الرئيسية مقالات أ. حمدادوش ناصر مونديال قطر بأبعادٍ حضارية

مونديال قطر بأبعادٍ حضارية

كتبه كتب في 17 نوفمبر 2022 - 6:22 م
مشاركة

ستنطلق بطولة كأس العالم الأغلى في التاريخ بقطر يوم الأحد 20 نوفمبر 2022م، وهي المرَّة الأولى في تاريخ المنافسة التي تُنظَّم في بلدٍ عربيٍّ بهذه الحلَّة الاستثنائية من حيث الشَّكل والمضمون، وستكون هذه النُّسخة الأشدُّ إثارةً للجدل منذ فوز قطر في ديسمبر 2010م بتنظيم هذه البطولة الأشهر والأضخم، وهي من أصغر الدول في العالم من حيث المساحة، والتي وضعت لنفسها سقفًا سقفًا من التحدِّيات والرَّهانات كعلامةٍ فارقةٍ في مزاحمة الكبار في تنظيم هذه التظاهرات الكبرى بالمعايير العالمية.

لم تتوقَّف محاولات التشويش على هذه التظاهرة، والتشويه لهذا البلد العربي المسلم، والتشكيك في مدى قدرته على استضافة هذه البطولة بهذا التميُّز التاريخي، والمؤكَّد أنَّ الحديث عنها سيستمرُّ إلى ما بعد نهايتها، ذلك أنَّ قطر رفعت التحدِّي فاستثمرت حوالي: 200 مليار دولار على البُنى التحتية والهياكل القاعدية، أي 20 ضِعف ما أنفقته روسيا سنة 2018م في آخر نسخةٍ لكأس العالم، لتعانق كسب امتياز النَّجاح قبل الأوان.

ومهما قيل عن هذا الإنفاق الخيالي في تاريخ تنظيم بطولات كأس العالم، فهو يتجاوز مجرد تنظيمه ضمن اقتصاديات الرِّياضة إلى تجسيد الرؤية الحضارية لقطر 2030م وتطويرها، وما كأس العالم إلا فرصةٌ لتسريع ذلك، إذْ حوَّل كلَّ قطر إلى ورشةٍ كبيرةٍ لتحقيق ذلك الحُلم.

فلم تسلم قطر كبلدٍ عربيٍّ مسلم فاز بتنظيم هذه التظاهرة من حملات تشويهٍ غير مسبوقةٍ،لم يتعرَّض لها أيُّ بلدٍ منظِّمٍ لها من قبل، وصلت إلى الدعوة إلى مقاطعة هذا المونديال، وبدَت هذه الهيستيريا الغربية وكأنها حملاتٌ منسَّقةٌ ومتناغمة، كتكثيفٍ متكرِّر للصورة النمطية “للإنسان العربي” المتخلِّف، والمختزنة في “مخيال الغرب” ضمن دراساته الاستشراقية عن العرب والمسلمين، والتي لا تريد الصناعة الإعلامية الغربية التخفُّف منها، وذلك عبر الاستهداف المركَّز بمضامين ثقافية وخلفياتٍ إيديولوجية، مثَّل شراسةً في الهجوم عليها بأسلحةِ حقوق الإنسان، والحرية الجنسية، واستغلال العمال، وعدم السَّماح بتعاطي الكحول والمخذِّرات في الأماكن العامة، وهي الحملات التي فضحت مَن يقف وراءها من حيث الأسباب والدوافع، وأنَّ هذه الحملات المغرضة تخفي وراءها أبعادًا أعمق من محاولة تشويه صورة قطر، التي ترفع راية هذا النَّجاح وما يثيرُه من رمزياتٍ حضاريةٍ وتاريخيةٍ وعقائديةٍ تشكِّل خطرًا عليهم، في عالَمٍ يتجه إلى إضعاف الهيمنة الغربية، وإعادة تشكيل مراكز النفوذ والقوَّة في القرار العالمي، وصناعة أقطابٍ جديدة، وهذا  كابوسٌ مخيفٌ لأرباب الآحادية القطبية، وأنَّ أخطر ما في حركة التاريخ هي تلك التفاعلات التأثيرية عبر القوة النَّاعمة في تغيير موازين القوى، ومنها عدوى تصدير أنموذج النجاح، وتحريك روافد أخرى كرافعةٍ لنهضةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ قادمة، بما يهدِّد بانزياح المركز الحضاري من الغرب إلى الشَّرق، وتحرير العقل العربي الإسلامي من متلازمة العجز والفشل والانحطاط، وتفكيك أسطوانة الغرب الذي ينظر إلى نفسه كذاتٍ حضاريةٍ متفوِّقةٍ حقوقيًّا وديمقراطيًّا وثقافيًّا، فلا يستطيع – وفق هذه الرؤية – الاعتراف بقوة الآخر، وما النَّجاح في هذا التنظيم الاستثنائي والتاريخي إلاَّ ترجمةٌ طبيعيةٌ لما تشهده قطر من نهضةٍ اقتصاديةٍ وحضارية، لا ترضى أنْ تكون مجرد سوقٍ لفضلاتهم الثقافية ونفاياتهم الأخلاقية والسُّلوكية.

وأن تنظيم المونديال لا يخلو من الرَّمزيات الثقافية والدلالات الحضارية، فقد كشف “أمير قطر” خلال كلمته أمام مجلس الشورى القطري يوم 25 أكتوبر 2022م أنَّ تنظيم هذه الكأس في قطر: “مناسبةٌ نُظهِر فيها (مَن نحن؟) ليس فقط من ناحية قوة اقتصادنا ومؤسَّساتنا، بل أيضًا على مستوى هويتنا الحضارية”، وعبَّر من ألمانيا عن مطالبة الدول الغربية بأن تراعي القيم العربية الإسلامية في الدولة المضيفة لكأس العالم،  كما تطالب الدولُ الأوروبية العربَ والمسلمين باحترام قيمها وقوانينها على أراضيها. إنه امتحانٌ كبيرٌ لدولةٍ بحجم قطر، يعبِّر عن حقيقةٍ واقعية، وهي: انتقال التأثير الحضاري إلى الشرق، ومنه: إلى العالم العربي، ولذلك فإنَّ هذا الحدث لا يخلو من أبعادٍ حضاريةٍ يجب استثمارها والاشتغال عليها، ومنها:

1/ الانتباه إلى المخاطر غير الأخلاقية على البُعد الاجتماعي والثقافي للشَّعب القطري: إذ يُنتظر استضافة نحو 1.3 مليون زائر أثناء هذه البطولة، وهو ما يمثِّل نصف عدد سكان قطر، بما يحمله هذا الكمُّ البشري من طوفانٍ من المعتقدات والثقافات والسُّلوكات التي قد تكون صادمةً لقيم وأعراف المجتمع القطري، كشرب الخمور وتعاطي المخذرات والإباحية والشذوذ الجنسي والمظاهر المخلَّة بالحياء في الأماكن العامة، والتي تدخل ضمن مظاهر المدنية الغربية والحرِّية الشخصية وحقوق الإنسان وفق المواثيق الدولية، وأنَّ الشُّعور بهذه المخاطر على القيم الدينية والخصوصية الاجتماعية أُولَى خطوات التعامل القيمي مع هذه التحدِّيات، وهي من الأبعاد الحضارية في حماية الشَّعب القطري لثقافته وعدم التفريط في خصوصيته، وهو ما يطمئِن على حصانته المعرفيَّة وأمنه الديني، وهو ما كانت قطر صارمةً في اتخاذ الإجراءات التوعوية والتحذيرية والقانونية معه.

2/ أبانت طريقة تصميم الملاعب وتزويدها بالمساجد وبيوت الوضوء ورفع الآذان وأماكن إقامة الجُمُعات على الأبعاد الحضارية لهذه التظاهرة، بما يعكس الهويَّة الدينية والتاريخية لقطر وللعالم العربي، فملعب “الثمامة” صُمِّم على شكل القحفيَّة القطريَّة، وملعب “البيت” مستوحى من بيت الشَّعر “الخيمة”، وهي دلالاتٌ ثقافيَّةٌ غنيةٌ، تمنح عشَّاق كرة القدم معلوماتٍ عن بعض معالم الثقافة العربيَّة والإسلامية، وفرصةً لاكتشاف الصُّورة الحقيقيَّة للإنسان العربي المسلم، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والأفكار المغلوطة، ليبصر العالم مدى التقدُّم الذي وصلته دولةٌ عربيَّةٌ مسلمةٌ، مؤمنةٌ بأنَّ عروبتها ودينها من صميم مقوِّمات نهضتها، وأنَّ العائد الحضاري من وراء تنظيم هذا المونديال يُعدُّ كنزًا في رصيدها التاريخي، وأنَّ أخبارًا إيجابية من العالم العربي والإسلامي – غير الحروب والدماء – هي التي ستتصدَّر شاشات العالم.

3/ هو مناسبةٌ لعرض الإسلام بصورته الناصعة والمتميِّزة، والانفتاح الثقافي والحضاري على جميع شعوب العالم المشدودة إلى هذه التظاهرة، بما يحسِّن من الصورة الذهنية عن الإسلام والمسلمين التي تمَّ تشويهها.وقد دشَّن المركز الثقافي الإسلامي التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية مبادرةً تهدف إلى تعريف جماهير كأس العالم بالإسلام من خلال موادٍ دينيةٍ مترجمةٍ إلى 06 لغات، كما دشنت الوزارة جناحًا يشارك به دعاةٌ من جنسياتٍ مختلفة، مع توزيع الكتب بلغاتٍ عدة للتعريف بالثقافة العربية والإسلامية، ووجود العديد من الجداريات التي كُتب عليها بعض الأحاديث النبوية الشريفة للتعريف بهذه الأبعاد الحضارية.

4/ هو مناسبةٌ لتخفيض منسوب الكراهية ضدَّ الإسلام والمسلمين عبر الأداة السِّحرية للجماهير، وهي كرة القدم: والتي تقدِّر الفيفا نسبة مشاهدة  كأس العالم بحوالي 03 مليار شخص، ففي إحدى الدراسات التي أجرتها جامعةٌ أمريكية سنة 2019م توصَّلت إلى نتائج من أهمها: تراجع جريمة الكراهية ضدَّ الإسلام والمسلمين بنسبة 19 بالمائة بعد انضمام وتألُّق “محمد صلاح” منذ عام 2017م إلى ناديه الإنجليزي “ليفربول”، كما تراجعت نسبة التغريدات والكتابات المسيئة سنة 2021م إلى النصف، وهي البالغة 16 مليون تغريدة للمشجعين، بسبب كسره للحواجز النفسية بينهم وبين الإسلام والمسلمين، وهو ما يُعدُّ اختراقًا كبيرًا في جدار “الإسلاموفوبيا”، وهو الذي لم يتوانَ في إبراز هويته الإسلامية مما رسَّخ صورة إيجابيةً، انتقلت منه كلاعبِ كرةٍ إلى الإسلام في حدِّ ذاته.

فالمؤكد أنَّ كرة القدم ليست مجردَ لعبةٍ محايدةٍ مجرَّدةٍ من القيم والأخلاق والأبعاد الحضارية، وأنَّ تنظيم كأس العالم ليس مجردَ حدثٍ كرويٍّ عابر، بل يمكن اغتنامه في الجمع بين الأخلاق والثقافة والرياضة بما يتجاوز المستطيل الأخضر إلى آفاقٍ أرحب في عالم الأفكار والقيم، فهي مناسبةٌ لنقلةٍ حضارية للعالم العربي والإسلامي بإبراز الإرث الثقافي والمعالم التاريخيَّة والأبعاد الحضارية، وهي فرصةٌ ناعمةٌ للطموح الثقافي والحضاري والفكري لنا جميعًا.

تعليق