نتجدد معا … ننهض معا
شرح الأصول السياسية العشرين
الأصل السادس : أزمة بناء الدولة سبب اضطراب مناهج التغيير (02)
الأصل السادس : مركزية الدين والمجتمع في الرؤية السياسية العامة مقدم على مركزية الدنيا والدولة في التفكير ،على اعتبار أن فقهنا السياسي يتأسس على أولوية الدين على الدنيا والمجتمع على الدولة،دونما معادلة صراعية بين الدولة والمجتمع ،مما يفرض توفير أدوات ووسائل حراسة الدين وتبليغه وبناء أدوات تقوية المجتمع في مقابل تغول مؤسسات الدولة ،على اعتبار ان حل إشكالية تغول الدولة على المجتمع بسبب أبنيتها وتشريعاتها المستوردة هو حجز الزاوية في معالجة مخرجاتها المعيقة للتنمية بشكل مستدام ،حتى نيسر الإجابة على سؤال النهضة.
كان الحديث في الحلقة السابقة عن إشكالية عميقة وجب الإشارة إليها ودراسة سبل حلها ،لأنها تؤثر مباشرة على أساليب ومناهج التغيير التي تنشدها حركات الاستنهاض الحضاري منذ مايقارب القرن من النضال ،حيث اقترحت تلك الحركات شكل جديد من الدولة ولاسيما بعد سقوط الخلافة الإسلامية ،وقد أخذت تلك الاقتراحات نموذج الدولة الإسلامية التاريخية طريقا لرسم حلم التغيير والإصلاح ،فاعتمدت خطاب تطبيق الشريعة الإسلامية ظنا منها بأن مجرد تسويق هذا الخطاب يكفي لصناعة الانتقال إلى هذا النموذج ،ورفعت تارة أخرى شعار الإسلام هو الحل اعتقادا منها بأنه العنوان المناسب للتحول إلى هذا النموذج التاريخي ،ثم جددت من خطابها لتتحدث عن دولة العدالة والتنمية والحرية ،لكنها لما تتمكن إلى اليوم من تحقيق هذا الحلم المشروع ،من خلال استخدام مناهج متعددة في التغيير اصطدمت كلها بأنماط الدولة الحديثة التي تغولت على المجتمعات واستطاعت أن تنتج أنماط وتشريعات وسياسات وطبائع تقف حاجزا أمام تقدم الأمة وتأجيل خروجها من حالة التخلف ،لتطرح الإشكالية من جديد ليس فقط أمام الحركات الإسلامية التي ترفع شعار دولة مختلفة في قيمها ومبادئها وتاريخها عن الدولة الحديثة بل حتى أمام الحركات العلمانية العربية التي فشلت في تحقيق التنمية بسبب نفس أنماط الدولة الحديثة التي تغولت وتضخمت وصارت تأكل أبناءها.
لتتفطن النخب بكل أنواعها إلى ضرورة إعادة بناء الدولة الموروثة عن الاستعمار، على اعتبار أن الدول العربية اقتبست من الغرب نموذج الدولة القومية الحديثة، فقوانين الدولة الحديثة لم تقو البنية الاجتماعية للأمة، وكانت التعديلات المؤسسية والتشريعية منقطعة الصلة بالبناء الاجتماعي الموروث، وترتب على ذلك حدوث ازدواجية بين البنية الاجتماعية وبنية الدولة الحديثة فكانت المحصلة إلحاق الضرر والتشوه بالدولة والبنية الاجتماعية معا في آن واحد، وأجهضت احتمالات النهضة فلم تعد الدولة قادرة على حملها ولا الأحزاب السياسية ولا البنية الاجتماعية التقليدية التي فقدت أدواتها وفاعليتها.لان الدولة الحديثة التي نشأت وترعرت في الغرب ،تعرف اليوم دورتها الحضارية في التقدم والازدهار ،رغم بروز مؤشرات الفشل والتراجع في الأفق ،في حين تعرف الدول التي استوردت مفاهيم وأساسيات وقوانين الدولة الحديثة تعرف التخلف والتفكك ،والصدام مع المجتمع؟
لقد جُلبت في ظل الاستعمار الأوروبي أنماط قيم ومعايير سلوك تأخذ بأنساق من القيم والمعايير وأنماط السلوك الغربية لقلة من السكان كانت قد ارتبطت وانتفعت من علاقتها الاقتصادية والسياسية به. والنتيجة أن المجتمع بات مشوها اقتصاديا وثقافيا، وعلى المستوى السياسي اصطنعت دول لم يكن لها وجود وكرست سلطات لتغدو دولا، وزرع في قلب الوطن العربي كيان غريب بات يمثل الخطر الرئيس على حاضر ومستقبل الوطن العربي كله. وجرى إدماج الوطن العربي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي وأُلزم بتقسيم دولي للعمل بما يخدم مصالح المركز الأوروبي وأصبح الوطن العربي مدمجا في سوق عالمية تهيمن عليها الدول الصناعية المتقدمة، واُدخلت الكيانات القطرية العربية بعد الحرب العالمية الثانية المسرح الدولي كدول ذات سيادة، وكان ما يحكم إقامة هذه الدولة أو تلك ليس المنطق الجغرافي أو الاجتماعي أو الثقافي بل خلفيات التجربة الاستعمارية وبعض الموروثات التقليدية، والى حد ما الاعتبارات الاقتصادية.
وفي هذا الصدد يشير برهان غليون إلى نشوء ونمو مشروعين لتجديد الدولة كقاعدة للرد على التحديات الخارجية هما (غليون، 1993،ص212):
- ¨ التيار الأصولي الوطني والشعبي في المناطق الطرفية
- ¨ تيار الفكر الاوتوقراطي التحديثي في المناطق الأكثر مركزية والمدن الكبرى.
وعلى هامش هذا المشروع التحديثي الدولوي وبمواكبته نما فكران متوازيان هما: حركة الإحياء الإسلامي، والفكر العقلاني الحديث. ومن تفاعلهما ولدت أول حركة معبئة وملهمة لحركة التغير والتجديد الفكري والاجتماعي، ومن ثم الانبعاث القومي في العصر الحديث وهي الإصلاحية الإسلامية التي يعرفها غليون بأنها (مدرسة فكرية سياسية اجتماعية أكثر مما هي مذهب أو محاولة لتجديد العقيدة الدينية) والتي انخرط فيها مفكرون بارزون أمثال جمال الدين الأفغاني (1838–1897) ومحمد عبدة (1849–1905) وعبد الله فكري وعبد الله النديم (1845-1896) وإبراهيم المويلحي ومصطفى كامل (1874-1908)، حيث أصبحت مصر مركز نشاط الإصلاحية الإسلامية ومقر قيادتها. ويشير غليون إلى أن هذه المدرسة قد نجحت في تقديم إطار مرجعي وأدوات نظرية لتحليل الأوضاع السياسية والاستراتيجية وصياغة برنامج الإصلاحات وبلورة المطالب الاجتماعية لمجمل الحركات الوطنية في مصر، أو سوريا، أو العراق، أو المغرب (غليون، 1993،ص ص52-53).
إن التنظير المعاصر للدولة في الوطن العربي يرتبط بمفاهيم متعددة نابعة من خصوصياتها كالقومية العربية والأمة الإسلامية، أو بين العروبة والإسلام. وان كانت الكتابات الأولى عن الوحدة العربية مبهمة أو متجهة نحو التشدد الديني على العكس من الكتابات المتأخرة التي نزلت بالإسلام إلى مستوى مكون ثقافي أساسي للأمة العربية، ودفعت بالقومية إلى المستوى الذي أصبحت تشكل فيه أساس الأمة العربية (يسين، 1980). ومع ذلك فالقومية كعقيدة تنكر للبلد– الدولة– شرعيته أكثر مما تفعله التيارات الإسلامية (حريق، 1980،ص28). فالمفارقة أن المنظومة العربية المعاصرة عناصرها وافدة، متغربة، لكنها وجدت لتبقى، إذ فعلت العوامل الاقتصادية فعلها ضد المفاهيم الرومانسية فتنوعت ثم ترسخت البلدان القائمة (قرني، 1980،ص50).
والمستعرض للكتابات العربية المعاصرة عن موضوعة الدولة يجدها منشطرة بين أكثر من فريق يميل الأول منها إلى الدمج بين الآراء الغربية والآراء الخلدونية في تفسير نظام الدولة وتطوره. أما الفريق الثاني فيحاول تطبيق الآراء والنظريات الجاهزة التي استوعبوها من خلال ثقافتهم الغربية على واقع الدولة العربية. وخصوصا تلك الآراء الماركسية حول الدولة (زايد، 1985،ص81). في ما يحاول فريق ثالث وضع أسس الدولة وفقا للمعايير الإسلامية. إما إذا نظرنا إلى تلك الكتابات التي حاولت التنظير لتكوين الدولة الحديثة في الوطن العربي وشرح كيفية نشوءها، نجد أنها تنقسم بين اتجاهين رئيسين يميل الأول إلى اعتبار الدولة القطرية العربية كيانات قديمة أعطتها السياسات الاستعمارية شرعية حديثة، في حين يعتقد الثاني أنها كيانات غير شرعية اصطنعها المستعمر في العصر الحديث لتساعده على إحكام هيمنته على الوطن العربي.
وبالعودة إلى الشروط السوسيو تاريخية التي تشكلت في إطارها الدولة في المجتمعات النامية، تتكشف بعض أهم معالم انفصال هذه الدولة عن المجتمع، وابتعادها عن أن تكون دولة قومية أو وطنية: (Etat-Nation – Etat Nationale) متجذرة في المجتمع، معبرة عن تناقضاته، وصراعاته، وحاجاته، واختلافاته، ومكوناته المتمايزة (محسن، 2000).
لقد كانت مجتمعات العالم الثالث، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أمام مشروعين كبيرين متناقضين (بالاندييه، 1986):
– مشروع الدولة التقليدية المحلية بزعاماتها وقياداتها ومثقفيها وتحالفاتها المحلية والخارجية. أي، بتعبير آخر، بكل ما يشكل امتداداتها ومرتكزاتها. ولم يكن هذا المشروع متماثلا في كل المجتمعات النامية المتميزة –كما هو معروف عبر أدبيات سوسيولوجية واقتصادية وتاريخية متعددة- باللاتجانس والاختلاف الجغرافي والتاريخي والحضاري والاقتصادي، وعلى مستوى البنيات والهياكل الاجتماعية والسياسية والثقافية (امين، 1980).
– المشروع الكولونيالي بشتى أشكال تواجده في المجتمعات المعنية، والذي يحمل، في عمق توجهاته واستراتيجياته، مشروعا رأسماليا احتكاريا، بالأساس.
بجلاء أن هناك أكثر من طريق ممكن للتوصل إلى “بناء الدولة”.( نزيه نصيف الأيوبي.العرب ومشكلة الدولة،بيروت، دار الساقي الطبعة الأولى، 1992، سلسلة بحوث اجتماعية (10)، ص160.).
وصدق اونطونيو غرامشي حين قال “في الغرب يتسيد المجتمع المدني على الدولة، وتتخذ سيطرة الطبقة الحاكمة صورة التراضي والهيمنة، في حين أنه في الشرق تتسيد الدولة على المجتمع المدني وتتخذ سيطرة الطبقة الحاكمة شكل التسلط والقهر؛ “فالدولة هي كل شيء”.
إن “الطريق غير الأوربي” في بناء “الدولة”؛ يمكن أن يمثل “النموذج البديل.. لنمط دولة واقعية أخرى ذات مسار تطوري” مغاير لمسار الدولة الأوربية؛ ويقصد به التجربة اليابانية والتجربة الماليزية؛ حيث إن اليابان وماليزيا هي دول واقعية فعالة و”ناجحة”، مع أنها قد سلكت في تطورها مسلكا مخالفا إلى حد بعيد للدول الغربية.( شرارة، (وضاح): حول بعض مشكلات الدولة في الثقافة والمجتمع العربيين، دار الحداثة، بيروت، طبعة أولى، 1980.)
كما يبرز طريق ثاني أساسي يصلح لإعادة بناء الدولة في بلداننا العربية وهو طريق المنظور الحضاري فماهي أصول وأسس هذا الطريق ؟
في الحلقة القادمة : المنظور الحضاري كحل لإعادة بناء الدولة (03)