الرئيسية مقالات أ. فاروق أبوسراج الذهب النهوض يستلزم القراءة الواعية للتراث السياسي الإسلامي (01)

النهوض يستلزم القراءة الواعية للتراث السياسي الإسلامي (01)

كتبه كتب في 30 أغسطس 2022 - 12:08 م
مشاركة

نص الأصل الثالث :

توظيف التراث الإسلامي العريق والمتنوع ولاسيما في مغربنا الإسلامي الذي أرسى وحدة دينية ومذهبية فريدة على مدى قرون وقرون (قراءة الإمام نافع للقرآن الكريم – مذهب الإمام مالك في الفقه – مذهب الإمام الأشعري في العقيدة- طريقة الإمام الجنيد في التصوف )،فعدم حسم معارك فقهية وعقائدية متشابكة من شانها أن تزيدنا فرقة وتنازعا و تلهينا عن مقصد الاستثمار في هذا المنجز الوحدوي المهم وجعله في خدمة الأوطان ومصالحها والدفاع عن القيم الحضارية للأمة واستنباتها في الواقع السياسي والثقافي والاقتصادي ،هو الطريق نحو الاستئناف الحضاري ،حيث يساهم فيه جميع أفراد الأمة ولو لم يكون لهم انتماء سياسي تنظيمي ،وهو فهم متجدد منفتح يقدم لنا كنوز لا يحجبها عنا إلا الفقر المعرفي والتصحر الفكري وحالة الاغتراب التي تجعلنا اقرب إلى استخدام التراث والقيم والمصطلحات الغربية بشعور وبغير شعور والاستغناء عن توظيف موروثنا الإسلامي السياسي الذي ضمر إنتاجه وتحقيقة بغياب دولته التي كانت تغذيه وترعاه،فتاريخنا السياسي حافل ومميز يحتاج منا إلى تغيير معادلات ومناهج التعامل معه انفتاحا وليس انحباسا وفق الرؤية المقاصدية وإرادة بناء النموذج الذاتي الوطني في مقابل الرؤية العرفانية في فكر وبناء النموذج الاممي.

يعتبر الأصل الثالث من أصول السياسية العشرون رافعا من الروافع التي لا يستغنى عنها في بناء شخصية  الفرد الرسالية والحضارية التي تتأسس على أصول ومنطلقات ومقومات وخصائص تميزه عن غيره ،وتوفر له  سبل وأساليب توظيف تلك المنطلقات في مراحل الأزمات والمنعطفات التي تصيب الأمة التي ينتمي إليها كما هي عليه اليوم من حالة التشظي والفرقة والنزاعات التي لا تنتهي داخليا وخارجيا حيث يصبح انتصار طرف من أطراف الأمة على الطرف الآخر انتصارا تنظم له الندوات والاحتفالات في حين يعتبره الخصوم نجاحا باهرا لتعميق ظاهرة النزاع والصراع والفرقة التي أذهبت ريح الأمة وأحالت أفرادها وقياداتها ونخبها إلى عناصر استقطاب حادة ستؤجل بلا شك عملية النهوض وتعمق بلا ريب حالة الشخوص والحيرة لدى الحاضنة الاجتماعية التي تنجرف في كل حين مع المنجرفين والمنحرفين ،ولمعالجة هذه الحالة في زمن السقوط والانحطاط ،وجب العودة إلى التذكير بأهمية العودة إلى الطريق الذي سلكه السلف  بهدف السير الواعي نحو الاستئناف الحضاري ،الذي يساهم فيه جميع أفراد الأمة ولو لم يكون لهم انتماء سياسي تنظيمي ،وهو فهم متجدد منفتح يقدم لنا كنوز لا يحجبها عنا إلا الفقر المعرفي والتصحر الفكري وحالة الاغتراب التي تجعلنا اقرب إلى استخدام التراث والقيم والمصطلحات الغربية بشعور وبغير شعور والاستغناء عن توظيف موروثنا الإسلامي السياسي الذي ضمر إنتاجه وتحقيقة بغياب دولته التي كانت تغذيه وترعاه،على اعتبار أن  “الفكر هو مقدمة العمل، والثقافة هي أساس العمران، وهي التي تصنع تفرد حضارة ما وتميزها وخصوصيتها عن بقية الحضارات” و البناء الفكري  كما أشار إلى ذلك الدكتور حسان عبد الله :”هو عملية يتحقق من ورائها: امتلاك العقل المسلم تصور متكامل نحو الإنسان والكون والله، يصدر من مرجعيته العليا المتجاوزة ( متجاوزة عن الخلق)، يستطيع بها تفسير الظواهر، وردها إلى أسبابها ومسبباتها الحقيقية من خلال هذا الميزان “المتجاوز”، وهذه العملية – عملية البناء الفكري – تتم عبر تراكمات – باعتبارها بناء – تتولد عنها قناعات تصدر عنها، من خلال هذه الرؤية / التصور الكلي عن الله والإنسان والكون والتي تبدأ من خلال الإجابة على التساؤلات الكبرى: الخلق، والمصير، والخالق، والتكوين، والهدفية، وصولاً إلى التضمن في مناهج العلوم والمعارف، وبرامج التربية والاقتصاد والسياسة والاجتماع”. بمعنى آخر يسعى البناء الفكري إلى إعادة تصميم الذهنيات الإسلامية وفق منهج متكامل يتوافق مع الفطرة والعقل، منهج لا يعانى من الأزمات بداخله، ولا يسبب أزمات في واقعه، منهج يتسم بالشمول والتوازن، والاتساع والانفتاح والتعقل وهو هدف صياغة هذا الأصل الثمين الذي يهدف إلى المساهمة في التأسيس لذهنية إسلامية تراثية جديدة واعية بحقيقة الدور الحضاري الذي تقوم به وليس مجرد شخصية انتظارية تنفيذية أو مهدوية تنتمي إلى عصور البحث عن لغة النملة التي تحدثت مع سيدنا سليمان عليه السلام.

كما يساهم هذا الأصل في إعادة ترتيب وصياغة النموذج المعرفي (البرادايم ) الذي حدث فيه اختلال كبير في المفاهيم ، والذي  يجعلنا ننفذ إلى عمق الحقائق والأشياء بحيث لا تستغرقنا التفاصيل بفروعها المتشابكة و يمكننا من الولوج إلى دائرة المفاهيم الكلية والمعاني الأصلية هذه، لأنه يعنى برسم الصورة الذهنية العامة،وهو مايوضحه الباحث السنوسي محمد السنوسي ، في  كتابه الموسوعي الفكري الموسوم: “النموذج المعرفي الإسلامي”، وأصاب في عنوان الكتاب الفرعي: “إبحار في المفهوم والتجليات”،والذي أشار فيه إلى “النموذج المعرفي الإسلامي”، باعتباره: “الإطار الجامع الذي ينتظم المبادئ والأفكار الرئيسية التي تدور حولها النظرية، والذي يمكن من خلاله تقديم تصور أو تفسير لعشرات الأسئلة الأخرى المرتبطة به”و “الرؤية المعرفية الكلية التي يقدمها الإسلام، للألوهية، والطبيعة والكون، والوجود الإنساني”.
ولذلك سنفرد حلقتين لهذا الجهد الفكري الهام وعلى القارئ أن يصبر على الإطالة كما نطلب منه أن يكون حاضرا وشاهدا لأننا سنتحدث عن أفكار القاع (العمق) وليس أفكار السطح(السائدة اليوم في تفسير الحالة الراهنة) ،فالأفكار الحية تؤدي دورًا فعالًا وأساسيًا  في بناء الأمم والحضارات لا يمكن الاستغناء عنه، أو إيجاد بديل يماثل دوره في التشكيل الحضاري للأمم، ومن ثم فالبحث في الصعود الحضاري أو عن أسباب الهبوط الحضاري لأمة ما لابد وأن يكون من خلال البحث في العناصر الحية لأفكارها، هذه العناصر التي تقوم مقام الخلايا الحية التي تنقل الدم إلى باق الجسد، وهذه الأفكار الحية تحدد للفرد والجماعة تصوراتهم وطموحاتهم ووسائل وأدوات العمل وضوابط النشاط والحركة وغايات الوجود والمصير، وهي أيضًا باعثة حال الغفلة وحركة حال الركون، ولا يختلف إنسان على أن الأمة الإسلامية المعاصرة تعاني من حالة “انحسار الحضاري”، يتطور بفعل “فواعيل”عديدة إلى “انكسار حضاري” غير مسبوق في وجودها، فتتكرس حالة الهيمنة والاستغلال لشعوبها، وتتسارع الخطى للتطبيع مع أعدائها، ويتم تجاوز كل الخطوط الحمراء، ويستهان بالمقدسات الاجتماعية والعقدية، وهو ما يتطلب بعث لهذه الأفكار الحية التي تمد الأمة بدماء صالحة غير فاسدة تستطيع بها الحياة مرة أخرى. والسنة تمثل مع القرآن باعتبارها تطبيقًا له وشارحة ومبينة لكثير من معانيه وأحكامه وتشريعاته، تمثل مصدرًا رئيسًا لحركة المسلم، ومرجعية تطبيقية لنشاطه الكوني، وإطارًا لفعله الحضاري المنتظر، إذ أن حركة المسلم ونشاطه لا ترتبط بعزلة أو انحسار أو ترتبط بقومية أو عرقية أو حدود جغرافية، فمجال حركته ونشاطه الكون كله والإنسانية كلها. والنبوة تمتلك كنوزًا صالحة لمد الأمة بحاجاتها من الدماء اللازمة للحياة، وللانتقال من السقم إلى السلامة والصحة،فما يسميه البعض التراث يمثل البوصلة الموجهة والملمح المميز للأمة كلها، لكنه، يشترط لذلك، أن يتم دراسته وبحثه بطريقة راشدة، تبين الأهداف الإيديولوجية للجهات الاستشراقية التي درست التراث الإسلامي، وتصحح الرؤى المستغفلة الموجة للطعن في تراث الأمة، وتبين سبيل إنقاذ التراث الإيجابي النافع، وتسخر الطاقات والموارد للحفاظ عليه، وترصد مظاهر القوة الكامنة في التراث والمحيطة به بما يجعلها مؤهلات تمكنه من بناء النهضة، بل بناء المشترك الإنساني.

فالتراث حصاد الأمم، وحصيلة نشاطها الحضاري، وقياس واضح لكليات أفكارها ومبادئها، ومؤشر لتطور حركتها، وتعامل الأمم مع ذلك التراث مؤشر لوعيها ونضجها الفكري وحالتها الحضارية، وتراث أمتنا هو حصيلة جهد ونشاط استمر لما يقرب من عشرة قرون، وهو عنوان لطبيعة هذه الحركة وكاشف لمبادئها وأفكارها (الإلهي منها وغير الإلهي) من خلال الفهم البشري وساحة الزمان والمكان؛ فمعادلة التراث الإسلامي هي: وحي + تلقٍّ (اجتهاد) متعدد المشارب (الأمة) + الزمن (عشرة قرون تقريباً) + المكان (جغرافيا متعددة خطوط الطول والعرض) = التراث الإسلامي.

وهو ايضا ومن جهة أخرى سلاح ذو حدين ـ وفق فهم قاصر ـ أن يكون عقبة كأداء أمام التوجه نحو المستقبل، كذا يمكن ـ وفق فهم علمي ووعي معرفي ـ أن يصبح عامل بناء وحافزا للتطور والتقدم. ولقد جرى التحقق من ذلك تاريخيا، فحركات الإصلاح في العصر الحديث؛ برغم دعوتها الصادعة للتجديد؛ لم تستطع الإنعتاق من “كابوس” الماضي بإكراهاته ومحاذيره ومقدساته الوهمية. بالمثل أخفقت المحاولات الفكرية “العلمانية” ـ لقطيعتها مع التراث ـ في صياغة مشروع واقعي وعملي يقود حركة التقدم، لا لشئ إلا لإسرافها في التغريب، فتحول نتاج فكرها إلى منظومات نشاز رفضها الواقع المعيش ولفظها.

لذلك لا مناص من مراجعة التراث وبحث سائر جوانبه بروح نقدية قادرة على المصارحة والمكاشفة والإقدام على نقد “المتواتر” والجرأة في اقتحام “اللامفكر فيه” ونفض الغبار عن “المسكوت عنه” بهدف التوصل إلى “معرفة” موضوعية تؤهل لإذكاء الوعي “بالذات” و”بالآخر” في آن، وهو وعي يشكل مناخا ملائما لصياغة ثقافة المستقبل.

وكما قال الدكتور المختار الاحمر أن :”هذه المسألة تتعلق بالمقاربات والمنهجيات المتبعة في قراءة التراث الإسلامي والتعامل معه، والنظرة المعرفية والإيديولوجية التي تؤطر هذه المنهجيات. وقد انشغل بهذه القضية رواد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، حيث كتب فيها الكثيرون منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، وما زال النقاش ممتدا إلى يومنا هذا، سواء داخل الحقل الإسلامي أو خارجه. ويمكن رصد أهم المنهجيات التي شكلت مسلكيات أطرت حركة التقييم وأساليب التعامل مع هذا التراث، وهذه المنهجيات تتمثل في:

منهجية تقليدية، ينظر أصحابها إلى التراث بنوع من التقديس ويجردونه من صفته التاريخية والنسبية، ويقتصر دورهم في إعادة إنتاج ورواية ما أنتجه السابقون دون القدرة على النقد أو التجاوز والإبداع، ويتميز هذا المسلك المنهجي بطابع الاستنساخ، حيث يتعامل أصحابه مع تراث الأقدمين كما هو، فيسقُط هؤلاء بحسب الجابري في “آفتين اثنتين: غياب الروح النقديّة، وفقدان النظرة التاريخيّة. وطبيعيّ والحالة هذه، أن يكون إنتاج هؤلاء هو: التراث يكرّر نفسه، وفي الغالب بصورة مجزّأة ورديئة”[1].

منهجية حداثية، تتعامل مع التراث الإسلامي بنوع من التبخيس، تؤطرها ثنائية التعالي والاحتقار، ويمثل هذا المنهج، التيار الاستشراقي والعلماني والماركسي، حيث يتعامل هؤلاء مع التراث ومكوناته بمنطق المركزية الغربية، الذي ينظر إلى تاريخ العلوم بكونه تاريخا أوروبيا بامتياز، وأن المعرفة والعلم والحقيقة وحتى الجمال هي من منجزات الحضارة الغربية، أما التراث الإسلامي فلا يعدو أن يكون تابعا في أحسن الأحوال، أو امتدادا منحرفا أو مشوها للتراث اليوناني والروماني.

منهجية تجديدية، تنظر إلى التراث الإسلامي ومنه التراث السياسي بموضوعية وبروح نقدية تجديدية، وهي منهجية تحتفظ بنوع من التوازن بين القديم والحديث، فهي وسط بين المنهجية التقليدية والمنهجية الحداثية، أي منهجية ترفض منطق التقديس للتراث وإعطائه صفة الإطلاقية، وفي نفس الوقت لا تسقط في منطق التبخيس الذي لا يعترف بإنجازات العقل المسلم مقابل الانبهار بالعقل الغربي والاعتراف بمنجزاته.

ولذلك فالتجديد الذي يقصده أصحاب هذا المنهج هو الذي يتعامل مع التراث باعتباره مصدر تراكُمٍ معرفيٍّ واستلهام، لا مصدر تقليد وإلزام، فالتراث في نظر هؤلاء هو صيرورة تاريخية لحركة العقل الفقهي في تفاعله مع النصوص الدينية الإسلامية، ولذلك تنبع عملية المراجعة والتجديد لهذا التراث من كونها عملية إعادة تأهيل وتفعيل لدور العقل الفقهي من جديد في تعامله مع النصوص من جهة، ومع ما تراكَمَ من منجزات العقل التاريخية من جهة أخرى. حيث دعا د. خالد فهمي :” إلى ضرورة التشغيل الحضاري للتراث الإسلامي باعتبار أن تراثنا بناء كبير متسع يشمل المنجز الفكري والحضاري الجامع والواسع.

ونحن هنا نحاول تجنب التورط في إعادة ما كتب حول الموقف من التراث، باعادة سرد المواقف الثلاثة المعروفة (الانتظام في التراث لبناء النهضة، والقطيعة مع التراث لبناء النهضة، وانتقاء ما يصلح من التراث من المكونات العقلانية لبناء النهضة)، انما سنتبع طريق الدكتور عبد السلام رياح  في كتابه “التراث وأثره في بناء الحاضر وإبصار المستقبل”في طرح الموضوع من زوايا ثلاث، زاوية التراث موضوعا ومتنا، وزاوية الباحث ومدى توفر المكنة المعرفية والشروط العلمية لإحياء التراث ودراسته وتوظيفه، ثم زاوية تشغيل التراث والآليات التي يمكن التماسها في ذلك.

واعتقد أن أفضل ماكتب ملخصا ويفي بغرض تبسيط الموضوع للمبتدئين هو الدكتور جاسم سلطان في كتابه  التراث وإشكالياته الكبرى ،حيث استعرض فكرة أساسية، تؤكد أن مشكلة الأمة ليست من خارجها، ولكنها في منظومتها المعرفية الأعمق، وأن الإطار الفكري القائم في المنطقة العربية ثبت عدم جدواه، وقلة مصداقيته في الواقع العملي الصلب، فقد سقطت الأفكار التي أنتجها قرن كامل في أول اختبار لها على أرض الواقع العملي، ولم تستطع أن تحقق ما وعدت به، وارتدت كل خيبات الأمل، تساؤلات عميقة عن جذورها.وتراكمت التحديات بصورة مطردة في الفضاء الإسلامي  عبر ألف وأربعمائة سنة في شكل الأسئلة التي عجزنا عن الإجابة عنها، لكن هناك ما هو أعمق ويحتاج إلى فحص وبحث، وهو المنظومات التي تشكل طريقة التفكير ونمط الاستجابات، وهذه هي أخطر مناطق البحث.

حيث يتساءل سلطان :فماذا لو اكتشفنا أن القصور في التراث والمنتج البشري، وقد بنى الناس عليه تصوراتهم ومقارباتهم، ثم اكتشفوا أن كل ذلك البناء لا يقف على أرض صلبة؟ فما هي الأرض الجديدة التي سيقفون عليها؟نحتاج إلى مراجعات كبرى لإعادة النظر في مجمل الأرضية الفكرية التي نقف عليها، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

ويقارن سلطان بين لحظتي ولادة المجتمع الإسلامي في حياة الرسول، وبعد رحيله وكيف اختلفت نسب النجاح في حل مشكلات المجتمع في اللحظتين، مؤكدًا أن أسباب هذا الاختلاف تعود إلى القدرة على حل التحديات الكبرى بشكل خلاق، يحفظ للمجتمع استقراره وحيويته في آن.

فالمجتمع الجديد، في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم-، استطاع أن ينجح في حل التحديات الكبرى التي تواجهه، وأوجد الآليات لعلاج هذه القضايا الرئيسية التي واجهته، والمتمثلة في:

  • حرمة الدماء والأموال – ضرورة البداية الجديدة في الملفات العالقة (الدماء والاقتصاد) – وقف الظلم – العناية بملف المرأة – المساواة بين البشر – إيجاد آلية سلمية لحل النزاعات. (ص47-48)
  • عبر التزامه بتطبيق وتنزيل قيمه الكبرى المتمثلة في: الرحمة الشاملة – العدل الشامل – الإحسان الشامل – أمر الناس شورى بينهم – طاعة أولي الأمر في المعروف – حل النزاعات عبر فئة ثالثة قادرة على العدل والترجيح (ص51-52)، إلى مؤسسات وآليات وممارسات على أرض الواقع.

لكن بعد رحيل الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وفجأة صدمة غيابه، لم يستطع المجتمع أن يتجاوب مع أسئلة الواقع بالشكل الملائم، وكان من الطبيعي أن تولد التحديات الكبرى، استجابات تجريبية، صادفت نجاحًا قليلاً، وخيبات وفشلاً أكبر بكثير. (ص50-51)

فلم يتحدد شكل الدولة، ولم توجد آلية الاختيار، ولا لحل النزاع على سياسات الحكم، وتولدت حيرة في شكل الدولة، وبرز تحدي عدم الاستقرار على آلية اختيار للحكام، وحيرة أو تحدى النزاع حول سياسات الحاكم، وتحدي وجود جبهتين متحاربتين على السلطة (ص52-60)، فوقع النظام السياسي في أزمة حكم على مستوى التحقق العملي.

وأنتج هذا كله مشكلة في الحياة السياسية عند المسلمين في مرحلة مبكرة من تاريخهم، ولم يستطع الفضاء السياسي المشحون بالخلافات، وفقدان الآليات، وعدم السماح بمناقشة الأفكار الكبرى: كالحرية، والعدل، ومشروعية النظام السياسي، وغيرها من القضايا الكبرى، أن يستوعب العرب اختلافاتهم الداخلية، بالإضافة إلى الاختلافات الناجمة عن انضمام كل هذه الأمم الحديثة العهد بالإسلام. (ص74-86)

ويواصل سلطان تشخيصه حيث يقول :وهذه  الحالة أنتجت سبع إشكاليات لا بد من حلها لبناء وعي حضاري جديد تتمثل في:

 إشكالية تحقيق الدولة بالمعنى المعاصر: التي هي بنت التغيرات التي حدثت في القرون الحديثة، وليست الدولة في السياق الإسلامي، التي كان يقصد بها التغلب على الملك، والحقبة الزمنية التي استمر شخص واحد على رأس السلطة .

 إشكالية غياب فضاء للتعايش وغياب أدبياته، وآفات ذلك التي تصحبنا حتى اليوم (ص86).

– إشكالية العقلية الدفاعية في وجه التفكر في المعضلة التي تمر بها الأمة: خاصة المخاطر الخاصة بالانكشاف التاريخي، والخوف على مكانة الأشخاص في التاريخ، ونظرة الناس إليهم.

 إشكالية الفقه وأصوله، فعلم أصول الفقه ونموه هو صيرورة مازالت تتفاعل، والفقيه المعاصر يواجه صعوبات جمة نتيجة نقص الأدوات المصقولة المتاحة له، والأمة تسبق الفقيه ثم يلحق بها الفقيه بعد أن تكون قد أخذت طريقها.

 إشكالية علم الحديث، وضرورة إيجاد آلية معيارية دقيقة للتعامل مع الأحاديث، قبل نسبة أي شيء إلى الدين، فنحن أمام ثروة خبرية متوفرة أثرت بعمق في تكوين الإنسان المسلم، وتحتاج مناهج جديدة لإعادة فاعليتها. (ص96-116).

 إشكالية التفسير وتقزم المفاهيم: وأثر ما قدمه المفسرون في مجمل الصور التي نحملها عن الإسلام اليوم – خاصة – أنها تقدم باعتبارها تفسيرًا للقرآن، وليست فهمًا تاريخيًا للقرآن، ومن هنا هي تؤثر بشكل كبير في العقل الجمعي وتشكل قامة المفاهيم القرآنية، ولا تقف مشكلة التفسير عند تقزم المفاهيم، ولكنها تمتد إلى مشكلة أكبر، وهي تذرر المفاهيم، فكل آية تفسر على حدتها، ولا توضع في نسق جامع يربط بينها في نظرية عامة (ص 168-169).

 إشكالية فقدان الترابط بين الأسباب والمسببات: عبر استخدام النص في تبرير الواقع المنحرف، واستدعاء نظرية الجبر للهروب من المسؤولية الاجتماعية، فتشوهت العلاقة بالدنيا، ولم يعد شيء في مكانه، لا العلم، ولا العمل، ولا علاقة الإنسان بالعمل، ولا علاقة السبب بالنتيجة. (ص148)

وقد نتج عن هذه الإشكاليات قراءتان خاطئتان للتاريخ

القراءة الأولى: تصور التاريخ، بصورة مشرقة لرفع معنويات الأجيال، عبر آليات الحجب والتمرير وصناعة الدفاعات عن الأخطاء التاريخية.

والقراءة الثانية: تحاول البحث عن حلول للواقع العصي من خلال نموذج تاريخي معين تتبناه.

والقراءتان انتقائيتان، ومحدودتان في الاستنتاج منهما (ص18-19)، ولم تعد الأجوبة الناتجة عنهما مقنعة على جميع الأصعدة، (ص20-21)، فقد أثبت الواقع، محدودية النموذج التاريخي في الإجابة عن أسئلتنا المعاصرة، كما أن الشاهد التاريخي ينفي وجود نموذج تاريخي، يصلح للإجابة عن أسئلتنا المعضلة في الدولة والاجتماع اليوم. (ص26-27).

فماهو الحل وماهو العمل ؟؟؟؟؟ ذلك ما سنعود إليه في الحلقة القادمة .

 

تعليق