مرَّت علينا الذكرى الـ: 65 لنكسة 05 جوان 1967م، وهي من المنعطفات التاريخية والتحوُّلات المفصلية التي هزَّت الأمَّة هزًّا عنيفًا ومزلزِلاً في العصر الحديث، فهي من أقسى الهزائم التي تعرَّضت لها في صراعها الوجودي مع العدوِّ الصُّهيوني، والذي حسم الحرب في 06 أيام على عدَّة جبهات لتبرير توسيع حدود الدَّولة اليهودية، فاحتلَّ بموجبها: الضفَّة الغربية وقطاع غزَّة (بفلسطين)، وهضبة الجولان (بسوريا)، وصحراء سيناء (بمصر).
وبالرَّغم من خطورة هذا التهديد الصُّهيوني إلاَّ أنَّ آثارَه لا تزال ممتدَّةً في المصير العربي إلى الآن، وأنَّ معالجاته لا تزال مؤجَّلةً إلى حين.
ومن أخطر تلك الآثار ما تركته على مستوى الأمن الفكري والثقافي بالنسبة للعقل العربي الإسلامي المعاصر، فكان من أدقِّ تلك الصَّدمات ما سُمِّي بالصَّدمة الحضارية أو صدمة الحداثة المتجدِّدة.
ونتيجةً للمبالغة في “جلد الذَّات” وردَّةِ الفعل الآنية فقد ارتفعت أصواتٌ جريئةٌ تطالب بالمراجعات العميقة والمساءلات الجذرية للموروث التاريخي والدِّيني للمنطقة كلِّها، والتي استهدفت الإسلام أساسًا، وكأنه المسؤول عن هزائم الأمَّة.
فقد ظهرت مشاريعٌ فكريةٌ تهدف إلى القراءة النقدية للنصِّ القرآني والنبوي بدعوى التَّجديد والعقلنة، وكان من أبرز هذه التِّيارات: الاتجاه الحداثي العربي الذِّي تبنَّى نقد النَّص الدِّيني كأحد أولوياته الفكرية، ومع أنَّه لا يرى الدِّين مكوِّنًا حضاريًّا ورئيسيًّا للأمة إلاَّ أنه يدَّعي بأنَّ المنظومة التُّراثية تشكِّل عائقًا أمام الفهم الصَّحيح للإسلام، فدَعَا إلى حتمية الاستعانة بالمناهج الغربية للوصول إلى فهمٍ يتماشى مع روح العصر ومتطلَّبات الواقع، وإخراج الأمَّة من هذه الأزمة.
وقد انطلق الحداثيون العرب من مقدِّماتٍ وأحكامٍ مسبقة، وهي أنَّ الإسلام والتراث الإسلامي ضدَّ التطوُّر والإبداع والتجديد والابتكار، وأنه لحظةٌ زمنيةٌ جامدةٌ على القديم، متناسين بأنَّ من أسرار عظمة الإسلام أنه فكرةٌ حيَّةٌ ومنهجٌ خالدٌ، وأنه يخضع لحتمية التجديد على رأس كلِّ مائة سنة، ما جعله أقدرَ على التكيُّف مع مشكلات البشرية، وأنَّ ذلك من أسرار الحضارة الإسلامية الأطول في تاريخ الإنسانية، والتي كانت من أبرز تمثُّلات النصِّ الإسلامي عبر حيوية الاجتهاد في شتى المجالات الموصولة بالكون والإنسان والحياة..
* الحداثيون والمعارك الوهمية:
اصطنع هؤلاء الحداثيون معركةً وهميةً بين الإسلام والحداثة، والتي يُراد لها أن تكون مواجهةً شاملةً تمتدُّ لتصل إلى الأصول والثوابت والمقدَّسات، غير متوقِّفةٍ عند حدود نقدِ الخطاب الديني وتأويل النَّص المقدَّس.
وقد كشف المفكر الأمريكي – الياباني الأصل “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “الإسلام والحداثة والربيع العربي” عن حقيقة هذه المعركة الشَّرسة عندما قال: “والتطوُّر الثاني والأكثر أهميةً: يجب أن يأتي من داخل الإسلام نفسِه، فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرِّر ما إذا كان سيعقِد سِلمًا مع الحداثة، وبشكلٍ أخصٍّ مع المبدأ الرئيس للدولة العلمانية والتسامح الديني..”، ثم كان أكثر وضوحًا وصراحةً بالاعتقاد بأنَّ صلب الحداثة هي صراعٌ مريرٌ ضدَّ الإسلام، فيقول: “يجب ألاَّ نخدع أنفسنا، فإنَّ تحديث الإسلام من الصَّعب حدوثُه في وقتٍ قريب، وذلك لن يحدث دون صراعٍ هائل. هناك العديد من العوائق المتجذِّرة عميقًا في المجتمع الإسلامي، وليس أقلُّها فقدان تقاليد السِّياسة العلمانية الملاحَظة غالبًا..”.
لقد أدرك الفكر الحداثي أنَّ مشكلة توطين الحداثة والعلمانية في العالم العربي والإسلامي تكمُن في صلابة الأصول التي حُفظ بها الإسلام، وهي: القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة فاتَّجه إليهما رأسًا للتشكيك فيهما وهزِّ ثقة الإنسان بهما، وكان منطلقه الأساسي هو تقديس سلطة العقل وزعزعة قداسة النَّص، وهو منطلقٌ ساذجٌ لانبهار رموز الحداثة العربية بعقلانية الحداثة الغربية، مع أنَّ هذه العقلانية الغربية ما هي إلاَّ تلميذٌ للعقلانية الإسلامية، فهذا الدكتور “محمد أركون” نفسُه يعترف في كتابه “أين هو الفكر الإسلامي المعاصر”، فيقول: “واكتشفت أنَّ هؤلاء الغربيين هم الذين تلقُّوا منذ القرن السادس عشر تلك الجدلية العقلية التي تمثَّلت وأنتجت ما أنتجت عند أولئك المسلمين.”.
وهو ما يضعنا أمام مقاربةٍ جديدةٍ في مراجعة مفهوم “الحداثة”، والذي يجب إخراجُه من عباءة التداول السِّلبي والتعسُّف في الاستعمال الدلالي له، وخاصة في سياق معاداة الدِّين، وهو المصطلح الذي لم يعرف الاستقرار حتى في التداول الغربي نفسِه، فمن تعريفات “الحداثة” غير المتناهية: “النهوض بأسباب العقل والتقدُّم والتحرُّر”، و”ممارسة السيادات الثلاث عن طريق التقنية والعلم: السيادة على الطبيعة وعلى المجتمع وعلى الذات”، و”قطع الصِّلة بالتراث”، و”طلب الجديد”، و”محو القدسية عن العالم”، و”العقلنة”، و”قطع الصِّلة بالدِّين”.
ونتيجةً للتردُّد والتعدُّد في المفاهيم اللانهائية للحداثة، قيل أنها: “المشروع الذي لم يكتمل”، فيؤكِّد الحداثيون الغربيون على أخصِّ خصائص الحداثة، وهي: الثورة على كلِّ ما هو قديمٌ وثابت، والتمرُّد على كلِّ العقائد والأفكار والقيم السابقة، فهي ثورةٌ على الماضي وعلى الواقع، وهي موقفٌ معارضٌ لكلِّ الحضارات القائمة على الهوية والثوابت.
* تأليه الحداثة وتسفيه التراث:
الملاحظ أنه هناك تهويلٌ لهذه “الحداثة” وكأنها كائنٌ تاريخيٌّ متألِّه، مع أنها مجرَّد هروبٍ من التصوُّر العقلي إلى تشييءٍ وَهْميٍّ، فهناك بونٌ شاسعٌ بين “واقع الحداثة” و”روح الحداثة” كما يقول الدكتور “طه عبد الرحمان” في كتابه “روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية”.
وقد ارتبطت مبادئ الحداثة الغربية بالفصل بين الدِّين والحياة، وبين الدِّين والدولة، وبين الدِّين والعقل، وبين الدِّين والأخلاق، وبين السِّياسة والأخلاق، وهي صحيحةٌ – إلى حدٍّ ما – بالنسبة إلى الدِّين المسيحي أو اليهودي المحرَّف، إلاَّ أنَّ هذه المبادئ لا تصلح بالضَّرورة مع الدِّين الإسلامي الصحيح المعصوم والخالد.
ومن أخصِّ خصائص روح الحداثة ومبادئها الأصلية “مبدأ الرُّشد”، وهو الخروج من حالة القصور (اختيار التبعية والتقليد للغير)، وهذه التبعية أنواع، منها: التبعية الطوعية (تسليم التفكير للغير)، والتبعية الاستنساخية (نقل مناهج وطرائق الغير في التفكير والواقع)، والتبعية الآلية (التماهي الكلِّي مع الغير)، وهو ما يجعل “الحداثة العربية” تلميذًا غبيًّا “للحداثة الغربية”، وهي مخلوقٌ مشوَّهٌ ومتطرِّفٌ، إذ يُخرِج المفهوم الشائع للحداثة العربية عن روح الحداثة نفسِها، ويضعها في صلب معاداة أدبياتها الحقيقية، إذ تجد نفسها في حُضْن المفهوم السِّياسي والاقتصادي للعولمة الليبرالية المتوحِّشة، فتكون مجرد سندٍ تبريري للاستبداد والاحتلال باسم الحرِّية والديمقراطية كما حدث في الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان.
ونتيجةً لهشاشة “الأمن الثقافي” العربي فقد تعرَّضنا إلى هيمنة هذه المصطلحات بمضامينها الفلسفية والعقدية الغربية، مما أضعف دفاعاتنا الفكرية وتسبَّب في أزماتٍ لعقولنا الاستهلاكية، بالرَّغم من توافر المفاهيم الذاتية والأصيلة لمثل هذه المصطلحات، إذْ أنَّها ليست غريبة عن التداول العربي قبل غزوها بهذه المضامين الغربية، وفرض هيمنتها في الاستعمال المعرفي، وكأنَّها مرجعٌ تعريفيٌّ حصريٌّ لها.
إنَّ تعطُّل التجديد الفكري والإنتاج المعرفي للأمَّة نتيجةَ القابلية للاستعمار منذ القرن التاسع عشر، والسُّقوط الحضاري مطلع القرن العشرين (وتحديدًا سنة 1924م)، و”نكبة 1948م” و”نكسة 1967م” هو ما فرض “الحداثة” و”العلمانية” الغربية كإيديولوجيةٍ صادمةٍ للمرجعية الإسلامية، فتلقَّفها التيار الحداثي العلماني العربي – باستسلامٍ تامٍّ – كطوقِ نجاةٍ من حالة الضَّياع التي تعاني منها الأمَّة في هذا السِّياق التاريخي المعاصر، ويرى بأنها تجيب عن إشكالات الأزمة وأسئلة النهضة، ولن يكون ذلك بزعمه إلاَّ بالقطيعة مع التراث والدِّين، مع أنَّ “الحداثة” أصبحت واقعًا غربيًّا قد تحقَّق، بينما نحن لا زلنا نتوق – بنزعةٍ حادَّةٍ – إلى واقعٍ لم يتحقَّق، بالرَّغم من شراسة هذا “الفكر الحداثي العلماني” في واقعنا العربي، بما يمتلكه من أدواتٍ معرفية وإمكاناتٍ مادية ونفوذٍ فوقي ووَصايةٍ رسمية ودعمٍ خارجي، حتى أصبح تيارًا تتبنَّى أنظمتُنا الحاكمة حمولاتِه الفلسفية والإيديولوجية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، ومع ذلك لم يحقِّق مضامين تلك الحداثة منذ الاستقلال، وبقيت شعاراتٌ فارغة لا نعرف منها إلاَّ “معاداة الدِّين”.