نحن بحاجة إلى إعادة تعميق النظر في تجربة الحركة الإسلامية المعاصرة من زاويةٍ تحليليةٍ، ومن وجهة نظرٍ نقديةٍ جادةٍ ومسؤولة.
بعيدًا عن التساؤلات التي تحمل في طياتها اتهاماتٍ مبطنة، أو محاكمةٍ للنوايا، أو إصدارٍ للأحكام المسبقة: هل هي إعادةٌ للتموقع الإيديولوجي خارج الإطار التقليدي لها، تحت شعارات جديدة، مثل: الفصل بين السياسي والدعوي، والديمقراطية الإسلامية، والحزب المدني ذو المرجعية الإسلامية، وما بعد الإسلام السياسي، وما بعد التنظيم الشمولي؟؟
أم هي مسؤوليةٌ تفرضها التطورات والتغيرات المتسارعة التي طرأت على البيئة الداخلية والخارجية للحركة الإسلامية، بعيدًا عن المفاهيم الجدلية القديمة، عبر الانتقال من المتن الفكري والتراث العقائدي التقليدي إلى الفكر السياسي المدني الديمقراطي المعاصر.
هذه المراجعات بحاجة إلى وقفات عميقة معها، بعيدًا عن ردود الفعل العاطفي والأحكام المسبقة، والمحاكمات الإيديولوجية الجاهزة، وهو الرهان العلمي في الدراسة الموضوعية..
وهي المراجعات العميقة التي يجب أن تستوعب المستوى الفكري الإيديولوجي، والمستوى الإداري التنظيمي، وانعكاسات ذلك على العلاقات الحتمية مع المجتمع والدولة والآخر.
فهناك سياقاتٌ تاريخية، وظروفٌ محيطة، وبيئةٌ مؤثرة في هذه المراجعات، والإجابة عن الأسئلة الجدية، عن الأسباب والخلفيات والمآلات، وعن السياقات المثقلة بالعوامل الذاتية والإكراهات الخارجية.
فنحن بحاجةٍ إلى مراجعاتٍ نقدية حقيقية، وبإرادة اختيارية ذاتية، بعيدًا عن سياقات الأزمة أو ردود الفعل الضاغطة، وذلك بتفكيك دلالات مفردات المراجعة، وحدود هذه المراجعات بين الوفاء للمبادئ التي تأسست عليها هذه الحركة الإسلامية، وبين المصالحة مع الواقع الذي تتحرك فيه في تجربتها الدعوية والسياسية.
ومن الإشكاليات العميقة التي ننطلق منها:
1/ خطورة التسمية التي تنطوي على حمولات عقدية خطيرة، تبدأ بالعزلة الشعورية، وتنتهي بادِّعاء الحقيقة المطلقة وتكفير المخالفين، ومدى واقعية شعار: “الإسلامية”، ووضعه على محكِّ الاختبار المعرفي والأخلاقي والواقعي.
2/ أزمة القيادة الإسلامية: ومدى تداخل النرجسية والذاتية وتضخم الأنا بالاختباء وراء الشرعية التاريخية (التأسيس)، واحتكار الصف القيادي وعدم التداول التاريخي عليه، وبين أهمية الرمزية ومكانة التأسيس وفضل السبق، والآفاق المستقبلية لهذه القيادات التاريخية ما بعد التنظيم، والمكانة التي يجب أن تحتلها في أدوارها الإيجابية في إطار تواصل وتكامل الأجيال.
3/المراجعات العميقة للمناهج التربوية والفكرية والتكوينية، لإعادة صناعة رجل التغيير والتمكين، خارج الأطر والوسائل التقليدية التي لم تعد تستجيب لاحتياجات المرحلة، ولا تجيب عن إشكالات تطور الواقع الذي تعيشه.
4/ حقيقة التشبث بالمرجعية الإسلامية في العمل السياسي، وقيادة مشروع النهضة والشهود الحضاري، والإبداع المعاصر في أجرأة الفكرة الإسلامية إلى مشاريع وبرامج معاصرة تلبي احتياجات الناس وتعطي الأنموذج الواقعي لصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان.
5/ رؤية جديدة للهوية الفكرية والسياسية لهذه الحركة الإسلامية: هل هي تقية سياسية أم مراجعة برغماتية أم حقيقة فعلية، إذ تجد نفسها توازن بين: المطلق الثابت على مستوى الخط الاستراتيجي، والنسبي المتغير على مستوى الخط السياسي..
6/ حصيلة التجربة السياسية وضريبة المشاركة في الحكم: فلقد تركت تجربة ممارسة الحكم بالنسبة للحركة الإسلامية عبر المشاركة السياسية في المستويات المختلفة للسلطة آثارًا معرفيةً وسلوكية غيَّرت بعضًا من التصوُّرات التنظيرية التقليدية حول الدولة والخلافة، دفعت إلى الاجتهاد في المواءمة بين الفكر السياسي الإسلامي والفكر السياسي المعاصر، وهي الاجتهادات التي جمعت بين مبدئية الشورى وآلية الديمقراطية، وبين عالمية الفكرة وقُطرية الدولة، وبين فكر الأمة والدعوة وفكر الجماعة والحزب..
وهي الخلاصة التي انتهت إليها بالانتقال من حلم الخلافة إلى واقعية الدولة، للتعقيدات الكبيرة في عملية الإصلاح والتغيير على مستوى خط السلطة وعلى مستوى المجتمع، وخاصة مع الجرعات المكثفة للتسييس الذي تعرَّضت له الحركة الإسلامية بالانجذاب القسري نحو العمل السياسي الحزبي وإكراهاته..
لقد انطلقت الحركة الإسلامية في القيام بواجب الوقت بعد السقوط الرسمي للخلافة الإسلامية سنة 1924م بكلِّ عاطفيةٍ ووجدانية وفق دلالات النص الشرعي التأسيسي من أجل استئناف الحياة الإسلامية والانبعاث الحضاري من جديد، ابتداءً من الفرد المسلم، إلى الأسرة المسلمة، إلى المجتمع الإسلامي، إلى الحكومة الإسلامية، إلى الكيان الدولي للأمة الإسلامية، إلى أستاذية العالم والخلافة الراشدة على منهاج النبوة، إلا أنَّ الانتقال من مئوية الصحوة على مستوى المجتمع إلى مئوية النهضة على مستوى الدولة فرضت حتمية التجديد وفق الحقيقة النصية: “إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها.”.
وكما أبدعت الحركة الإسلامية في مئوية الصحوة في فقه الدعوة يجب عليها أن تبدع أيضًا في مئوية النهضة في فقه الدولة.
وهو ما يفرض علينا الانتقال إلى المزاوجة بين “العقل الفقهي” و”العقل المقاصدي” و”الفقه الحضاري” في مسألة الحكم والسياسة والدولة والحضارة.
ومن جملة المباحث في ذلك: التركيز على الفقه الجماعي المؤسَّسي والمقاصدي.
فقد تم اختزال السياسة الشرعية في مباحث الأحكام السلطانية في الحاكم والمحكوم (ما له وما عليه)، ونحن الآن بحاجةٍ إلى تركيز الفقه السياسي الإسلامي المعاصر على مسألة الحكم وآلياته ومؤسساته وسلطاته وعلاقاته الداخلية والخارجية..
كما تفرض الممارسة السياسية للحركة الإسلامية تعميق الدراسات المقاصدية في ترشيد العمل السياسي، وهو ما يجب أن يتجلَّى في مباحث: “فقه المصالح والمفاسد” و”فقه الضرورات والمحظورات” و”فقه الأولويات والمآلات”، وذلك لتأطير التقعيد النظري وتقنين الإطار العملي لنمط الحكم وطبيعة الدولة وإكراهات العلاقات الدولية..
7/ الانتقال من الفصل بين الدِّين والسياسة (العلمانية الجزئية) إلى التمييز الوظيفي بين السياسي والدعوي (العلمانية الحركية)، ومن أدق المسائل الفكرية التي يجب الحسم فيها في ثقافة وسلوك الحركة الإسلامية: مدنية الدولة: إذ يبدو أن شعار “الدولة الإسلامية” و”الخلافة الإسلامية” ألقى بظلاله فولَّد رُعبًا لدى شركاء الوطن والقوى الدولية والإقليمية، وأعاد التذكير بالروابط التاريخية السوداء للحكم الديني الكنسي في القرون الوسطى، وهو ما جعل كتلة من العداوة المستحكمة ضدَّ الحركة الإسلامية لقطع الطريق عنها في مسار الوصول إلى الحكم والدولة..
وهو ما يفرض اجتهادًا في التمييز بين “الدِّين المسيحي المحرَّف” و”الدِّين الإسلامي الخالد” في مسألة الحكم والسياسة، وفي مسألة مدى صوابية توطين العلمانية في العالم العربي والإسلامي.
يجب على الحركة الإسلامية المعاصرة تقديم الفقه السياسي الإسلامي المعاصر بصورته الناصعة، والتي لا تتعارض مع القيم السياسية والديمقراطية المعاصرة في الطبيعة المدنية للدولة، وهو ما يفرض عليها ضرورة إعادة التشكُّل للتوفيق بين التجديد الفكري والتجديد التنظيمي، والتمييز بين الحزب السياسي وفق قانون الأحزاب من أجل المنافسة السياسية والانتخابية للوصول الديمقراطي إلى الحكم على مستوى خط السلطة، وبين التجديد الدعوي المؤسسي التخصصي وفق قانون الجمعيات من أجل التوافق والتشاركية مع المجتمع المدني لترشيد التديُّن على مستوى الخط الاستراتيجي، وهو ما يضمن التكامل بين الحفاظ على الهوية وتحقيق التنمية.
هذا التجديد سيدفع باتجاه مدنية الأحزاب الإسلامية وليس مدنية الدولة فقط، وذلك بالتخفف من ثقل الإيديولوجيا، والإبداع في الجانب البرامجي التنموي بالتركيز على قضايا الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية وصناعة النهضة والحضارة عبر الدولة.
فيتم إشباع الاحتياج الديني للشعب عبر المجتمع المدني بترشيد التديُّن، ويتم إشباع الاحتياج الدنيوي له عبر الأحزاب المدنية بالتنمية المستدامة بصناعة النهضة على مستوى الدولة والحضارة.