الرئيسية مقالات أ. حمدادوش ناصر حرِّية الرَّأي والنَّقد في ميزان الاعتدال

حرِّية الرَّأي والنَّقد في ميزان الاعتدال

كتبه كتب في 8 مارس 2023 - 9:37 ص
مشاركة

تعتبر الحرِّية من أعظم مقاصد الشَّريعة الإسلامية، ومنها: حرِّية الرَّأي والتعبير، والتي تندرج ضمن التصوُّر الإسلامي العَقَدي في تحمُّل المسؤولية وأداء الأمانة في الإصلاح والتمكين، وهي امتدادٌ طبيعي وفطريٌّللتشبُّع بحرِّية النَّفس بأبعادها المتكاملة في حرِّية العقل وحرِّية القلب وحرِّية الضَّمير، وهي بهذا المعنى العميق إنما تنسجم مع الأصل الفطري في الإنسان، كما قال سيُّدنا عمر رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمَّهاتهم أحرارًا..”، وبين الأصل في التشريع، كما قال تعالى: “لا إكراه في الدِّين”(البقرة:256).

وقد تجلَّت مظاهر حرِّية الرأي والتعبير وواجب النَّقد والتقويم في الإسلام عندما امتزجت بالجانب العَقَدي، وما حقيقة التوبة إلاَّ تجلٍّ من تجلِّيات النَّقد الذَّاتي، بالاعتراف بالذَّنب والإقلاع عنه وعدم العودة إليه وردِّ المظالم فيه، وهي من أجلِّ مظاهر الإيمان في مثل قوله صلى الله عليه وسلَّم: “مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع بلسانه، فإنْ لم يستطعفبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”، فتغيير المنكر بالقول يندرج ضمن حرِّية الرَّأي وواجب النَّقد، والذي  يمثِّل جزءًا من عقيدة المسلم، وعنصرًا من عناصر إيمانه.

وقد عرَف الفكر الإسلامي أبهى صور هذه الممارسة الرَّاقية لحرِّية الرَّأي والنَّقد، ومن ذلك ما نجده في علم النَّقد الحديثي للرِّوايات النبوية.وقد أصَّل علماؤنا لذلك الحقِّ، بل اعتبروه واجبًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنُّصح لكلِّ مسلم،ومن ذلك: الحقُّ في نقد الرُّواة وناقلي الأخبار، وواجب التثبُّت من صفاتهم وأقوالهم، كما قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بنبأٍفتبيَّنوا..” (الحجرات:06)، وهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ التحرِّي والتفتيش والتثبُّت من ناقلي الأخبارهو واجبٌ إلهيٌّ تكليفيٌّ قبل أن يكون حقًّا في حرِّية الرَّأي والنقد في ذلك، والآية صريحةٌ في التمييز بين العدل والفاسق في ميزان النَّقد وقبول الآراء والأفكار، بل ترتقي هذه الحرِّية عند وقوع الظُّلم والفساد والاستبداد إلى مقام الجهاد السِّياسي المدني، وهو من أرفع مقامات الجهاد في سبيل الله، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلَّم: “أعظم الجهاد: كلمةُ حقٍّ أمام سلطانٍ جائر”، وأنَّ التخلُّف عن ذلك هو من المهلكات التي تعمِّم العقوبة الجماعية دون استثناء، كما ورد في الحديث الشَّريف: “لتأمُرنَّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُن عن المنكر، أو ليوشَكُنَّ الله أن يعُمَّكم الله بعقابٍ من عنده، ثمَّ تدعونه فأنَّا يُستجاب لكم”.

إلاَّ أنَّ منهجًا علميًّا دقيقًا عادلاً ومُنْصِفًا قد تأسَّس في الحضارة الإسلامية، تميَّزت به الأمَّة دون غيرها، يرتقي إلى مستوى التوفيق بين الحقِّ في حرِّية الرَّأي والنَّقد وبين الانضباط بواجب العدل والإنصاف، والحذَر من الانزلاق إلى الجرائم التي تترتَّب عليها المسؤولية الجزائية في الدُّنيا والآخرة، ومن ذلك:

1- الحذر الشَّديد من الغَيْبة أو البهتان: فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم ما الغَيْبة؟ فقال: ذِكْرُك أخاك بما يكرَه، قال: أرأيت إنْ كان في أخي ما أقول؟ قال: إنْ كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإنْ لم يكن فيه ما تقول فقد بهَتَّه”، وجاء الزَّجر عن ذلك أيضًا في قوله: “يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبعوا عوراتهم..”، والمقصود بتتبُّع العورات هو البحث عن المسَاوِئ لكشفها، والتنقيب عن النقائص لفضحها، بحيث يكون الهدف من ذلك هو الوَضْع من قيمة المغتاب، والانتقاص منه والازدراء له.

2- التحذير من الإعجاب بالرَّأي واتباع الهوى: إذْ أنَّ مشروعية حرِّية الرَّأي والتعبير وواجب النَّقد والتقييم إنما يكون مشروعًا ضمن مقصدٍ شرعيٍّ، وذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة لا من أجل الانتصار للنَّفس والتشهير بالآخرين، وقد قال الإمام الشَّافعي: “ما ناظرتُ أحدًا إلا قلت: اللَّهم أَجْرِ الحقَّ على قلبه ولسانه، فإنْ كان الحقُّ معي اتبعَني، وإنْ كان الحقُّ معه اتبعـتُه”، وهو الذي وضع قاعدةً ذهبية: “قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصَّواب”، وقد جاء التحذير النبوي الشَّريف من الإعجاب بالنَّفس والرَّأي، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: “ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ، وثَلاثٌ مُنْجِياتٌ، وثَلاثٌ كَفَّارَاتٌ، وثَلاثٌ دَرَجَاتٌ، فَأَمَّا المُهْلِكَاتُ: فَشُحٌّ مُطَاعٌ، وهَوًى مُتَّبَعٌ، وإِعْجَابُ المَرْءِ بِنفسِهِ”.

3- عدم الاغترار بالصَّلاح الظَّاهري لناقلي الأخبار، ومحترفي حرِّية الرَّأي والنَّقد: فمن شروط الصِّحة في قبول الأخبار والشَّهادة إلى جانب: صِفة العدالة، والتي من شروطها: الإسلام والبلوغ والعقل والسَّلامة من الفسق وخوارم المروءة، صِفة الضَّبط، وهو: أنْ يسمع الرَّاويُ الكلامَ كما يحِقُّ سماعه، وأنْ يفهم معناه كما أُريد به، وأنْ يثبُت على حِفظه إلى غاية أدائه والتبليغ به، وقد جاء في الحديث النبوي الشَّريف: “نضَّر الله امرأً سمِع حديثًا فوَعَاه وحَفِظه حتى يبلَّغه”، وفي رواية: “فبلَّغه كما سَمِعه”، “،وقد أدرك علماء الحديث هذه الدِّقة في النَّقد عندما ميَّزوا بين الصَّلاح الظَّاهري للرَّاوي وبين أهليته في النَّقد والنقل، والحذَر من غفلة الصالحين فيه، وقد رَوَى الإمام مسلم قول التابعي “أبي الزناد”(ت:130هـ) قوله: “أدركت بالمدينة مائةً كلُّهم مأمون، ما يُؤخذ عنهم الحديث، يُقال: ليس مِن أهله” .

4- مراعاة ميزان العدل والإنصاف: لقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ..”(النِّساء: 135)، ومن ذلك: الموازنة بين الإيجابيات والسِّلبياتوفق قاعدة “سعيد بن المسيِّب”: “ليس من شريفٍ ولا من عالِمِ ولا ذي سلطانٍ إلاَّ وفيه عيْب ولابدَّ، ولكنَّ من النَّاس مَن لا تُذكر عيوبه: مَن كان فضلُه أكثرَ من نقصه، وُهِبَ نقْصُه لفضله”، وقال الإمام الشَّافعي أيضًا: “فإذا كان الأغلبُ: الطَّاعة فهو المُعَدَّل، وإذا كان الأغلب: المعصية فهو المُجَرَّح”، ومن الإنصاف أنَّ انتقادَ جانبٍ من جوانب القصور لا يعني إهدار كلِّ الجوانب الإيجابية المشرقة، فلا تُسرَد السِّلبيات دون الإيجابيات، وفق قاعدة “عبد الله ابن المبارك” في الرِّجال: “إذا غلَبَت محاسِن الرَّجل على مساوئه لم تُذكر المساوئ، وإذا غلَبَت المساوئ على المحاسِن لم تُذكَر المحاسن”.

5- الانتباه إلى محذور حديث الأقران والمتنافسين: والتي غالبًا ما تتلبَّس بالغيرة والحسد والصِّراع والتنافس والهوى والانتصار للنَّفس على حساب الحقيقة، ومن ذلك تلك القاعدة الجليلة لعلماء الحديث، ومنهم الإمام الذهبي في كتابه “ميزان الاعتدال”: أنَّ “كلامَ الأقْرَان يُطْوَى ولا يُرْوَى”، وأنَّ “طَيَّه أوْلَى مِن بَثِّه”، وأنه “ينبغي إِهْدارُ أكثرِ كلامِ الأقران؛ فقد يأتي “بنَفَسٍ حادٍّ فيمن بينه وبينه شحناء”، وأنَّ كلام الأقران يجب أنْ “يُتَأمل ويُتأنى فيه”، وعلَّقه بمعايير كأنْ “يُعامَل الرَّجل بالعدل والقِسط”، أو “أنْ يجِدَ له مُتابِعًا” أو أنْ يُبرْهَنَ على أنَّه عن “هَوَى وعصبية”، والحذَرَ منه “إذا لاَحَ أنه لعداوةٍ أو لمذهبٍ أو لحسد”.

6-  تشجيع حرِّية الرَّأي والنَّقد في الظواهر وترْك الخوْض في السَّرائر: فلم يكن الجرح والتعديل لدى علمائنا مفتوحًا على مصراعيه، يستبيح فيه النَّاقد الظَّاهر والباطن، ويتجاوز فيه حدود الضَّرورة والحاجة، ويدخل في اتهام النِّيات والمقاصد، فاتَّسمت عباراتهم بالإيجاز الواضح، والدِّقة البالغة، والموضوعية السَّاطعة، فكانوا يميِّزون بين انتقاد الفِعل وعدم الاعتداء على كرامة الذَّات الفاعلة، لعموم قوله تعالى: “ولقد كرَّمنا بني آدم..”، فقال تعالى عن سيِّدنا لوط عليه السَّلام الذي أبغض الفِعل ولم يتطاول على الفاعل في قوله: “إني لعَمَلِكم من القَالِين”(الشعراء:168)، وكانوا يقتصرون على الظاهر دون الباطن، كما قال صلى الله عليه وسلَّم: “أشققت عن قلبه؟”، وكانوا يقتصرون على ما تمسُّ الحاجة إليه في النَّقد دون غيره، وقد قال الإمام السَّخاوي: “لا يجوز التجريح بشيئيْن إذا حَصَل بواحد”.

إنَّ حرية الرأي والنقد عاملٌأساسيٌّ في سُنَنِية التدافع الاجتماعي الإيجابي، وبها يحصل التوازن الإنساني، وتتمحص الأفكار والرؤى، وهي رافعةٌ مهمة للتفاعل البشري النافع، وتحقيق المعاني الإيجابية للاجتماع الإنساني، بعيدًا عن الاحتراب والصراع، وتجاوز القواعد الأخلاقية الأساسية.

تعليق