تكاد تكون العلاقة بين الحكومة والمعارضة من الموضوعات الأكثر التباسًا وتعقيدًا، والتي قد تصل إلى شيطنة الموالاة وتخوين المعارضة، وذلك على خلفية طبيعة الأنظمة والثقافة الشَّعبية ومدى نضج أيِّ تجربةٍ ديمقراطية، بينما هي في الديمقراطيات العريقة من الخيارات السِّياسية المؤطَّرة دستورًا وقانونًا ضمن التعددية الفعلية، فهي إحدى تجلِّيات الديمقراطية بمفهومها الفلسفي، وإحدى إفرازات الديمقراطية بمفهومها الإجرائي.ومن أهمِّ معوِّقات تطبيع العلاقة بين الحكومة والمعارضة هو عدم تمتُّع الطرفين بقدرٍ من الديمقراطية ثقافةً وسلوكًا، وذلك بتعثُّر تعميق حقِّ المواطنة والقبول بالآخر.
ونحن بحاجةٍ إلى تحديث العملية السِّياسية، وعصرنة منظومة الثقافة الديمقراطية، وهناك أهميةٌ من النَّاحية النظرية، وضرورة من النَّاحية العملية للوقوف على مفهوم المشاركة والمعارضة، إذْ نحن معنيون بأخلقة الممارسة الديمقراطية، ابتداءً من التأصيل النَّظري إلى التقعيد العملي.وقد اقتضت سُنَّة الله تعالى وقوع الاختلاف في الرأي والمواقف بين البشر، كما قال سبحانه:”ولو شاء ربُّك لجعل النَّاس أمَّةً واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحم ربُّك..”(هود:118).
وقد لا يكون من اليسير تحديد مفهوم المعارضة السِّياسية وتشخيص سِماتها، للاختلاف في المنظومة المعرفية والإطار المفاهيمي والمرجعي لها، إلاَّ أنها تُعرَّف عمومًا على أنها: “جماعةٌ أو جماعاتٌ سياسيةٌ تمثِّل الأقلية السِّياسية، بناءً على نتائج الانتخابات البرلمانية، تعمل على تغيير الحكومة وسياساتها، تمارس دور الرَّقابة والمراجعة لتوجُّهات الأغلبية”، فهي ردُّ فعلٍ طبيعيٍّ على نظامٍ سياسيٍّ، وهو ما يعني أنه لا وجود لنظامٍ سياسيٍّ دون وجود معارضةٍ سياسيةٍ له، وهي في المحصِّلة تسعى إلى تقديم نفسها كبديلٍ من أجل المشاركة السِّياسية في الحكم.وتعني المشاركة السِّياسية عند “صامويل هنتنغتون”: “ذلك النَّشاط الذي يقوم به المواطنون العاديون بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي، سواء أكان هذا النَّشاط فرديًّا أم جماعيًّا، منظَّمًا أو عفويًّا، متواصلاً أو متقطِّعًا، سِلميًّا أم عُنيفًّا، شرعيًّا أم غير شرعي، فعَّالاً أم غير فعَّال”، وهو بذلك يتحدَّث عن أنواعٍ ومستوياتٍ من “المشاركة السِّياسية”، وهي: المشاركة التقليدية: والتي تعني المشاركة في الانتخابات والنشاطات السِّياسية العادية، والمشاركة غير التقليدية: والتي تعني الإضرابات والاحتجاجات والاعتصامات والمسيرات والثورات الشَّعبية عندما تكون هناك مخاوفٌ جدِّيةٌ من خطورة السِّياسات الحكومية، والمشاركة غير القانونية وغير الشَّرعية، والتي تعني كسر النِّظام الدستوري والقانوني للبلاد عندما يعجز القانون عن تلبية المطالب الشَّعبية وتحقيق التغيير المنشود.
لقد تبنَّت الحركةُ منهجَ المشاركة السِّياسية القانونية والسِّلمية، والتي تعني الانخراط في الشَّأن العام، والمشاركة في الحياة السِّياسية بالتمظهر القانوني العلني السِّياسي والمجتمعي، والمشاركة في الانتخابات كآليةٍ للوصول إلى الحُكم، والمشاركة في المجالس المنتخبة والهيئات التنفيذية ومؤسَّسات الدولة، وهو مفهومٌ أوسع من مجرد المشاركة في الحكومة.
وقد جاء ضمن التوجُّه السِّياسي العام للحركة، والرؤية الإصلاحية للجزائر المنشودة: “حركة مجتمع السّلم حركةٌ سياسيةٌ شعبيةٌ إصلاحية شاملة، تعتمد على منهجٍ تغييريٍّ سلميٍّ وسطيٍّ معتدل، يستهدف بناء الفرد والأسرة والمجتمع، وتشارك في العملية السِّياسية من أجل استكمال بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السِّيادة في إطار المبادئ الإسلامية، من خلال التداول السِّلمي على السُّلطة، بالوسائل الديمقراطية”.
ومن المغالطات: اعتبار “قرار المعارضة” مقابلا لـ: “خيار المشاركة”، إذْ لا يقابله – وفق الأدبيات السِّياسية – إلاَّ “قرار الموالاة” للحكومة، وأنَّ التأسيس لموقع المعارضة وفق القاعدة العلمية والسِّياسية المنطقية تحدِّدُه نتائج الانتخابات التشريعية والظروف السِّياسية المحيطة، فجاء في لائحة السِّياسة العامة: (ترى الحركة أنَّ معيار المشاركة في الحكومة أو اختيار موقع المعارضة، تتحكُّم فيه نتائج العملية السِّياسية والظروف المحيطة بها..)، وبناءً على ما تقدَّم، فإنه يمكن الوقوف على جملةٍ من المراجعات الدقيقة في ثنائية “المشاركة” و”المعارضة”، وتجاوزها في المؤتمر القادم إلى ما بعدها، وهي:
1- المشاركة أو المعارضة ليست مقصودةً لذاتها، بل هي مساراتٌ اجتهاديةٌ سياسيةٌ لتحقيق هدفٍ وطنيٍّ مشترك، إذ لا يمكن لأيِّ سلطةٍ سياسيةٍ مهما أوتيت من الرُّشد ألاَّ تقع في الفساد أو الفشل أو الاستبداد، مما يستوجب مقابلتها بمعارضةٍ وطنيةٍ قوية، تمارس المساءلة لها والرَّقابة عليها، وهي القاعدة الديمقراطية المبنية على سُنَّة التدافع من النَّاحية الشرعية، في قوله تعالى: “ولولا دفْع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض..”(البقرة:251).
كما أنَّ المعارضة من النَّاحية الأخلاقية تنطلق في أداء دورها السِّياسي من منطلقٍ وطنيٍّ لمصلحة الدولة والشَّعب، وليست بالضرورة من منطلق مصلحة الحزب أو الحكومة، مع تجنُّب أعراض المعارضة السِّلبية، وهي الإصابة بالذاتية والسَّطحية والنرجسية والاستعراضية النقدية، وهو ما يقتضي الارتقاء في أدائها إلى الموضوعية والموضوعاتية، بناءً على بيوت الخبرة ومراكز الدراسات، لا مجرد آراءٍ انطباعية أو ردود أفعالٍ عاطفيةٍ أو حساباتٍ ضيِّقة.
2_ الأصل في “المشاركة” أو “المعارضة” أنها قراراتٌ وليست خيارات: فهي قراراتٌ ظرفية مؤقتة، وليست خياراتٌ استراتيجيةٌ دائمة، إذ أنها مرتبطةٌ بمتغيِّرات النَّسق السِّياسي، وأنَّ من مقاصد المعارضة السِّياسية في الدول الديمقراطية هو الوصول إلى الحكم والمشاركة فيه، ولا معنى لتأسيس الحزب السِّياسي إن لم يكن من أهدافه الأساسية هو تقديم البدائل الجدِّية والواقعية عن كلِّ ما يعارضه في الحكومة، إذ أنَّ المعارضة تحمل مضمونًا تنافسيًّا، وأنَّ الديمقراطية الحقيقيَّة هي حِراكٌ اجتماعيٌّ وسياسيٌّ وثقافيٌّ مستمرٌّ من أجل تحقيق المصلحة العامَّة.
3- هي ليست خيارات مؤتمر، وإنما هي قرارات مجلس الشُّورى الوطني: ولذلك يجد المدقِّق في لوائح الحركة وفي برنامجها السِّياسي أنه لا ينصُّ صراحةً: لا على المشاركة ولا على المعارضة، فهو يستوعب كلَّ القرارات الممكنة خلال العهدة التنظيمية لمدة 05 سنوات، فهي من القضايا الاجتهادية التقديرية، تخضع إلى متغيِّرات كلِّ مرحلة.
4- هي قرارات مؤسَّسات وليست خيارات أفراد: فمن أبشع ما تتعرَّض له الأفكار هو شخصنتها، ومن الظُّلم لهذه الحركة ربط مساراتها التاريخية وخياراتها الكبرى وقرارتها الجماعية بأفرادٍ مهما علا شأنهم، وتحديدًا: اختزال كلِّ مرحلةٍ في شخص رئيس الحركة الذي يقودها، وهو تجاوزٌ في حقِّ القيم السِّياسية والتنظيمية التي تأسَّست عليها، مثل: الشُّورى والديمقراطية والمؤسَّسية، وسيكون من أبشع الأخطاء محاكمة تلك الخيارات والقرارات خارج سياقها، وتقييمها بناءً على معطيات وظروف مراحل أخرى.
5- قد لا يكون العيبُ في قرار المشاركة أو المعارضة بحدِّ ذاته، بقدر ما يكون الخلل في الأداء الفردي أو المؤسَّسي لمن يمثِّلها، وبالتالي سندخل في جدالٍ عقيمٍ ونحن جُهَّالٌ بحقيقة ما نختلف فيه.
6- إنَّ قرار المشاركة أو المعارضة هو قرارٌ نسبيٌّ وليس خيارًا كلِّيًّا، فلا يمكن أن تكون هناك مشاركةٌ عمياءٌ كموالاةٍ مطلقة، كما أنَّه لا يمكن أن تكون هناك معارضةٌ راديكاليةٌ عدميةٌ ضدَّ كلِّ شيء من أعمال الحكومة، فليست السُّلطة شرٌّ كلُّها، وليست المعارضة صوابٌ كلُّها.
7- من أكبر الأخطاء هو الوقوع في إثارة الاستقطاب والتصنيف للأفراد والولايات والمؤسَّسات على أساس المشاركة أو المعارضة، إذ أنها اجتهاداتٌ سياسيةٌ يُطمأن فيها إلى العقل الجماعي المقاصدي في اتخاذها، وأنَّ الواقعية السِّياسية تقتضي المرونة في التعاطي بفاعليةٍ وإيجابيةٍ مع أيِّ قرارٍ مادام ديمقراطيًّا ومؤسَّسيًّا، وهو ما يفرض علينا التَّمتُّع بقدرٍ من المرونة معها، وعدم الشَّيطنة لها أو التخوين فيها.
8- الأهم في كلِّ ذلك هو مدى تمتُّع مؤسَّسات الحركة في اتخاذ قرار المشاركة أو المعارضة بالاستقلالية والسِّيادة في مسارات صناعة القرار وفي آليات اتخاذ القرار، وهو ما يفرض على الجميع التخلُّق بأخلاق العمل الجماعي بعد اتخاذ القرار، ومنها: الانضباط والالتزام بها، والانشغال بالعمل لها، بعيدًا عن الجدل فيها، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: “ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه إلاَّ أُوتُوا الجدل.”.
9- من الخطأ محاكمةُ قرار المشاركة أو المعارضة بناءً على نتائجه لا على مبدئيته: وخاصَّة في العمل السِّياسي المتقلِّب، والذي تتحكَّم فيه العديد من الفواعل والمتغيِّرات، والتي تكون فيه النتائج المادية في عالم الشَّهادة بشريةً نسبية، إلاَّ أنَّ القبول الإلهي فيها قد يكون أعظم من القبول الشَّعبي، وأنَّ العائد القيمي لها قد يكون أفضل من النتائج المادية، وأنَّ الأجر الأخروي عليها قد يكون أولى من الكسب الدنيوي، وأنَّ المآل الاستراتيجي بها قد يكون أزكى من النتائج العاجلة، وقد جاء في الحديث النبوي الشَّريف:”عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ..”، وهذا لا يعني بالضَّرورة فشلاً كمَّيًّا من النَّاحية الدعوية أو السِّياسية لهؤلاء الأنبياء.