نص الأصل الثاني : التطبيق الذكي لنظرية اغتنام الفرص ورفض ثقافة الكرسي الشاغر ،والكرسي الشاغر هنا لا يعني بالضرورة قبول عروض الأنظمة مهما كانت تكلفتها،بل نقصد عدم إعطاء فرصة للتغييب والتهميش،ومالايمكن ضمانه بالوسيلة السياسية قد يكون متاحا بفضاء مجتمعي ،وقد يسع الفرد مالا يسع الجماعة، فالسياسة هي فن وفقه الممكن وليست إرادة تحقيق الكل أو اللاشيئ،فهي تراكمية الإنجاز لايتحقق فيها النصر بالضربة القاضية بل بالنقاط في كل جولة ،وصولة الحق التي نملكها ونتقنها لا تغني عن ضرورة قطع مسيرة التغيير خطوة خطوة فالقفز العالي على الحقائق قد يقود الى الرجوع الى نقطة الانطلاق أو يرمي في اتجاه الفراغ والمجهول .
تعتمد الأحزاب والجماعات على قدرات مناضليها الذين تحولهم بأساليب التكوين والتدريب إلى قيادات مجتمعية يساهمون في تعميم أفكار ومواقف الحزب في أوساط المواطنين ويحدثون التأثير المطلوب في الوقت المناسب في علاقة تفاعلية يومية بين القيادة المركزية والمناضلين في كل نقطة من ربوع الوطن ،حيث ينتظم كل هؤلاء من خلال لوائح وقوانين أساسية وداخلية تضبط إيقاع الجميع وتنظم العلاقات وتحدد المهام والصلاحيات التي تختلف طبعا من حركة وجماعة إلى أخرى حسب متغير الشرعية والمشروعية التي تحتكم إليها الحركات الاجتماعية على اختلاف ألوانها ومشاربها ،لكنها تكاد تجمع على أهمية الفرد في سيرورة أي حركة سياسية واجتماعية تمتلك رؤية وسياسات ،فالحركات ذات الشرعية التقليدية والتي تعتمد على الدين أو القيم أو التقاليد حيث يكون دور الفرد فيها تابعا ومطيعا ولا يملك من أمره شيئا في سياق تحقيق أهداف القبيلة أو الجماعة أو الطائفة ،وتتحدد قيمته و أهميته حسب درجة قربه أو بعده عن القيادة سواء كان قرب عائلي أو سياسي ،والحركات والجماعات ذات الشرعية القانونية العقلانية يحتكم فيها الأفراد إلى القانون أو العقد الاجتماعي الذي يجمعهم حيث يسلمون أنفسهم وحقوقهم إلى قيادة تنبثق من تصويتهم ورأيهم الدوري وفق برنامج وسياسة معلنة هدفها تحقيق أهداف الأفراد الذين ينضوون تحت غطائها ،وحركات ذات شرعية تعتمد على كاريزما القيادة سواء كانت ثورية أو دينية تنصهر فيها جموع الأفراد في إرادة وموقف وقرار القائد الزعيم الملهم الذي يغذي الأنصار بمواقفه وبطولاته ورؤيته إلى حل المشكلات و لا يكاد يكون للأفراد هنا أي دور سوى الهتاف باسم الزعيم ورفع صوره وذكر مناقبه .
ومنذ زمن ليس بالقليل اختلفت مقاربات تعامل الجماعات مع الأفراد سواء في المدرسة الغربية التي انقسمت مابين ماكس فيبر الذي يعتبر أن وحدة التحليل الرئيسية للمجتمع، هي الفرد ويعتبره وفعله هو الوحدة الرئيسية أو الذرة، فالفرد هو الشيء الوحيد الذي لديه سلوك له معنى، أما المفهومات الأخرى مثل الدولة أو الجماعة أو الرابطة أو الإقطاع فإنها تدل على إرادة فئات تحد من التفاعل البشري ، فالإنسان عند فيبر هو كائن واعي وفاعل وليس مفعولا به له قدرة على التأثير، انه فاعل اجتماعي فهو يساهم في صنع المجتمع فهو إذن ليس فقط فردا أو كما مهملا يخضع للفعل الذي أسسه المجتمع قبل أن يكون للفرد أي تأثير حيث تجد الفرد حسب دوركايم ينطق بلغة المجتمع لم يختارها ويدين بدين المجتمع ولم يختاره ويؤدي اغلب الطقوس الاجتماعية التي يفرضها المجتمع .
لتأت المقاربة الإسلامية لتحدث التوازن بين أهمية الفرد والمجتمع في صورة بديعة لعلاقة الفرد بمجتمعه ،فالقرآن لا يدين الانتماء إلى جماعة بل اعتمد في خطابه على صيغة الجمع لكنه يحمل الفرد مسؤولية أفعاله ، و يدين تخلي الإنسان عن كرامته وإيثاره العبودية على الحرية وتسليم عقله للسادة والكبراء والأحبار والرهبان وخوضه مع الخائضين وجبنه عن إتباع الحق إن خالف أهواء قومه وسادته، فإذا تحرر عقل الإنسان فلا ضير من الانتماء إلى أي جماعة بهدف التعاون على الخير والبر والتقوى،انتماء يتميز ببعد روحي وجداني يتمثل في محبة إخوة الإيمان ودعاة الخير واستشعار الرابطة القلبية التي تجمعه بهم، دون أن يعني ذلك التبعية والتعصب الاعمى أو فقدان الاستقلال الفكري لأنه يتعلق بالجانب العاطفي وليس بالجانب الفكري، والبعد الثاني يتمثل في البحث عن صيغ تنظيمية للتعاون في الخير وتنسيق الجهود بين شركاء الفكرة لنصرتها ومواجهة اجتماع الأعداء بوسائل مكافئة، والانتماء بهذين البعدين لا يطمس هوية الفرد، وهو مختلف عن دلالة الانتماء إلى الأحزاب الشمولية التي تسعى إلى إعادة صياغة عناصرها كلياً ليوافقواها في كافة تفاصيل حياتهم فتلغى أي مساحة لإظهار تفردهم.
والرؤية المتوازنة بين العمل الفردي والعمل الجماعي هي أن العمل الجماعي عمل منظم مرتب، يوفق بين الإمكانيات، ويوحد بين الجهود، ويستفيد من كل الطاقات، وينجز ما لا يمكن للفرد أن ينجزه مفرداً، ويبسط المجال للتنافس الشريف بين الأفراد، بما يصب جميعه في صالح المجموع.
كما أن العمل الفردي يتيح المجال للإبداع والابتكار نظراً لتحرر صاحبه من القيود والمعوقات التي ربما تضعها سياسة المؤسسة أو لوائحها المنظمة التي قد تحد من حريات الأفراد أو بالأحرى تضبطها ،وربما يفشل في احتواء اختلاف الآراء والميول داخله، وربما يعجز عن توظيف كل الطاقات والمواهب لدى أفراده، فضلاً عن أنه يرغم أفراده على تبني رأي المجموع وإن خالف رأيه فيكون ضعيف المصداقية لدى من يعرفونه جيداً، ويعيش حالة ازدواجية الرأي الخاص والرأي الرسمي كثيراً.وربما يكون من أخطر عيوب العمل الجماعي هو محاولاته الدائمة إلى قولبة أفراده بقوالب متشابهة، إن لم تكن نسخاً مكررة، من الفرد النموذج الذي يبتغيه ويسعى إليه، حتى يحقق أهدافه دون عوائق داخلية.
فعندما ترعى القيادة هذا التوازن بين عمل الأفراد وعمل الجماعة أو الحزب بمختلف أساليب إحداث هذا التوازن سواء على المستوى التربوي والتكويني والفكري أو على مستوى الفضاءات التي تستوعب المبادرات والأفكار الجديدة وتوفر الرعاية للموهوبين وأهل التحليل والذكاء والتفكير خارج الصندوق فمصلحة الجماعة في تجددها وليس في جمودها، وهذا ما يؤكد قيمة الفردية، فالأفراد هم حملة لواء التجديد، لأنهم أجرأ على مغادرة مواقع الاستقرار وأسبق في ملاحظة مواطن الخلل في المنظومة القائمة، وهم أكثر مرونةً في قبول الأفكار الجديدة، أما الجماعة فتتسم حركتها بالبطء وتخشى التغيير وتميل إلى تأكيد وجودها بدل تجديده.
ويمكن أن نؤكد هنا أن الفردية ليست بديلاً عن الجماعة وليست دعوةً إلى قطع أواصر العلاقة مع المجتمع، إنما يقصد بالفردية حماية كينونة الأفراد من الطمس، وإطلاق حريتهم الداخلية، فإذا استطاع الفرد تحقيق ذاته والتصالح مع قناعاته أنشأ علاقةً إيجابيةً مع المجموع ليفيد برؤاه ويستفيد من رؤى الآخرين، لكنها علاقة قائمة بين كيانات مكتملة وليس علاقة تبعية عمياء، وحين يتحرر الفرد داخلياً ويؤمن بذاته سيكون أكثر إيجابيةً وإبداعاً في العمل الجماعي لأن من يفكر باستقلال وحده الذي يستطيع المثابرة والإبداع و توليد أفكار جديدة تنفع الناس.
ومن هذا المنطلق الذي يوفر فرصا كبيرة لامتلاك المجتمع بكل مكوناته البشرية وقواه الحية عناصر القوى في كل مجالات الحياة التي نرغب في تغييرها وهي لبنات أساسية في إستراتيجية المقاومة السياسية المدنية فكل مكان يجب أن يشغله مناضلوا التغيير السلمي الجاد والمنسجم في إطار رؤية متكاملة ، تجعل منه منصة لصناعة الفرق في الكفاءة والفاعلية والتأثير ، وهو معنى سياسي عميق في الممارسة العامة ونحن في جبهة التدافع والتنافس السياسي ، الذي يستخدم كل أساليب التأثير في الحياة العامة وما لا يمكن تحقيقه باسم الرمزية السياسية يمكن تحقيق جزء منه في سياق ثقافة مبنية على قاعدة (يسع الفرد ما لا يسع الجماعة ) وهي قاعدة يمكن تفريعها إلى منصات وتعميمها على عتبات متجددة لصناعة التغيير والإصلاح في سياق ماهو سياسي وماهو استراتيجي وماهو حضاري ،وهو ما يتطلب مقتضيات ومهارات قيادية لها القدرة على توظيف كل الموارد البشرية المتاحة لديها كل في مكانه الذي يحدث فيه التأثير ويقود إلى التغيير ، والمسؤولية تنقسم بين الفرد والقيادة لكن مسؤولية القيادة تكون اكبر من مسؤولية الفرد على اعتبار أن عملية التوصيف والتصنيف والتوظيف هي مهمة قيادية بامتياز ،فالقيادة تتعامل مع أصناف كثيرة من الأفراد في اجتماع واحد فكيف بمجموع الأفراد الذي يشتكون باستمرار من التهميش والإقصاء وعدم التقدير للقدرات وسوء تسيير الموارد البشرية وتوظيفها في مواقعها المناسبة وهكذا ،فالقيادة أمام أصناف وأنماط كثيرة من الافراد،فهناك الفرد المتكبر أو المتعالي والفرد السريع الرد والفرد المعترض و الفرد الثرثار والمشاغب والمتعصب والهادئ والمرهق والهامس والمخطئ والراغب في المساعدة والخائف والمشاجر والفرد المهمل والفرد الذكي والفرد المناور وهكذا .
كما أن الفرد قد يجد نفسه أمم قيادة اقصائية ومتسرعة في الأحكام لا تتحمل المبادرات والأفكار الجديدة ،تعتبر كل رأي أو نقد يستهدفها ،تستخدم الإجراءات التنظيمية والانضباطية لتوقيف وإهدار فرصة الاستماع إلى الغير تعتبر نفسها فوق النقد والأعرف بالمصلحة الجماعية وهكذا .
وتبرز هنا أهمية الرؤية المتوازنة التي تطرحها الرؤية الإسلامية في التعامل مابين الفرد والمجتمع في سياق التعاون على البر والتقوى وتحقيق شروط الخيرية والشهادة على الناس ،وقد أبدع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتعامل بعبقرية مع خصوصيات الأفراد ومعرفة قدراتهم وما يمكن أن يضيفوه من قيم للمجموع ،فقد أعطى لكل واحد من هؤلاء صفة مرجعية يعرف بها في المجموع حيث قال “ما من نبي إلا له وزيران من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر”. وقال : “ليس من نبي كان قبلي إلا قد أعطي سبعة نقباء وزراء نجباء، وإني أعطيت أربعة عشر وزيراً نقياً نجيباً، سبعة من قريش، وسبعة من المهاجرين”. يصف أبا بكر بقوله : ” لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبو بكر خليلا ” فيصف عمر بالفاروق وعثمان بذو النورين وأبو عبيدة بأمين هذه الأمة وخالد بسيف الله المسلول ومعاذ بأعلم الأمة بالحلال والحرام ويقول “خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء” يقصد عائشة رضي الله عنهم أجمعين .
فالرؤية القرآنية والنبوية لإحداث التوازن في علاقة الفرد بالجماعة ،رؤية متكاملة تجعل من الفرد النواة الأولى للجماعة ومنه تنطلق عملية التغيير في اتجاه المجتمع ولذلك رسخ مجدد القرن العشرين الإمام حسن البنا لتراتبية عملية التغيير والإصلاح حيث رتبها وفق سلم تصاعدي يبدأ بالفرد وينتهي بأستاذية العالم،وحدد للفرد مواصفات وللمجتمع أيضا صفات وادوار ،حيث قال في إحدى رسائله ” ما أحوج أمتنا أن تستعيد خيريتها التي وصفها بها الله – تعالى -: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ… ” (آل عمران:110)، ولن يكون ذلك إلا بعودة أفراد الأمة إلى مواصفات الخيرية، وقد اجتهد الإمام الشهيد “حسن البنا” في وضع صورة الفرد المسلم وفق هذه الخيرية بأن يكون “سليم العقيدة.. صحيح العبادة.. متين الخلق.. مثقف الفكر.. قوي الجسم.. قادرًا على الكسب.. منظمًا في شئونه… حريصًا على وقته.. مجاهدًا لنفسه.. نافعًا لغيره”.
وعندما نتحدث عن أهمية الأفراد في الجماعات ومراعاة حقوقهم ما أدوا واجباتهم فان عملية الإفادة بين الأفراد والجماعات متبادلة ،ولا يمكن تصور جماعة بدون أفراد فاعلين وموهوبين كما لا يمكن تصور فرد معزول لوحدة يمكنه التأثير في الأحداث دون توجيه أفعاله في اتجاه الجماعة ،وفي بعض الأحيان يكون للفرد إضافات ومبادرات وأعمال لا يمكن للجماعة بصفتها الرمزية والسياسية أو تقوم بها بسبب عهود تكون قد قطعتها على نفسها أو مواقف اتخذتها ،وهنا تبرز أهمية خصوصيات الأفراد وتوظيفها من طرف القيادة وفق قاعدة (يسع الفرد مالا يسع الجماعة )،وقد أعطت لنا قصة صلح الحديبية درسا بليغا في توازن الرؤية الفردية والجماعية عندما يكون الفرد سيدا ومفكرا وقويا ومبدعا وتكون القيادة في مستوى توظيف ذلك لحل المشكلات وتحقيق بعض الأهداف المرحلية ،ففي أعقاب صلح الحديبية مباشرةً استطاع أبو بصير عُتْبَةُ بن أُسَيْدٍ أن يفرَّ بدينه من سجون الشِّرك في مكَّة المكرَّمة، وأن يلتحق برسول الله (ﷺ) في المدينة, فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله (ﷺ) ليرجعا بت، تنفيذاً لشروط المعاهدة، فقال رسول الله (ﷺ) لابي بصير: «يا أبا بصير! إنَّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت،ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإنَّ الله جاعلٌ لك، ولمن معك من المستضعفين فرجاً، ومخرجاً، فانطلق إلى قومك» فقال أبو بصير: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: «يا أبا بصير، انطلق؛ فإن الله سيجعل لك، ولمن معك من المستضعفين فرجاً، ومخرجاً» [أحمد (4/325)، وابن هشام (3/331)].فانطلق معهما، وقد شقَّ ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزنٍ إلى أخيهم في العقيدة, وهو يعود إلى سجنه بمكَّة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريشٍ، ولكنَّ رسول الله (ﷺ) كان يهتمُّ بالوفاء بالعهود، والمواثيق، ولم يكن عنده مجرَّد نظريةٍ مكتوبةٍ على الورق، ولكنَّه كان سلوكاً عملياً في حياته، وفي علاقته الدَّولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذَّر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنيَّة، فقال: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91].
لقد التزم رسول الله (ﷺ) بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما، وانطلق معهما، فلـمَّا كان بذي الحُليفة؛ قال لأحد صاحبيه: أصارمٌ سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه؟ قال: انظر؛ إن شئت، فاستلَّه أبو بصير، ثم علاه به حتَّى قتله، ففرَّ الآخر إلى رسول الله (ﷺ) فقال: قتل صاحبُكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحاً السَّيف، وقال: يا رسول الله! وفَت ذمَّتك، وأدَّى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أُفتن فيه، أو يُعْبَث بي. فقال النَّبيُّ (ﷺ) : «ويل أمِّه! مسْعَرُ حربٍ. لو كان له أحدٌ!». [أحمد (4/331)، والبخاري (2732)، وأبو داود (2765)].فلـمَّا سمع ذلك عرف: أنَّه سيردُّه إليهم، فخرج حتَّى أتى سيف البحر، وقد فهم المستضعفون بمكَّة من عبارة الرَّسول (ﷺ) أنَّ أبا بصير بحاجةٍ إلى الرِّجال، فأخذوا يفرُّون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرٍو، وغيره، حتَّى اجتمع عند أبي بصير عصبةٌ قويَّةٌ، فما يسمعون بعيرٍ لقريشٍ خرجت إلى الشَّام إلا اعترضوا طريقها، وقتلوا مَنْ فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتَّجرون بها، فأرسل المشركون إلى النَّبيِّ (ﷺ) يناشدونه الله، والرَّحم لمَا أرسل إلى أبي بصيرٍ، ومن معه، ومن أتاه منهم، فهو آمن، وتخلَّوا في ذلك عن أقسى شروطهم الَّتي صبُّوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلَّت قريشٌ من حيث طلبت العزَّ.فأرسل إليهم النَّبيُّ (ﷺ) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه، وكانوا قريباً من السِّتِّين، أو السَّبعين فاوى النَّبيُّ (ﷺ) تلك العصبة المؤمنة الَّتي أقضَّت مضاجع قريشٍ، وأرغمتها على إسقاط شرطها التَّعسُّفيَّ، فزادت بهم قوَّة المسلمين، وقويت بهم شوكتُهم، واشتدَّ بأسهم، غير أنَّ أبا بصيرٍ، رأس تلك العصابة، ومؤسِّسها لم يقدَّر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النَّبيِّ (ﷺ) بالعودة إلى المدينة وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثَّغر، وهواه في قلب المجتمع النَّبويِّ في المدينة.
هذه القصَّة نموذجٌ يُقتدى به في الثَّبات على العقيدة، وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ: «قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة»، فقد ألحق أبو بصير، وجماعتُه الضَّرر بالمشركين في وقتٍ كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاءً بالصُّلح، لكنَّ أبا بصير، وأصحابَه خارجُ سلطة الدَّولة ولم يكن ما قام به أبو بصير، والمستضعفون بمكَّة مجرَّد اجتهادٍ فرديٍّ لم يحظَ بإقرار الرَّسول (ﷺ) حيث لم يأمر أبا بصير بالكفِّ عن قوافل المشركين ابتداءً، أو بالعودة إلى مكَّة، إنَّ ذلك لم يحدث، فكان إقراراً له؛ إذ كان موقف أبي بصير، وأصحابه فـي غاية الحكمة، حيث لم يستكينوا لطغاة مكَّة يفتنونهم عن دينهم، ويمنعونهم من اللَّحاق بالمدينة، فاختاروا موقفاً فيه خلاصُهم، وإسناد دولتهم بأعمالٍ تُضعِف اقتصاد مكَّة، وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصُّلح، بل يمكن القول بأن اتِّخاذ هذا الموقف كان بإشارةٍ، وتشجيعٍ من النَّبيِّ (ﷺ) حين وصف أبا بصير بأنَّه: «مِسْعَرُ حربٍ. لو كان معه أحدٌ!» [سبق تخريجه].
وكما قلنا: يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، يعني: حينما يكون التفسير للمجموع لا شك أن المعادلة تختلف، وتحتاج إلى موازنات واعتبارات بخلاف ما لو كان الشخص مسئولاً عن نفسه، وبخلاف ما لو كان هو يتصدر باسمه نفسه وحده، ففي هذه الحالة يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، وهذه الحادثة دليل واضح على هذه القاعدة المهمة.فالفرد هنا اجتهد وأبدى الاستعداد وطلب الرأي والقيادة هنا وظفت هذه القدرة والاستعداد الفردي لتحقيق أهداف اكبر من أهداف الفرد ،فالفرد هنا نجا من القتل والإذلال والاستعباد واستفاد من الحرية لكن الجماعة هنا عالجت إكراهات الصلح الذي كان سيدوم عشر سنوات ففرضت بعبقرية على الطرف الآخر التخلي عن بعض شروط الصلح التي رفضها كبار الصحابة في وقتها واعتبروها دنية في الدين .. هي إذن مقاربات وتقديرات لا تحسنها إلا القيادات الإستراتيجية المستوعبة للتغيرات السريعة التي تحدث في البيئة الداخلية والخارجية ،والتي لها ثقة مقدرة في أفرادها بل وتصلب تلك الثقة كلما سنحت الفرصة و لا تتخذ ردود الأفعال المؤقتة بل تتخذ المواقف التي تخدم الإستراتيجية المستقبلية حيث توظف كل الفرص المتاحة في البيئة الداخلية والخارجية وستستنفذ الجهود والأدوات في التوصيف والتصنيف والتوظيف لكل الموارد دون إفراط أو تفريط.
فالنظرة المتوازنة لعلاقة الفرد بالجماعة قضية في غاية الأهمية على اعتبار أن هذا الفرد قد يكون في النضالية المحلية وقد يكون في القيادة ، وابرز ما يمكن الإشارة إليه ونحن نتحدث عن علاقة الفرد بالجماعة هي ظاهرة تساقط الأفراد وسقوط الجماعات على طريق النضال وهي ظاهرة عامة وخطيرة ومتكررة وهي لذلك تستدعى التأمل والدراسة بعمق وتجرد وموضوعية لمعرفة أسبابها ومسبباتها ولاستكشاف العوامل الحقيقة التي تقف وراءها كما فصل في بعضها الدكتور فتحي يكن في تسعينات القرن الماضي،والذي يتتبع تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في كل قطر وعلى امتداد العالم الإسلامي يمر بأسماء كثيرة بلغ بعضها شأواً في مجال العمل والمسئولية ثم لم يلبث أن اختفي من حياة السياسة والفاعلية بشكل أو بآخر ،فمن هؤلاء من ترك الحركة ولم يترك الفكرة .. ومنهم من ترك الحزب و والفكرة معاً ، ومنهم من ترك الحركة وأنشأ حركة أخرى أو التحق بحزب أخرى وهكذا تتكاثر وتتعدد ظواهر التساقط والسقوط ،وفي أكثر الحالات والأحيان تصبح ظاهرة الانسلاخ والتساقط هذه عاملا مساعداً على انتشار وشيوع ظاهرة مرضية أخرى هي ظاهرة تعددية الرايات والأحزاب من المدرسة الواحدة ،وبالتالي السقوط في حمأة الصراع على الساحة والوعاء المناصر ؟؟
وظاهرة السقوط والتساقط هذه والتي تصيب أول ما تصيب القيادات والمؤسسين ،قد تسببت وتتسبب بكثير من الإساءات البالغة على الساحة العامة يكفينا أن نعرض هنا لبعضها :
- لقد تسببت هذه الظاهرة في أكثر الأحيان بهدر طاقات الحركة وأوقاتها في المعالجات التي قل أن تجدي نفعاً ..
- وتسببت في إشاعة الفتن والتفسخ والتسمم في أجواء الحركة مما يعتبر عاملاً مساعداً على خسارة الحاضنة الاجتماعية .
- وتسببت في كشف خبايا وأسرار ما كان لها أن تنكشف لولا أجواء الفتنة الضاغطة ووقوع الألسن والآذان في قبضة الشيطان ..
- وتسببت بأضعاف الحركة وبإغراء العدو بها والاستعجال في ضربها وتصفيتها .
- وتسببت في بعد الناس عنها وزعزعة الثقة بها والتطاول عليها مما يعطل دورها وقد يوقف بالكلية سيرها .
وإذا كان البعض يعتبر سقوط بعض المتساقطين ظاهرة عافية لابد منها لتجديد الخلايا والتخلص مما يعيق الحركة ويثقل كاهلها ويعتبر كلا عليها فإن النتيجة حتى ضمن هذا التفسير والمعنى لم تكن خيراً محضاً وإنما كانت أشبه بسيل أخذ معه الغث والثمين،فكم من أشخاص لم ينتهوا من حياة الحركة إلا بعد أن أحدثوا فيها شروخات عميقة وواسعة وكم من آخرين خرجوا منها وأصبحوا حرباً عليها بل وتأمروا عليها مع أعدائها ،فظاهرة تساقط الأفراد وسقوط الجماعات تحتاج إلى حلقة لوحدها لتدقيق الأسباب وفتح أفق الحلول حتى لا تكرر الحركات أخطاءها أفرادا وقيادات وهو ما سنتناوله إليه في الحلقة القادمة تحت عنوان : تساقط الأفراد وسقوط الجماعات..