونحن اليوم ننادي إلى ما بعد التنظيمات الشُّمولية المغلقة والإيديولوجيات الضيِّقة، والتي عطَّلت الوظائف وقتلت الفاعلية ومنعت الانتشار ووقفت حاجزًا أمام الوصول إلى النَّاس جميعًا.
فالتنظيماتُ هي مجرد وسائل وليست غايات، ومن الخطر تحوُّلها إلى آلهةٍ تُعبد من دون الله، ويصبِح شيوخُها وقادتُها كهَنةً لهذا المعبد التنظيمي الذي يأبى التجديد والتطوير.
وإذا كان العالم يشهد تطوُّراتٍ متسارعةً ودقيقةً نحو “التخصُّص”، وأنَّ المنطق الديمقراطي يفرض التخلُّص من “الأنظمة الشُّمولية”، فإنه يجب على هذه الجماعات التقليدية – وخاصة الحَرَكية والسياسية منها – التكيُّف من أجل الذهاب إلى “ما بعد التنظيمات الشُّمولية” كنوعٍ من المراجعات العميقة لإدارة الوظائف الأساسية لهذه الجماعات: بين الخط السياسي للوظيفة الفكرية والسياسية للحزب عبر قانون الأحزاب على مستوى خطِّ السُّلطة والتمكين له في الدولة، وبين الخطِّ الاستراتيجي للوظيفة الاجتماعية والمجتمعية للمؤسسات المتخصصة عبر قانون الجمعيات على مستوى خطِّ المجتمع والتمكين للدِّين والقيم على مستوى الشَّعب. وإذا كان هذا التوجُّه يثير حفيظة البعض، لالتباس هذا التحوُّل الاستراتيجي بالخلفيات الفلسفية لللائكية والعلمانية، فإننا بحاجةٍ إلى الطمأنة عندنا في الجزائر بالتأكيد على “المرجعية الإسلامية” للحزب السياسي المدني، وفق الدستور الذي ينصُّ على أنَّ “دين الدولة هو الإسلام”، ووفق بيان أوَّل نوفمبر الذي ينص أنَّ مشروع الدولة يجب أن يكون ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وهو ما يطفئ نار “الحرب الصَّامتة” بين “هذا التوجُّه التجديدي” لهذه الجماعات وبين “اتباع المدرسة التقليدية ” فيها، والذين يستبطنون الخوف من فَقْدِ البُعد الهوياتي لها
تعليق