نتجدد معا … ننهض معا
شرح الأصول السياسية العشرين
الأصل السادس : أولوية إعادة بناء مرجعية الحكم والدولة والمجتمع (01)
بقلم: د. فاروق طيفور
الأصل السادس : مركزية الدين والمجتمع في الرؤية السياسية العامة مقدم على مركزية الدنيا والدولة في التفكير ،على اعتبار أن فقهنا السياسي يتأسس على أولوية الدين على الدنيا والمجتمع على الدولة،دونما معادلة صراعية بين الدولة والمجتمع ،مما يفرض توفير أدوات ووسائل حراسة الدين وتبليغه وبناء أدوات تقوية المجتمع في مقابل تغول مؤسسات الدولة ،على اعتبار ان حل إشكالية تغول الدولة على المجتمع بسبب أبنيتها وتشريعاتها المستوردة هو حجز الزاوية في معالجة مخرجاتها المعيقة للتنمية بشكل مستدام ،حتى نيسر الإجابة على سؤال النهضة.
هذا الأصل يغوص في محيط إشكالية كبرى تعاني منها النخب الإسلامية فهما وإدراكا لأنها ببساطة تعاملت مع مفاهيم الدولة والحكم والمجتمع والدين بمنطق أفكار السطح وليس أفكار العمق ، وهو الأمر الذي يقتضي إعادة بناء المرجعية الفكرية لمفهوم الحكم والدولة والمجتمع في مقاربتنا السياسية لان ذلك يعتبر حجز الزاوية في إعادة ترتيب الأولويات التي اختلت على طول عمر المسيرة التاريخية لحركات الإصلاح والتغيير بفعل حالة الصراع والفصام النكد والمستدام بينها وبين أنظمة سياسية تربض على صدر الأمة لردح من الزمن ولما تتمكن إلى اليوم من حل عقدة المعادلة المفقودة كما قال الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله في كتابه المشهور(الجزائر المنشودة) ،حيث سنفرد حلقتين لتفسير وشرح هذه المفاهيم الرافعة والحاملة لقيم وانماط واحكام اساسية في بناء الخريطة الذهنية النخب والمناضلين ونطلب من القارئ الكريم تحمل الفقرات المتراكمة لهذا المقال في شرح هذا الأصل ،ففي ظل الفعل ورد الفعل الذي أنتج عديد الظواهر السياسية والاجتماعية التي تحولت إلى طبيعة لصيقة بالتفكير الجمعي لدى النخب التواقة إلى التغيير والإصلاح ،وورثتها الأجيال التي تتلمذت على خطاباتها ومواعظها وتغذت بكتاباتها ومختلف أدبياتها ،مما جعل النموذج المعرفي (البراديم) لتلك النخب تمتزج مفاهيمه ومنطلقاته الفكرية بمفاهيم دخيلة على أصول فكره السياسي الإسلامي ،لتحل محلها مفاهيم المنظور الغربي المحمول عبر أنماط الدولة الحديثة التي عمرت في بلادنا ردحا من الزمن ،والتي تداخلت بشكل بليغ مع مفاهيم المنظور الحضاري الإسلامي ،وصار الوضع الحالي يتطلب إعادة بناء المنظور الحضاري و النموذج المعرفي لدى النخب الإسلامية بما يعيدها إلى تثبيت المفاهيم الأصيلة خاصة للحكم والدولة والتنمية والمجتمع ، حيث تكون البداية بتحقيق مناط لمفهوم مرجعية الحكم والدولة والمجتمع الذي تستهدفه حركات التغيير والإصلاح في مشروعها والذي نستهدف الإشارة إليه وإعادة تأسيسه في عقل صانع القرار في مركز تلك النخب التي يعول عليها في الاستئناف الحضاري في إطار مشروع استنهاض الأمة ،وهو تأسيس ينطلق من إنتاج نموذج معرفي جديد أو بالأحرى إعادة بناء المفاهيم والمفردات الأساسية التي تعلو النقاش دائما بخصوص مرجعية الحكم والدولة والمجتمع وقد يكون من الضروري كما قال الدكتور نصر محمد العارف(01) في دراسته المهمة حول الأسس المعرفية للنظم السياسية الإسلامية التأكيد على أن المقصود بمفهوم “النموذج” في هذا السياق لا يعني بأي حال من الأحوال أية دلالات تتعلق بالنمط المثالي ideal type أو المدينة الفاضلة، أو الحالة النموذجية التي ينبغي أن يتم السعي للوصول إليها أو تحقيقها؛ وإنما يعنى بصورة أساسية مجموعة من الدلالات تتعلق في جوهرها بمفاهيم النموذج المعرفي paradigm أو النسق القياسي أو الأسس المعرفية والفرضيات الكامنة. ومن ثم فإن المقصود بالنموذج في هذا السياق هو رسم خريطة طبوغرافية للملامح العامة والأسس الكلية للحكم الصالح في المشروع الحضاري.
وهذه الملامح العامة أو هذه الأسس والمسلمات التي نطلق عليها في هذا السياق مفهوم النموذج ليست موضوعا يتم ابتكاره أو إيجاده من خلال عملية تأمل أو تنظير لتجارب تاريخية وخبرات واقعية. وإنما هو نموذج يتم الكشف عنه أو اكتشافه، وليس إيجاده أو اختراعه، وفي عملية الكشف هذه يتم الاعتماد بصورة أساسية على روح مصادر التنظير الإسلامية المتعلقة بإدارة شئون المجتمعات وحكمها، وهذه المصادر تعتمد بصورة أساسية على الوحي وما دار حوله من بحث واجتهاد بشري، سواء كان ذلك الاجتهاد سطورا في صحائف أو منقوشا كتجربة واقعية على جدران تاريخ المجتمعات الإسلامية، خصوصا تجاربها السياسية الناجحة التي استطاعت أن تتعاطى مع الأصول النظرية تعاطيا يقوم على الافتقار إلى هذه الأصول ومحاولة استمداد روحها وتفعيلها وليس الاستظهار بها أو استظهارها كمطية لتحقيق شرعية نظم سياسية فاقدة للشرعية سواء في تأسيسها أو ممارساته كما قال الدكتور نصر العارف.
وعلى اعتبار أن المرجعية الإسلامية للمنظور الجديد تقف على قاعدة المبادئ الكلية التي جاء بها القرآن الكريم وممارسات الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ، فإنه ينبغي التأكيد بداية على أنه فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة في ذاتهما وليس في شروحهما لا يوجد أي مصدر آخر له طبيعة الإلزام في صياغة هذا النموذج، إذ أن ما عدا ذلك ما هو إلا مناهج لتنزيل مبادئ الحكم في الإسلام وغاياته على أرض الواقع أو تجارب حاولت أن تستلهم من الوحي نورا يقودها في عملية تنظيم المجتمعات الإنسانية وتسييرها نحو غايات أخلاقية هادفة لتحقيق السعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة.
ولعل ذلك يعود إلى طبيعة وموقع العملية السياسية في النسق المعرفي الإسلامي وكيف أنها في جملتها تقع في إطار الكليات والمقاصد والأطر العامة، ولا ينبغي أن يتم التنظير لها على المستوى الجزئي والتفصيلي إلا إذا كان هدف ذلك التنظير التفاعل مع واقع محدد في زمان ومكان محددين(02).
وقصد تأكيد الكليات والمبادئ الرئيسية للمرجعية الإسلامية وأولوياتها فليس من قبيل التكرار إعادة التأكيد على أن النموذج الإسلامي للحكم نموذج يقوم في جوهره على أسبقية المجتمع على الدولة وعلى اعتبار أن المجتمع هو الأساس ومن ثم فإن بنائه وترسيخ قواعده يعد أولوية أولى ثم تأتي بعد ذلك الدولة أو النظام السياسي كنتاج طبيعي لهذه الحالة المجتمعية.
وجوهر هذه الإشكالية هو العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي عينها التي اختلفت حولها مدارس الفكر السياسي الأوروبي في عصوره المختلفة، وتجلت صورتها النهائية في الاشتراكية والليبرالية كنظريتين متعارضتين في هذا الخصوص. وإن كان خلافهما أكثر حدية وجذرية وتطرفا عن الخلاف الذي شهدته المدارس الفكرية الإسلامية على مر العصور، إذ أنه لم يوجد منها من يقول بعدم الحاجة إلى الدولة أو عدم جدوى وجود النظام السياسي سوى بعض الأفكار الهامشية لجماعات صغيرة عديمة الوزن والتأثير في تطور التفكير السياسي في الإسلام.
ومن جهة أخرى فان مفهوم السياسة في الإسلام كمنظومة فكرية في اللغة العربية يجعل من الفعل السياسي في معظمه فعل مجتمعي غير قاصر على الدولة أو على أجهزتها السلطوية، فجوهر هذا المفهوم هو الإصلاح أو المصلحة، لذلك يرد في سياقات عديدة ومتنوعة، وعلى مستويات مجتمعية مختلفة، ويعطي عند كل منها نفس الدلالات اللغوية ونفس المعاني، فالسياسة على المستوى المجتمعي أو على مستوى الأمة هي: “جلب المصلحة ودرء المفسدة” وهي “أي فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”( محمد بن محمد بن عبد الرزاق المرتضى الزبيدي،تاج العروس من جواهر القاموس، ج16 ص 157 .) وهي ” أخذ الناس إلى الصلاح وأبعد عن الفساد”.
وهنا نجد أن العمل السياسي حتى يكون كذلك لم يكن محتاجا لبناء مؤسسي معين أو أطر تنظيمية معينة أو أدوات قوة ونفوذ معينة أو سلطة معينة كما هو الحال في الفكر الغربي على امتداد عصوره حيث السياسة تحتاج دائما إلى القوة والسلطة لذلك كان علم السياسة يعرف بأنه “علم السلطة” أو “علم القوة” أو “علم الدولة” … إلخ. ومن ثم فإن تعريف مفهوم السياسة ذاته يمكن اعتباره مؤشرا على تحديد مجالها وإطارها ومصداقيتها”(03).فمفهوم السياسة في الإسلام من خلال تعريفة يبين بما لا يدع مجالا للشك أن الظاهرة التي يعبر عنها هذا المفهوم ظاهرة مشتركة متداخلة ما بين المجتمع والدولة، بل أن إطار حركتها هو المجتمع وليس فقط الدولة، إن الناظر في الواقع المعاصر للعالم الإسلامي خصوصا الحركات الإصلاحية التي تحمل صفة “”الإسلامية “” يجد أنها في مجملها تتبنى مفاهيم مختلفة للدولة ونظام الحكم الإسلامي ، بل ولمجمل مفاهيم السياسة والدين ، وقد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن رؤية معظمها إن لم يكن جميعها تستبطن المفاهيم الغربية، والمعاني والدلالات النابعة منها ، وإن حافظت على اللفظ العربي والمصطلح الإسلامي . فالسياسة عندها هي القوة والسلطة والنفوذ وإدارة الدولة والتحكم فيها ، والدولة في عرفها هي الدولة بمعناها المعاش في الواقع العربي والإسلامي المعاصر . وهي المدخل الأساسي بل الوحيد للإصلاح والتغيير ، ولذلك تسعى جميع هذه الحركات للوصول إلى السلطة ولو من خلال وسائل براجماتية تدفعها أحيانا للتحالف مع أحزاب وجماعات ونخب هي أبعد ما تكون عنها من حيث التكوين الفكري والبرنامج الإصلاحي وهو ليس امرا غريبا على تجارب الأمم التي راكمت تجربتها ومتنت جبهتها الداخلية في مرحلة من مراحل التاريخ ولكن المقصود هو الخلط في المفاهيم او الدخول في دائرة العلمنة او اللبرلة من الداخل .ولعل هذا الفهم للسياسة ونظام الحكم قد أدى إلى عملية تشويه شديدة للمنظومة المعرفية التي تتبناها هذه الحركات ، فأصبحت رؤيتها للعمل السياسي أو لنظام الحكم تقوم على معادلة هي في جوهرها خليط من مفاهيم الإسلام والمفاهيم الأوروبية المعاصرة ، هذه المعادلة أنتجت واحدة من أسوأ صور الممارسة السياسية في التاريخ الإسلامي ، فإيمان هذه الحركات بأن السياسة هي القوة أو السلطة أو النفوذ أو علم إدارة الدولة، واعتمادها على مصادر المشروعية الإسلامية أدى إلى الوصول إلى درجة معقدة من الاستبداد خصوصا الاستبداد الفكري الذي يقوم على افتراض امتلاك الحقيقة ومن ثم نزع المشروعية بل شرعية الوجود عن المخالفين ونفيهم خارج المجتمع أو خارج الوجود في بعض الحالات (04).
وذلك أن : (مفهوم القوة + المشروعية الإسلامية = دكتاتورية مبررة )وهذه هي الصورة السائدة الآن في معظم الحركات إن لم يكن جميعها ، وهذا أيضا هو سر إخفاقاتها المتعددة ومحاولات انتحارها المتجددة ، بحيث أصبحت هناك عمليات متواصلة من قطف أعناق أجيال متتالية من أفضل شباب الأمة لا لشيء إلا للتعلق بأهداب الدولة والحرص الشديد للوصول إليها على أنها هي المدخل الأساسي والوحيد للإصلاح، ولا يمكن أن يتم إصلاح إلا من خلال الدولة وأجهزتها . مع غفلة شبه تامة عن معاني ودلالات السياسة في الإسلام وعن طبيعة النموذج الإسلامي للحكم الذي يقوم في جوهره على أولوية المجتمع من خلال تقوية فعالياته وإطلاق طاقاته ، وفي نفس الوقت إحداث عملية تدريجية في تهميش الدولة ودورها ، أولا في الأذهان والوعي والإدراك ، ثم بعد ذلك في أرض الواقع ، وكأن عملية الإصلاح أو عملية بناء نموذج إسلامي للحكم تستلزم أولا : إطلاق طاقات المجتمع وتفعيل قدراته ودفعها لتسد مساحات واسعة من الحاجات الإنسانية . وثانيا : تهميش الدولة ووزنها ودورها في الإدراك الجمعي والوعي المجتمعي .
وثالثا : تقليص تدخلها في المجتمع تدريجيا بحيث يتم تدريجيا إعادة مصادر القوة إلى المجتمع .وهذا الأمر لن يحدث إلا إذا توفر خطاب سياسي إسلامي يعيد تعريف المفاهيم الأساسية للسياسة في الإسلام ، ويعيد طرحها بصورة عقلانية متوازنة تستلهم التراث الإسلامي وتحيط بالفكر السياسي المعاصر والظواهر السياسية المعاصرة ، وفي نفس الوقت ، تقوم بعملية تجديد منهجي لإصلاح مناهج التفكير المتعلقة بمجمل الظاهرة السياسية وتشعباتها، بحيث يكون من أهداف هذه العملية المنهجية تحويل اهتمامات البحث السياسي الإسلامي من التركيز على الحاكم الى التركيز على عملية الحكم ذاتها، ومن الذوبان عشقا في الدولة والسلطة إلى الانشغال بهموم المجتمع وكيفية إنهاض فعالياته وبناء مؤسساته وإعادته إلى حالة القوة التي كان عليها .(05)
ذلك أن الوضع القائم اليوم من أهم تجلياته هو ضعف أدوات وأجهزة ووسائل المجتمع في مقابلة التضخم الكبير للدولة وأجهزتها مما أنتج مساحة فراغ رهيبة بين الدولة والمجتمع على اعتبار أن الخلل الكبير الذي حدث بعد حصول الدول العربية والإسلامية خاصة على استقلالها هو استعارة واستيراد كل أشكال وأنماط الدولة الحديثة فاتسعت الهوة بين الدولة والمجتمع فتغولت الدولة وانعزل المجتمع وتعمقت الأزمة.
نقول ذلك لان حركات الإصلاح والتغيير تمارس السياسة في هذه الدول وإذا تمكنت من الوصول إلى الحكم فستسير وتدير هذه الأنماط ،والتجربة تقول أن الثوار الذين حرروا البلاد العربية من الاستعمار ورغم صدق نواياهم إلا أنهم فشلوا في تدبير شؤون هذه الدولة المتضخمة المتغولة،لان تحديات الدولة الحديثة المستقلة وماتنتجه من قوانين ومؤسسات وأنظمة وأنماط حال دون تمكن مختلف الأنظمة المتداولة على الحكم أن تصل الى تحقيق طموح الشعوب للإصلاح والتغيير والتقدم ذلك ان الدولة الحديثة المستقلة ماتزال تحمل إرثا استعماريا هاما ونمطيا يتعلق بتناقض مشروعها القديم مع طموحات وثوابت المجتمع فالطابع التجزيئي للدولة القطرية التي تتحكم فيها مفردات الظروف والمصالح الداخلية وقوة الفاعل السياسي الدولي في استقطاب القادة البيروقراطيين للدولة الحديثة منهجيا واداريا وفكريا في مشروع عولمي مؤثر خلق امتدادات دولية للدولة القطرية لم تستطع منها فكاكا مهما ادعت الاستقلال والسيادة ،وحصل الفصام النكد بين الدولة والمجتمع حيث تحول محور النضال للجميع من إعداد برامج لتغيير أنماط وسمات الدولة الحديثة إلى الخصام المزمن بين طرفين هما في الأصل طرف واحد ينبغي تقليص المسافة بينهما .
ومن جهة اخرى وعلى اعتبار أن الدول العربية اقتبست من الغرب نموذج الدولة القومية الحديثة، فقوانين الدولة الحديثة لم تقو البنية الاجتماعية للأمة، وكانت التعديلات المؤسسية والتشريعية منقطعة الصلة بالبناء الاجتماعي الموروث، وترتب على ذلك حدوث ازدواجية بين البنية الاجتماعية وبنية الدولة الحديثة فكانت المحصلة إلحاق الضرر والتشوه بالدولة والبنية الاجتماعية معا في آن واحد، وأجهضت احتمالات النهضة فلم تعد الدولة قادرة على حملها ولا الأحزاب السياسية ولا البنية الاجتماعية التقليدية التي فقدت أدواتها وفاعليتها.لان الدولة الحديثة التي نشأت وترعرت في الغرب ،تعرف اليوم دورتها الحضارية في التقدم والازدهار ،رغم بروز مؤشرات الفشل والتراجع في الأفق ،في حين تعرف الدول التي استوردت مفاهيم وأساسيات وقوانين الدولة الحديثة تعرف التخلف والتفكك ،والصدام مع المجتمع؟
إن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الدولة وخاصة في العالم العربي والإسلامي، وهي أنها دولة “مستوردة” ، (حسب تعبير برتران بادي”) فُرضت عليه فرضا من الإمبريالية الغربية، وتضخمت تضخما شديدا تحت رعايتها حتى تحقق مصالحها وتحافظ على هيمنتها.والدولة المستوردة تفقد التأثير على مجمل الحياة الاجتماعية والدينية و لا تؤثر بالمعنى المطلوب على مسار النشاط الاقتصادي وتوجهات القائمين عليه.ولربط المجتمع بالدولة تبرز أهمية المتغير الاجتماعي(المجتمع) (الذي هو عبارة عن تكوينات ومضامين وأجهزة ومؤسسات) في بناء الدولة فإذا أصابها الجمود فقدت الدولة فرص النهضة ،أما إذا تطورت في أشكال جديدة تلائم الظروف المتغيرة المحيطة بها ستكون هذه الأبنية جزءا أصيلا من النهوض .
ونختم بالقول أن الوضع الصحيح لمعالجة إشكالية بناء الدولة هو البحث عن الكيفية التي يتم بها وقف تغولها ، وإعادة استقلاليتها من جديد. ولن نجد هذا الحل في إضفاء مشروعية كاذبة على هذه الدولة، سواء كانت مشروعية إسلامية أو قومية أو وطنية؛ إذ إن ذلك يزيد من هيمنتها وسيطرتها وتسلطها، ولكن الحل هو في تقديم النموذج البديل المستمد من الموروث الثقافي للأمة دون مفاصلة مطلقة مع النماذج الحديثة الأخرى.
وبالتالي يصبح دور الحركات الإسلامية ليس فقط تأسيس الأحزاب والمشاركة في الانتخابات والتدافع من اجل الوصول إلى السلطة والانخراط في هذا المربع الذي قد يحيلها على الصدام المتكرر والنزاع المستدام بفعل انعكاسات أنماط الدولة الحديثة بل يصبح دورها أيضا المساهمة في تشكيل تيارات شعبية(قوة معنوية) وفي مقدمتها العلماء والمفكرين والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والتي لا تضع في برامجها هدف الصراع على السلطة والوصول اليها او حتى المشاركة فيها بل تاخذ موقفقا حازما في الالتزام بلعب دور القوة الضاغطة في دعم مشاريع إعادة بناء الدول بالطريق غير الفرداني وغير الأوروبي الغربي ومقاومة التوجهات الخاطئة سواء كانت من داخل السلطة او من خارجها وسواء جاءت من قوى صديقة او حليفة في السلطة أو نقيضة فيكون الهدف هو البرنامج والثوابت دون ان يتحول ذلك التيار إلى قوة تنفيذية وهذا لا يعني الانعزال أو الموقف السلبي بل هو موقف ايجابي فعال يتجنب الوقوع بالضرورة في براثن السمات المتحكمة لا محالة في السلطة ،فتعطي بالتالي للمجتمع القدرة إلى التصحيح والتقويم في الوقت المناسب وتساهم هذه القوة الضاغطة البعيدة عن الانتهازية والمشاركة في الانتخابات الهزلية في ترسيخ خط التوازن في المجتمع بدل خط الصراع الذي يفرضه النمط الغربي للدولة والحزب والجماعة ـخط التوازن الذي يستخدم آلية الجمع للنخب المجتمعية ويستبعد عملية طرح النخب بعضها لبعض في مجتمع واحد تتسيد فيه الدولة الحديثة وأنماطها وتضعف مؤسسات وأدوات المجتمع في مواجهة هذا السرطان المزمن .
لذلك فان المنظور الجديد يعيد التأسيس لنموذج معرفي يكون بمثابة البراديم الإرشادي لقادة الحركات الاسمية الذين مسؤوليتهم إنتاج الأفكار والمقاربات وصياغة البرامج والمشاريع والمناهج ،وهو بردايم متجدد يعيد تعرف الحركة الإسلامية وتدقيق المفاهيم الرئيسية سيما تلك المتعلقة بالدولة والحكم والمجتمع وكل مايتعلق بها من سياسات ومقاربات وأنماط تنظيمية .
الأصل السادس : أزمة بناء الدولة سبب اضطراب مناهج التغيير (02)