نتجدد معا … ننهض معا
شرح الأصول السياسية العشرين
الأصل الخامس:التدافع السياسي والعدمية السياسية
بقلم: د. فاروق طيفور
الأصل الخامس : ونحن نتفاعل مع الأحداث والأزمات بالفعل ورد الفعل ،ولاسيما في عملية التدافع السياسي مع الأنظمة السياسية مما قد يحدث جراح ونتوءات نفسية عميقة لا ينبغي أن تتحول من مربع الفعل ورد الفعل إلى مربع الصراع الصفري بخلفية نفسية قاعدتها رد الشر بخلفية انتقامية بل باستخدام فقه الطلقاء الذين حرر الرسول الكريم منهم مكة أثناء فتحها أو أن تتحول إرادة إبعاد الظلم والظالمين إلى كتلة من العدمية والقسوة السياسية التي تتغذي بأسباب نفسية عميقة وليدة مرحلة الاستضعاف قبل التمكين.
ما يقارب القرن وحركات الإحياء أو الاستنهاض الإسلامي تتدافع مع الأنظمة السياسية بهدف تحقيق غايات وأهداف المشروع الإسلامي الحضاري الذي سقطت دولته ورمزيته السياسية في عشرينيات القرن الماضي ،ورغم تعدد المدارس والمناهج والنظريات التي تقدم الحلول والبدائل للواقع الاستعماري ثم الاستبدادي الجديد ،إلا أنها لما تتوصل إلى اليوم إلى الرؤية والحالة النهائية لعودة المشروع الذي حلمت بها قرابة ثلاثة أجيال ابتداء من الموجة الأولى للحركة الإسلامية (1920-1960) ثم الموجة الثانية (1960-1990) ثم الموجة الثالثة (1990-2020) ،وقد وصل الاختلاف بينها إلى درجات متقدمة من الخلاف والتنازع الذي أنتج في النهاية الصراع الصفري وذهاب الريح حيث عرفت الساحة الإسلامية مشاهد راقية في التدافع السياسي انتهى إلى حالة الاستقرار والتنمية رغم وجود تحديات واكراهات تقودها قوى الاستبداد وأعداء التحرر والانعتاق ،كما عرفت مشاهد غارقة في الدموية والتشويه والتطرف والغلو انتهت إلى حالة فوضى واحتراب داخلي وإرهاب عابر للقارات تستخدمه المافيا الإعلامية الدولية لتبرير هيمنتها وبقائها على صدر البشرية والتخويف من الإسلام السياسي الذي تغلفه بإستراتيجية الجماعات الإرهابية التي تؤسسها وتمولها وتحركها في بؤر التوتر كما تشاء .
وفي ظل الفعل ورد الفعل بين الأنظمة والحركات الإسلامية وعلى طول قرن من الزمان ،لم تفلح الأنظمة في فرض منطقها السياسي في مواجهة حالة التجاذب مع حركات التجديد والإصلاح من كل الأطياف حيث استخدمت كل الوسائل لتوقيف وإنهاء هذه الحالة التي تحولت إلى ظاهرة سياسية واجتماعية تنجذب إليها الشعوب التواقة إلى الحرية والتنمية والتقدم والخروج من التخلف مع كل تحول سياسي واستحقاق الانتخابي وأصبحت بالنسبة للأنظمة السياسية معضلة مزمنة لما تتمكن إلى اليوم من التخلص منها ،فقمعتها وسجنتها ونفت قياداتها وانقلبت وألغت نتائج الانتخابات وتآمرت عليها إعلاميا وماليا ودبلوماسيا ،وفي المقابل لما تتمكن هذه الحركات من الوصول إلى أهدافها المعلنة والتي تتعلق بمرحلة التمكين لمشروعها في دواليب الدولة وتحقيق الأستاذية ،ومايزال هذا التدافع قائما إلى اليوم ،فبحث بعض المفكرين حلولا لهذا الفصام النكد بين الأنظمة السياسية العربية خاصة وحركات التغيير والإصلاح ،من خلال البحث عن الحلقة المفقودة التي تحل الأزمة وتفتح الأفق نحو تطوير الأوطان بعيدا عن حالة الاستقطاب المستدام .
ولكن من ضمن اخطر المظاهر التي نتجت عن هذا التدافع السياسي على الإطلاق هي ظاهرة العدمية السياسية واقتناع لفيف من المواطنين والنخب بعدم جدوى التدافع السياسي والكفر بأدواته التقليدية الرسمية وغير الرسمية ،ولا يتعلق الأمر فقط بمناضلي الحركات الإسلامية بل توسع الأمر إلى اغلب النخب والمواطنين ،وهي ظاهرة خطيرة سيما إذا تمكنت من عقل النخب السياسية التي ناضلت سنين وأصبحت لها خبرة ودراية بعملية التدافع السياسي لكن أوصلتها سياسات المنع والقمع والصد والشد والجذب إلى حالة اليأس من العملية التدافعية لمراغمة الاستبداد وتفكيك مكوناته ،وهي ظاهرة ليست بالجديدة فقد عرفت العدمية(Nihilism ) كمذهب فلسفي قديم نظر لها أبو العلاء المعري شعرا
ونثرا وأصل لها نيتشه وديوجين أدبا وخطابا ،فالعدمية السياسية نزعة في التفكير لا ترى إلى الأشياء والأفكار والأفعال والمؤسسات والحقائق المادية ولا الماضي والحاضر والمستقبل إلا بوصفها عدما أو عالما خاليا من المعنى واخطر مافي العدمية السياسية تغليفها بالروح النقدية ،وهي تصور سلبي وتشاؤمي للحياة في كل أبعادها ومستوياتها من الأخلاق والدين إلى الفكر والأدب والسياسة ،وعندما تتراكم أسبابها في الواقع المعيش تصبح نزعة تقوم على اللا معنى والا يقين واللا ثقة بأي شيئ و تتحول إلى تعبير عن حالة رفض للواقع ورغبة قوية في تدميره أو على الأقل عدم الاعتراف به بحيث لا ترى في الواقع إلا سوادا بدون نقاط مضيئة ولا تلمس شيئا يمكن البناء عليه ولا تعترف بالانتماءات الجامعة الكبرى سواء كانت دينية أو قومية أو سياسية أو أممية،فهي بهذا المعنى ليست مجرد نقد للواقع سواء موضوعي أو هدام أو في الطريق إلى الهدم ،لان النقد الحقيقي متفاءل ويطرح البديل وينظر إلى المستقبل أما العدمية السياسية فهي تنتقد بشراسة وراديكالية متطرفة وتنسف المعنى الكامن وراء أي شيئ موجود دون أن تقدم حلولا أو منافذ أمل بالمستقبل ،وهي بهذا المعنى لا يمكن نعتها بالواقعية ولا بالحالة الثورية ولا بالشجاعة السياسية بقدر ماهي نزعة اقرب إلى معناها الفلسفي الأصلي القريب من الإلحاد السياسي ،فتصبح رؤيتها اللارؤية وافقها اللا أفق وهي لا تقترح على من تخاطبه سوى العبث والشك الذي لا نهاية له في كل شيئ تفعل ذلك باسم النقد لكنها تهبط بمعنى النقد من عليائه كفعل معرفي بناء إلى درك اسفل هو النقض حيث الأفكار والأشياء خرائب والممكن مستحيل والواقع في حسابها قهر وإرغام لا يتذلل صعبه إلا بإنكاره وكل اعتراف به ولو من باب الاضطرار تسليم بمشروعية ماليس مشروعا وتسويغ له فهي لا تعرف شيء يسمى ميزان القوى الذي يتحكم بشكل صارم في نتائج أي تدافع سياسي الذي يراعي شروط الإمكان الحضاري أو ممكنات التاريخ .
وإذا ما التقت وامتزجت العدمية السياسية بالجهل والعجز وعدم الكفاءة وإرادة الانتقام والرغبة في التدمير ،فإنها تحول الأوطان إلى الفساد الشامل المؤذن بخراب العمران ،وقد عرفنا هذا الحالة التي يمكن أن يصل إليها البشر وهم يتدافعون مع الاستبداد والاستعمار رغبة في التغيير في كل مراحل البشرية ،وفي التاريخ الحديث والمعاصر ،ففي مصر لما خنقت الحركة الإسلامية في أربعينات القرن الماضي وسجنت وعذبت فتكون في السجون جيل من التكفيريين الذين أصبحوا يكفرون المسلمين ويصفونهم بالجاهلية وضرورة قتلهم في انحراف فكري وديني خطير امتزج بمبررات دينية تأسست بموجبها جماعات تحترف الإرهاب وهي تعتقد أنها تقوم بعمل تغييري لصالح الدين والإسلام وتقدم في سبيل ذلك الروح والمال وكل كل ما تملك وحتى بعض المفكرين الذين كان أدبهم وفكرهم وسطيا ومعتدلا لكنهم لما قمعتهم الأنظمة تحولوا إلى أحزمة ناسفة ،عبر كتابات ومقالات صنعت نزعات عدمية لا تعرف الا الروح الانتقامية ممن عذبها أو سجنها أو قتل وشرد أسرتها وعائلتها وكذلك يفعلون ،على اعتبار أن قمع الأنظمة يدفع نحو العمل السري والعمل السري يخلق قواعده بنفسه ،كما عرفت مرحلة الثمانينات و التسعينات مشاهد مؤلمة في ساحات متعددة ،ليس فقط بالنسبة للمناضلين السياسيين الذين استخدموا العنف بعد إلغاء نتائج الانتخابات أو اللذين انبطحوا للأنظمة السياسية أو تخلوا نهائيا عن العمل السياسي التدافعي طلبا للعافية ،وهناك نوع آخر انسحب من ساحات التدافع السياسي بسبب التزوير الانتخابي المتكرر الذي أعدم الفرصة السياسية ودفع ثلة من أصحاب الكفاءة والنزاهة إلى الانسحاب ورفع الراية واختيار ساحات أخرى أقل تأثيرا وجدوى ، واختار البعض الرابع أساليب أخرى في التغيير أكثر رديكالية لا تؤمن بالأدوات السياسية الحزبية والانتخابية والمجتمعية طريقا نحو التغيير حيث أصبحت ترفض الانخراط في الأحزاب والجمعيات والمنظمات بل وتنعتها بأنها قبلت باللعبة السياسية المغلقة لتصبح حسبهم جزء من ماكنة الأنظمة السياسية لتبرير وتزيين الواجهة أمام العالم، وهي بالنسبة إليهم لا تنتج شيئا سوى استفادة من يشارك في تلك المجالس والبرلمانات،وكل ذلك من نتائج وتداعيات ومظاهر تعمق النزعة العدمية السياسية التي نخرت مجتمعاتنا بسبب فساد النظم واستبدادها،ولكنها على واقعية أو صدقية بعض ماتطرحه كوصف للظاهرة السياسية إلا أنها عاجزة على طرح بدائل أكثر فاعلية من الأدوات التقليدية وهي بذلك تضعف عملية التدافع وتعدم عملية التأثير و تؤجل التغيير من حيث لا تشعر لأنها فئة مستعجلة تريد التغيير السريع بدون تقديم أي كلفة او ضريبة لتؤصل للفاست فود
السياسي الذي من أهم مخرجاته السرطنة السياسية لما تبقى من أجزاء في الأمة تنبض بالمقاومة السياسية وتحضر للفرصة السياسية المنتظرة على قاعدة دوام الحال من المحال .
وإذا كان للعدمية السياسية مبرراتها الموضوعية التي تنتجها للأسف الشديد الأنظمة المستبدة في تعاملها مع النخب التواقة إلى التغيير ،فهل من المستساغ دينيا وسياسيا التعامل مع هذه الحالة بردات الفعل التشاؤمية والانسحابية وفي بعض الأحيان بصياغة سياسات والدخول في مشاريع انتقامية حيث تتحول إرادة إبعاد الظلم والظالمين إلى كتلة من العدمية والقسوة السياسية التي تتغذي بأسباب نفسية عميقة وليدة مرحلة الاستضعاف قبل التمكين.فروح التغيير روح تغترف من المنهج النبوي في عملية التغيير والإصلاح حيث أسس لمنهجية راقية في التعامل مع الخصوم والأعداء فكيف بأبناء الجلدة الواحدة من الذين نختلف معهم في منهجية التغيير أو في طريقة تحكمهم وتسييرهم لقضايا الأمة ،فأبو سفيان بن حرب قاتل الرسول صل الله عليه وسلم لمدة عشرين سنة ،لكنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة المكرمة فاتحا اصدر قرارا بأن (من دخل دار أبو سفيان فهو آمن) في تصرف عسكري وسياسي يدل على عبقرية في التغيير تحمل الرحمة والعقلانية والحكمة والذكاء ولا تحمل أي حقد أو انتقام من احد لأنه يحمل رسالة فوق العقد النفسية والثارات والحسابات الشخصية رغم جروح و نتوءات مرحلة الاستضعاف في مكة ،كما انه تعامل مع غير أبي سفيان بفقه الطلقاء عندما قبض على بعض قيادات قريش وطلبوا منه الصفح فقال (اذهبوا فانتم الطلقاء) ،وبهذا الفعل والسلوك كان الرسول صل الله عليه وسلم يرسي منهجا إنسانيا ومسار تتربي عليه الأجيال بان تكون نفوسها صافية فلا تتعالى بمنطق الاستعلاء الإيماني الذي يورث الكبر والفوقية والعلوية ثم الكبر الذي يبطر الحق ويغمط الناس ،هي نفس لا تعلي الا كلمة الله ولا تنتصر لنفسها ولا تشعر بحب الانتصار بعلو الصوت أو الوجاهة في المحيط ،نفس لا ترد على كل كلمة تقال وكل نظرة تراها فلعها عابرة وغير مقصودة ،نفس تعيش بخلق السيادة التي تسري في عروقها تنتصر للجندي الذي قتله أسامة وهو يعلن الشهادة بقوله (ماذا تفعل يا أسامة بلا اله إلا الله يوم القيامة) .
إن بناء نفسية وعقلية التغيير والإصلاح ونشر الخيرية لتحقيق الشهادة والشهود ،يمر حتما عبر نظرية الأمل في المستقبل ومنهجية التراكم في الانجاز ومسار المرحلية في تجسيد الأهداف والتدرج في تثبيت الخطوات ،وهي نفسية ستكون عظيمة إذا اقتنعت أن الاستعجال عدو الانجاز وان التسرع مضيع للفرص وأن اليأس والإحباط طريق إلى الانسحابية والانحراف ،وأن الأمل والتفاؤل والثبات والتحمل والصبر والطموح والحلم بالمستقبل وامتلاك ناصية اكتشاف الأدوات والوسائل والطرق الجديدة لتجسيد الأهداف هو ضمان تحقيق أمر الله سبحانه وتعالى (وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين) ،يحدث ذلك في السياسة كما يحدث في نواحي الحياة المتنوعة ،وكما يحدث للمناضل العادي يحدث للقيادات المستعجلة أيضا ،لذلك تجد الشيخ محفوظ نحناح يؤسس عبر عموده بجريدة النبأ الزاهرة لثقافة التوسط والبحث عن نقطة التوازن في الأخلاق وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي اتخاذ القرارات والمواقف في جو تلتطم فيه الأفكار والإرادات والتيارات بعضها ببعض تدع الحليم حيران، وهو المعروف بمنهجية (بين) (الحركة الواعية بين الظل والشمس+بين الدعاة والبغاة+بين الفاصلين والواصلين+بين الحناجر الصادقة والخناجر الحالقة+بين الشهادة واليأس+بين الفجر الصادق والفجر الكاذب… الخ).
فبين تنمية إرادة التدافع السياسي الحضاري والعدمية السياسية قصة نهضة الأمم وتقدمها ،وهي تحتاج إلى قوة نفسية معنوية عظيمة تجمع بين الذكاء والحكمة وتستشرف المستقبل وترتب الخطوات وتستنفذ الوسع والطاقة وتجمع عناصر الثبات والاستمرار والإصرار وشواهد التاريخ على الوصول إلى الأهداف والغايات كثيرة ومتنوعة ، حيث تشكل نظرية الأجيال المتكاملة وترابط فقه الانتظار مع فقه الانتصار ،حيث تعتبر ثنائية الأمل والانتظار مربط الفرس في عملية التغيير الذي يرتبط بهذه الثنائية فلا تغيير بدون أمل ولا أمل من دون انتظار ،وليس المعنى هنا مرتبط بانتظار المهدي والمخلص حسب منظور الشيعة ،ولكن الانتظار هنا هو الصبر على نمو فسائل التغيير وتطورها إلى حين القطاف ،والتعاطي مع المستجدات وفق رؤية الاستعداد والفعل والرؤية المشتركة على بصيرة واستبصار ينير الطريق نحو الهدف (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) الآية.