الرئيسية مقالات أ. حمدادوش ناصر إشكالية الرؤية الفقهية للعمل السِّياسي

إشكالية الرؤية الفقهية للعمل السِّياسي

كتبه كتب في 5 يونيو 2023 - 1:37 م
مشاركة
أ. ناصر حمدادوش | نائب رئيس الحركة

تقتضي الضرورة الأكاديمية التمييز بين “الفقه السِّياسي” و”الفكر السِّياسي” قبل الحديث عن أيِّ إشكاليةٍفيالرؤية الفقهية للعمل السِّياسي، ومع أنهما يقومان على إعمال العقل في النص ومع الواقع، إلا أنَّه هناك فروقًا دقيقةً بينهما:

1/ في المرجعية: فالفقه السِّياسي يستمدُّ مرجعيته من الوحي (النَّص المحدَّد)، وذلك باستنباط الأحكام الشرعية العملية المتعلقةبالسياسة من أدلتها التفصيلية، بينما يستمد الفكر السِّياسي مرجعيته من الوحي – كإطارٍ عامٍّ – ومن غيره (مصادر متعددة)، وأنَّ موضوعه الأساس هو التفاعل مع الواقع بتحليله وتوصيفه وإيجاد الحلول له، فهو يستقرئ الوحي وسنن التاريخ وفقه الواقع وما يتوصَّل إليه العقل الإنساني.

2/ في المنهجية: فالفقه والفكر كلاهما يتعامل مع النَّص والواقع، إلا أنَّ منهجية التعامل تختلف بينهما، إذ يتَّجه الفقه إلى تحليل النص وفهم الواقع من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي المنضبط بواسطة منهج الاستنباط، بينما يتَّجه الفكر عبرمنهج الاستقراء إلى توصيف الواقع وتقديم الأفكار العلاجية له، ولا يترتَّب على ذلك – بالضَّرورة – أيُّ حكمٍ تكليفيٍّ إلزامي.

3/في التعامل: فالإنتاج الفقهي يتَّجه غالبًا إلى الأحكام الجزئية والتعاطي مع شؤون الفرد، بينما يتَّجه الإنتاج الفكري غالبًا إلى القضايا الكلية، والتي تَعْنَى بالجماعة والمجتمع والدولة والأمة والإنسانية.

وهو ما يدفعنا إلى التأكيد بأنَّ قضايا الحكم والسِّياسة تخضع إلى رحابة الفكر السِّياسي الإسلامي أكثر من اعتمادها علىضيق الفقه السِّياسي الإسلامي،أي أن العمل السياسيلا ينحصرفي دائرة “الحلال والحرام” أو “الحقِّ والباطل”، بل ينتمي إلى دائرة “الخطأ والصواب”، والتي لا يُحرم صاحبها من الأجر على كلِّ حال، كما قال صلى الله عليه وسلَّم عن “الاجتهاد السِّياسي”: “إنَّ الحاكم إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌواحد”.

* إشكالية الرؤية الفقهية للعمل السِّياسي:

لا شكَّ بأنَّ الاجتهاد في الفكر السِّياسي الإسلامي يقوم على العلاقة: ثلاثية الأبعاد بين النص والعقل والواقع، فالعلاقة بين العقل والنص تقوم على منهج الاستنباط للأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية، والعلاقة بين العقل والواقع تقوم على منهج الاستقراء لرصد الظواهر الإنسانية عبر فقه الواقع، والعلاقة بين النص والواقع تقوم على منهج التكييف والمواءمة بين واقع الإنسان والنص الموجِّه له عبر فقه التنزيل.

وبالتالي فإنَّ التعاطي مع الشأن السِّياسي يقوم على الاجتهاد التقديري المقاصدي وليس على الحِدِّية النَّصية القطعية، وأنَّ من أخطاء الحركة الإسلامية المعاصرة: سيطرة الرؤية الفقهية والقانونية على العملالسِّياسي، ومقاربة الفكر السِّياسي من الزوايا الفقهية، مما يفقده الحيوية والمرونة التي تتطلبها السِّياسة.

ولقد كان للتدقيق العلمي في تحديد منطقة التفكير السِّياسي الإسلامي، والتمييز بين أنواع الاستدلال النَّصي فيها، بين الدوائر الثلاثة، وهي: القطعيات والظَّنيات ومنطقة العفو المسكوت عنها دورٌ في حلِّ إشكالياتٍ خطيرةٍ كانت تعاني منها الحركة الإسلامية، أخرجتها من المنهج التغييري الصدامي العدمي إلى المنهج التغييري السّلمي التشاركي، وهو ما يَنفي الإطلاقية والمثالية في الفكر السِّياسي الإسلامي، ويُخضِعه إلى منطق النِّسبية والواقعية.

ومع ذلك فإنه يمكننا الوقوف على نقاط ظِلٍّ لإشكالية الرؤية الفقهية اتجاه العمل السِّياسي، ومنها:

  • القراءة الانتقائية للفقه السِّياسي: يذكر الدكتور “نصر محمد عارف” في كتابه “في مصادر التراث السِّياسي الإسلامي.. دراسةٌ في إشكالية التعميم قبل الاستقراء والتأصيل” عن الدراسة الكمية لموقع المصادر التراثية في الدراسات المعاصرة عن الفكر السِّياسي الإسلامي أنه قد توصَّل إلى 307 مصدرًا في علم السِّياسة الشرعية، وبعد أن اطلع على 74 كتابًا معاصرًا تناول الفكر السِّياسي الإسلامي حصل على نتائج صادمة حول الانتقائية والعشوائية في التعامل معها، مما يبعدها عن حدود المصداقية، ويُخلُّ بأهمِّ قواعد المنهج العلمي القاضية بوجوب الاستقراء قبل التعميم، فأكثر من 80 بالمائة ممن كَتَب عن الفكر السِّياسي الإسلامي لم يرجع إلى حوالي 3.5 بالمائة فقط من تلك المصادر، فقد تمَّ الرجوع في الغالب إلى كتاب “الأحكام السلطانية” للماوردي بنسبة 74 بالمائة، و”مقدمة ابن خلدون” بنسبة 60 بالمائة، وكتاب “الخَرَاج” لأبي يوسف بنسبة 43 بالمائة، وكتاب “الأحكام السلطانية” لأبي يعلى بنسبة 37 بالمائة، وكتاب “الطرق الحكمية” لابن القيم بنسبة 35 بالمائة.. وهكذا، بل إنه تمَّ التعامل بانتقائية مع المصادر المختلفة للمؤلِّف الواحد، فهذا “الماوردي” لم يرُكَّز إلاَّ على كتابه “الأحكام السُّلطانية” دون بقية كتبه، والتي تُعدُّ أكثر أهمية من منظور الفكر السِّياسي، وليس الفقه السِّياسي فقط.
  • بين “الفقه السِّياسي” و”الإيديولوجيا السِّياسية”: لابد من التمييز بين “الفقه السِّياسي” المستمد من النصوص الشرعية، مثل: القيم السِّياسية الإسلامية الثابتة، وبين “الإيديولوجيا السياسية”، وهي اجتهاد العقل في فهم وتفسير تلك النصوص التي تناولت مختلف القضايا السِّياسية، والتي يعتريها الظني والنسبي، إذْ أنَّ ما تمَّت كتابته في السِّياسة الشرعية والأحكام السلطانية مقيَّدٌ بزمنٍ اجتهاديٍّ في مرحلةٍ تاريخيةٍ معينة، بما يضفي عليها الظرفية والآنية والنسبية، أي أنَّ “النص السِّياسي” خضع إلى تأويلٍ تاريخيٍّ أثَّر على أصالة التنظير الفقهي له حسب ضغوط وإكراهات الظروف الزمانية والمكانية لكلِّ مرحلة من حياة الأمة، وهو ما يفرض الانتباه إلى غلبة تأريخية الفكر السِّياسي الإسلامي على حساب القيم السِّياسية وفق المرجعية النَّصية الأصلية (القرآن والسُّنة)، أي غلبة التاريخ على النص، بل وتأثُّر هذه التجربة التاريخية بثقافاتٍ سياسيةٍ وافدة، كالثقافة السِّياسية الفارسية، وقد قال عبد الرحمن بن أبي بكر لمعاوية عندما أراد البيعة لابنه يزيد: “ما هي إلا هرقلية،إنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر..”، وهو ما عبَّر عنه “مالك بن نبي” في كتابه: “وجهة العالم الإسلامي” بقوله أنَّ: “كلَّ محاولةٍ لإعادة بناء حضارة الإسلام يجب أن تقوم أولاً وقبل كلِّ شيء على أساس سيادة “الفقه الخالص” على “الواقع السائد”.. وهذا يقتضي رجوعًا على الإسلام الخالص، أعني تنقية النصوص القرآنية من غواشيها الكلامية والفقهية والفلسفية”، وهو ما ينطبق كذلك على الفهم الإيديولوجي للإسلاميين في العصر الحديث.
  • تدافع “الفقه السِّياسي” و”الواقع السِّياسي”:  هناك فرقٌ بين “التنظير المبدئي” للفقه السِّياسي من النَّاحية الشَّرعية المجرَّدة، وبين “التنظير الواقعي” للممارسة السِّياسية حسب الظروف الزمانية والمكانية بأبعادها التاريخية، وهو ما يتطلَّب جُهدًا واجتهادًا إضافيًّا للتكييف بين ما هو نظري وبين ما هو واقعي، ومن أخطر الأمثلة التاريخية على ذلك: الانتقال من “الخلافة الراشدة” وفق القيم السِّياسية الإسلامية، وبين الانحراف التاريخي في الشقِّ الدستوري للخلافة الإسلامية، واستسلام العقل الفقهي للحكم الجبري والمُلك العضوض، والذي تنبَّأ به النصُّ النبوي الشريف: “الْخِلاَفَةُ فِي أُمَّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ”،وقد تطلَّب هذا الانتقال المروِّع حجمًا كبيرًا من تكييف “الفقه السِّياسي” تحت ضغط “الواقع السِّياسي” إلى التوظيف الفقهي لمسألة حكم المتغلِّب، والتشريع التبريري لحالات الفساد والاستبداد، فقد تعرَّض هذا النَّوع من الفقه إلى التأويل والتعسُّف حسب خيارات الحاكم المتغلِّب، وأصبح فقهنا السِّياسي يتغذَّى من الأفكار المرهَقة، وأصبح عِبْئًا ثقيلاً على العقل الفقهي وليس مصدرًا ملهمًا له، ممَّا أدَّى إلى تضحية العقل الفقهي بالشَّرعية السِّياسية للحاكم من أجل وَحدة الأمَّة الموهومة والأمن والاستقرار الموهوب، مع أنَّه لا توجد فتنةٌ أعظم من الاستبداد، ومنكرًا أقبحُ من مصادرة إرادة الأمَّة، وجريمةً أخطرُ من اغتيال القيم السِّياسية الإسلامية، والتبرير الدِّيني بمنح السُّلطة غير الشَّرعية حقوق السُّلطة الشَّرعية.

نحن بحاجةٍ إلى تحرير “الفقه السِّياسي” من الثقافة التراثية التي فرضها “الحاكم المتغلِّب” قديمًا، ومن القراءات الحداثية المعاصرة التي تشكِّك في أصالة الفكر السِّياسي الإسلاميحديثًا، وعدم التسليم لأيِّ نموذجٍ سلطويٍّ تاريخيٍّ أو معاصرٍ يتنازل عن الجمع بين “السِّياسة الشَّرعية” و”الشَّرعية السِّياسية” لصالح الأمة، وأن الحركة الإسلامية المعاصرة بحاجةٍ إلى التعاطي مع الشأن السياسي بالفكر لا بمجرد الفقه السياسي، وذلك بالانتقال من العقل الفقهي إلى العقل المقاصدي إلى الفقه الحضاري من أجل الاستئناف الحضاري للأمة من جديد.

تعليق