شرح الأصول السياسية العشرين
الأصل الثالث عشر: منهج الإبداع السياسي لابتكار البدائل والخيارات المتعددة (02)
الخروج من الثنائيات أثناء الاختلاف إلى البدائل المتعددة في اتخاذ القرار وبناء العلاقات مع المخالفين، فحالة الاستقطاب التي أصبحت تميز أداءات حركات التغيير والإصلاح سببها المباشر قصور في إدارة الاجتماع ومجالس الرأي بالانحباس في الثنائيات القاتلة للتنظيمات بدخولها في عالم عمى الألوان لتختصر الكون في لونين (أبيض وأسود) وأما قول لا أو نعم، فيحصل الصراع ثم الفرقة والفشل وذهاب الريح بعد التنازع، في الوقت الذي تطورت فيه اليوم وسائل وأساليب وطرق اتخاذ القرار بدراسة كل زوايا النظر في مستوى وصف الإشكاليات وجمع جميع معطياتها ثم وصف الحلول كل الحلول والمفاضلة بينها وتقريب واختزال المتشابه منها وفق نظرية 360 درجة وليس الانحباس في الزوايا الحادة التي تعزل البعض وتخرج البعض الآخر وتدفعهم إلى الزوايا المنفرجة بما يتيح الفرصة للشللية وجماعات النجوى، ففي طرح البدائل المتعددة مندوحة للاستغراق في الثنائيات والأضداد .
الشرح والتحليل:
إن قرار الانخراط في إحدى الثنائيتين التي تستقطب النخب والشعب كما يحدث اليوم لا يجب أن ننظر إليها بمسطرة حدية حيث يفرض عليك الواقع اختيار إحداهما ،بل يجب تدريب العقل السياسي والنضالي على صياغة البدائل والحلول للمشكل الواحد ذلك أن الاستعجال في الحسم انطلاقا من رؤية خطية لا ترى إلا من زاوية واحدة دون غيرها ،أي الثنائية الحدية (إما.. وإما)وهي من الشروط المعيقة لامتلاك منهج الإبداع السياسي الذي حقق به بعض القادة السياسيين الإنجاز السياسي التاريخي في زمن من الاكراهات الثنائية القاتلة واستطاعوا تجاوز الوضع ببدائل الطريق الثالث والرابع وليس الانخراط في احد الخيارات المفروضة سلفا ،فالعمل السياسي فن لابتكار البدائل والخيارات المتعددة حتى أمكن القول أن نجاح الفاعل السياسي مرهون بمدى تجاوز عقلية الخيارين الحديين إلى آفاق البدائل المتعددة والمتنوعة .
كما أن اختيار خيار من الخيارين لا يعني بالضرورة أنك منخرط أو تابع لأحد طرفي الاستقطاب السياسي حيث يمكن أن تختار اختيار يتناسب مع مقاربتك السياسية بعيدا كل البعد عن طرفي الاستقطاب لان التوافقات الموضوعية تحدث في العالم بعلم وبدون علم، وهو ما يرتب عليك العمل على صناعة الإجماع حول اختيارك وليس اختيار الآخرين وإلا أصبت بداء الحمق السياسي، فهامش المترددين عند الاستقطاب أوسع بكثير من هامش المستقطبين في احد الخيارين الحديين ولاسيما في الحالة الجزائرية اليوم .
وبجملة واحدة فبدل الاقتصار على خيار التبعية يمكن التفكير في خيارات تترواح بين التعايش والممانعة مرورا بالتنازل الجزئي والمواجهة غير المباشرة كما يمكن التفكير في بدل لخيار الإزاحة واستعراض القوة في التحالف والتعاون، فبين التبعية والإزاحة خيارات قائمة وموجودة تحتاج فقط إلى عقلية سياسية مرنة تعرف هدفها وتبحث له في الواقع عن مساحة للاستنبات والبذر ثم السقي والنمو، نقول ذلك لأن من غفل عن تجديد آليات المدافعة الفكرية والروحية والمادية تجاوزته الأحداث وتراجعت فاعليته عن مواكبة حركة التدافع وقذفت به القوى المتدافعة إلى المؤخرة ليدفع ثمن استرخائه وفتوره .
ولذلك يقترح هذا الأصل (13) معالجات عميقة كي لا يتحول الاستقطاب السياسي في الأمة إلى إعاقة مزمنة تطيل من عمر الأزمات وتعمق من قاع الاختلاف، حيث يمكن استبدال الموضوعات الثنائية الاستقطابية التي تثير أطراف التدافع السياسي في البلاد إلى مناقشة مواضيع ذات أهمية بالغة يمكن أن تشكل مساحة مشتركة للعمل فمشروع النهضة مثلا يمثل جسرا كبيرا وبديلا رئيسيا للاستقطابات المتعلقة بالهوية الفكرية بعيدا عن خلق ثنائيات جديدة تتعلق بــ : الاستبداد / الديمقراطيّة، الخراب / العمران، التأخر / التقدم.
كما يقترح الأصل (13) رافعا آخر للخروج من أزمة الثنائيات وهو رافع التنمية كبديل أيضا للاستقطاب السياسي، والتي تعبر عنها مشاريع التنمية البشريّة والتنمية المستدامة وتنمية الموارد البشريّة، كتخفيض نسبة الأميّة ورفع المستوى الدراسي وإشاعة قدر أكبر من الديمقراطيّة النسبية ورفع مستوى المعيشة والصحة وتطوير مفهوم المواطنة وتحقيق الأمن للمواطنين.
ويمكن أن تحقق هذه العوامل على نحو تدريجي وفي أوقات متزامنة ومتعاقبة.
كما يبرز هنا مشروع التوافق كرافع آخر لمعالجة ظاهرة الاستقطاب السياسي والتي تحتاج إلى تدريب عدد من الكفاءات الشبابية على نمطية عقلية جديدة تفرض مسار التعددية كبديل يسند مبدأ التوافق بصناعة الكتلة التاريخية للأمة التي تضطلع بهم التنمية والنهضة بعيدا عن الثنائيات والاستقطابات القاتلة، التعدديّة كبديل عن الثنائيات الفكريّة من خلال مداخل متعددة، تقوم على تفكيك المقولات السائدة المنطوية على الفكر المطلق، وبدلا من ذلك التوجه إلى العقل وطريقة التفكير بوصفهما مكمن الداء والدواء في نفس الوقت، وفي مسيرة التعددية بهذا المنطق نحتاج الى نوعيات من العقليات النخبوية تقف على أسس العقل/الفكر التركيبي وهو المضاد للتفكير بصورة أحاديّة البعد والجانب، والعقل التواصلي لأن من أكثر العوائق التي عرقلت مشاريع الإصلاح والتغيير هو التفكير بمنطق الحتميات المقفلة والمطابقات المستحيلة والثنائيات الخانقة، التي تطبق على العقل وتضع الفكر بين فكيّ كماشة لكي تعيد إنتاج العوائق والمآزق.
وكذلك التدريب على ذهنية العقل التداولي هذا العقل يُخضع للنقد أشكال المصداقيّة ومصادر المشروعيّة، هو تجاوز للنماذج الثقافيّة أو الأنماط البشريّة، سواء من جانب العقليات الأصوليّة بعقائدها المقفلة وتصنيفاتها العنصريّة ومشاريعها المستحيلة أو من جانب القوى الإمبرياليّة بمنطقها الأحادي والعسكري القائم على الانفراد والإقصاء والطغيان أو من جانب النخب الثقافيّة والفكريّة بعقلانيتها القاصرة ومشاريعها الفاشلة فالعقل التداولي هو تجاوز وخروج عن مضادة الثلاثي المسيطر على الساحة الفكريّة في هذا الوقت مما يجعل رهانه أصعب وامتحانه أشد.
ويمكن هنا الإشارة والإشادة بجهود فكرية وسياسية سابقة لمعالجة تداعيات وانعكاسات ظاهرة الاستقطاب السياسي على سلوك و تطلعات الشعوب والحركات السياسية ، والتي أسست لفكرة المنزلة بين المنزلتين ، فقد حفل كتاب “إحياء علوم الدين” للعلامة المفكر أبي حامد الغزالي وكتاب الشيخ الشرباصي “موسوعة أخلاق القرآن” الذين انتبها إلى هذه الظاهرة منذ القدم و التي تحولت من مجرد خطابات الى سلوكات وهو الأخطر ، لنعرف أن بين الجبن والتهور منزلة تسمى الشجاعة وبين الرذيلة والعزلة منزلة تسمى العفة وبين البخل والتبذير منزلة تسمى الإنفاق وبين الغفلة والتجسس منزلة الحيطة والحذر وبين الهوان والكبر منزلة تسمى العزة… إلى آخر ما رتبه الشيخان من منازل ومقامات سلوكية وأخلاقية تكون قاعدة لانطلاق أي معالجة لظاهرة الاستقطاب العامة .
كما أسس الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله لنموذج فريد في معالجة حالة الاستقطاب الخطيرة التي عاصرها وعايشها بحلوها ومرها ،فكان مقاله الأسبوعي في جريدة النبأ الزاهرة “معا نحو الهدف” والذي صدر بعد ذلك في كتاب تحت عنوان “معا نحو الهداف” رسخ فيه الشيخ محفوظ نحناح لنظرية التوازن والوسطية السياسية في جو مكهرب وصل فيه الاستقطاب إلى سقف الاحتراب بين الطرفين، فوجدناه يصيح عبارات وعناوين مفتاحية لمعالجة ظاهرة الاستقطاب السياسي باستقلالية ذكية عن طرفي الاستقطاب فهو الذي نحت فكرة الحركة الواعية بين حقدين وبين تصورين وبين الظل والشمس وأشار إلى رؤية ومنهج الحركة بين الدعاة والبغاة وبين الموقد للفتنة والموقظ لها وبين المزيفين والمخرفين وبين الأصوليين والاستئصاليين وبين الأقليات الماكرة والأقليات الجاهلة وبين الحناجر الصادقة والخناجر الحالقة وبين المتغربين والغرباء والغربان وبين الفجر الصادق والفجر الكاذب وبين حضور مؤهل وغياب معطل وبين الظهور والضمور وبين القفز العالي والسقوط الحر … وغيرها من المعالجات العملية التي كان لها تأثير كبير على ساحة العمل السياسي المستقطب في الجزائر آنذاك واقترح بعد ذلك معالجة كلية من خلال برنامجه الانتخابي لرئاسيات 1999 التي أقصي منها بظلم وتحايل على القانون وحوله إلى كتاب تحت عنوان الجزائر المنشودة المعادلة المفقودة بين الوطنية والإسلام والديمقراطي وهي مقاربة مازال تمثل رؤية لجسر الهوة الكبيرة التي زادها الاستقطاب السياسي توسعا بين التيارات الأساسية في الجزائر .
كما تقترح هندسة معالجة الاستقطاب السياسي العام ضرورة :
• فضح المنزع العنصري الذي يعمل أصحابه بعقليّة التمييز والفرز أو التطهير والتصفيّة من حيث العلاقة مع المختلف والآخر.
• الفكاك من المنزع النرجسي للنخب المثقفة بفكّ وصايتها على القيم والحقوق والحريات.
• تجاوز التقسيمات العرقيّة أو الدينيّة أو الجغرافيّة .
• الاحتكام إلى الأمة في الفرز بين الخيارات السياسية وليس التخندق في خنادق الأنانيات السياسية التي قد تستخدم لتدمير ساحة التنافس السياسي وتفخيخيها حيث ستكون الخسارة مؤكدة لطرفي الاستقطاب وان طاولة الحوار والنقاش وفقه التنازل وتنسيب الطموحات هو جسر العبور نحن الاستقرار السياسي الذي لا تصلح الديمقراطية والتنمية لا به.
• استعداد الأطراف غير الشريكة في حالة الاستقطاب السياسي أو الأطراف العاقلة والمستنيرة منتمية إلى طرفي الاستقطاب السياسي للقيام بأدوار ومبادرات رأب الصدع قبل وأثناء وبعد حدوث حالة الانكسار .
• كما أننا لا نحتاج إلى خطة أو إستراتيجية جديدة لمعالجة حالة الاستقطاب، ولكننا بحاجة إلى خطة أو إستراتيجية جديدة لإعادة بناء الإعلام وإصلاحه، وإذا ما تم هذا الإصلاح، وترك المجال له للقيام بعمله بمهنية تامة واستقلالية فهو سيقوم بدوره في معالجة حالة الاستقطاب التي يمتهنها إعلام التعمية والإشاعة اليوم الذي أصبح منبرا للتحريض وخلق الانقسام السياسي والمجتمعي ونشر الكراهية.
• كشف خيوط ومخططات المخابر والمغارات الالكترونية التي تختص فقط في تغذية الاستقطاب السياسي الداخلي والخارجي وهي مخابر ممولة ولها وظيفة واحدة هي تعميق حالة الاستقطاب السياسي والعمل على سياسة فرق تسد بما تملكه من قدرات مالية وإعلامية وبشرية (إعلاميين باعوا أنفسهم للعمل للشيطان السياسي الذي يقف وراء الاشاعات والتضليل والتسميم و إغارة الصدور والقلوب وتزييف الحقائق لصناعة عقول مرهقة متعبة ثم مصابة إصابات بالغة ترهن تفكيرها وتشغلها بالردود والدخول في منطق رد الفعل ) وهذه المخابر أو ما يسمى اليوم “الذباب الالكتروني” وظيفتها لا تقتصر على تغذية الاستقطاب السياسي بين الأحزاب وداخل الأحزاب والجماعات بل بين الدول وداخل الدول.
كما اقترحنا سابقا في كتابنا “منظومة الرشد في العمل السياسي” توليفة متكاملة لنموذج الرشد السياسي الذي يعالج بعمق ظاهرة الاستقطاب السياسي من خلال اقتراح خارطة إدراكية بديلة حدها الأول المادة وحدها الثاني الروح وبينهما الطريق المستقيم لتجاوز سؤال الأزمة الراهنة ومحنة الشرخ الذي أحدثه الاستقطاب.
إدارة وتسيير الاختلاف والحوار القيادي:
وإدارة التدافع السياسي يفرض أيضا آلية فعالة لتسيير الاختلاف والحوار القيادي في الحزب أو الدولة ذاتها ،على اعتبار أن الفشل في تسيير الاختلاف والحوار القيادي والحرص على استيعاب الآراء المخالفة يوفر مداخل لإفشال هندسة التدافع السياسي التي تختارها القيادة السياسية حيث ستستخدم تلك الاختلافات غير المسيرة تسييرا ذكيا في إضعاف القدرة على إدارة الصراع السياسي مع الأطراف الأخرى التي بلا ريب ستستعمل بعض الشخصيات من داخل الحزب أو الدولة لإضعاف خطط وبرامج القيادة السياسية لذلك أصبح إيجاد آليات لاستيعاب الاختلاف و توفير منصات الحوار القيادي المفتوح من أهم الفروض الكفائية ووسيلة مثلى لتحقيق نجاحات كبيرة في إدارة التدافع السياسي الذي أصبح فعلا وبهذه الصورة يحتاج إلى هندسة وتخطيط ومراجعات لاستدامة الفعل السياسي الإيجابي والمتراكم لتحقيق الإنجاز السياسي المنتظر.
وينبغي من البداية ترسيخ قيمة إدارة الاختلاف بنمط و أرضية جديدة تعتبر اختلاف الأفكار إحدى البديهيات، وأن بإمكان الأفكار أن تتجاور، وأن قبول الرأي والتعايش معه هو ثاني المفاهيم التي يقتضي واجب الوقت أن ترسخ وتقدر وتحترم، ومنهما تكتسب القيادة السياسية والإدارية خبرة قواعد الاختلاف التي اختصرها أحد الباحثين فيما يلي :
– الاختلاف الموضوعي هو اختلاف في الآراء، ولا يمكن اختزاله في الأشخاص وبينهم.
– الاختلاف يعنى أن هناك مساحة متباينة من الآراء عن القضية الواحدة في المساحة بين الصواب والخطأ.
– الاختلاف ليس هو نهاية المطاف بقدر ما هو بداية لجولة جديدة من الحوار والنقاش والإقناع والتفاوض.
– الاختلاف في الرأي يفسد للود قضية بالطبع، طالما جَنَّبَنا التفكير العقلانى.
– الاختلاف يوحى بالفرقة لما يحمله من اختزال الحوار في التركيز على مناطق الصدام والمواجهة، رغم أن الاختلاف يحمل أيضًا مساحة اتفاق مشتركة.
– الاختلاف الموضوعي ليس له سوى طريق واحد، هو الحوار الفعّال.
– الاختلاف يُحتِّم علينا أن نرى الطرف الثاني كما يريد هو أن يرى نفسه، وليس كما نريد أن نراه ونُصنِّفه فكريًا وسياسيًا ودينيًا حسب معتقداتنا ورؤانا وتصوراتنا ومنظورنا.
– الاختلاف يُحتِّم علينا الاحترام المتبادَل بيننا وبين مَن نختلف معه.
– الاختلاف يُحتِّم علينا احترام خصوصية الطرف الذي نختلف معه.
– الاختلاف يعنى حق كل طرف فى اختيار مواقفه وقضاياه.
– الاختلاف هو أحد المداخل الأساسية لاختبار قيمة التعايش المشترك والمصير الواحد.
– الاختلاف يعنى أن هناك بدائل عديدة للحوار، يجب اكتشافها، والعمل عليها.
– الاختلاف هو المصدر الأساسى لظهور أفكار جادة وآراء جديدة.
– الاختلاف لا يتأثر بالمكان بقدر ما يتأثر بالزمان.
– درجة الاختلاف وشدته يمكن أن تكونا مؤشرًا لمدى التفاعل بين الآراء.
– الاختلاف يعنى بداية الحرب لكل ضعيف، وبداية الوصول إلى النجاح لكل مجتهد.
– الاختلاف ليس سُنة الحياة بقدر ما هو دلالة وجود حياة.
– الاختلاف الموضوعى محكوم بآداب الحوار.
– الاختلاف الوحيد الحقيقى هو بين الأبيض والأسود، أما الألوان الأخرى فهى درجات بينهما.
فرؤية الاختلاف بهذه العين ذات الحدقة الواسعة ستوفر للقيادة السياسية معالجة قصر وبعد النظر في آن واحد، فهي نظارة واحدة تحمل في طياتها عدسات القصر والبعد وتتكيف حسب قدرات العين والمحيط الذي يدور حولها،فالعين والبصر هو المدخل إلى البصيرة التي تنتج الحكمة وفصل الخطاب ،وتسيير الاختلاف هو بداية الولوج إلى المستقبل لتحقيق الرؤية البعيدة المدى على اعتبار أن متغيرات البيئة الخارجية تردها معطيات جديدة تصل إلينا بقدر غير مكتمل فلكل زاوية نظر ،وكما نعلم أن المجتمعات في عصرنا الحاضر مجتمعات تتسم بالتغير السريع وقد تبدو الطرق المتاحة لجمع المعلومات غير ملائمة للمشكلات المطروحة، كان لابد من وجود وسائل وأدوات وطرق وفنيات يتم من خلالها مشاركة المعلومات وتبادل الآراء وطرح الخيارات والبدائل وترتيب الأولويات وتحديد الأهداف ورسم السياسات والبدائل لاستشراف المستقبل السياسي والاقتصادي و الاجتماعي والإقليمي والدولي والتكنولوجي وغيرها.
وملخص القول،إننا إن أردنا المضي قدماً وتحقيق الاستمرارية والازدهار والتقدم في ظل التحكم ، وردم الهوة ما بين طموحاتنا وبين الواقع الراهن، فإن الخبراء ينصحون بإتباع الممارسات الست التالية:
1. عِوَض أن تركّز فقط على تنفيذ المهام، لا بد أن نُولي التأقلم مزيداً من الاهتمام،لأن مفهوما “التنفيذ” و”التأقلم” مختلفان تماماً عن بعضهما البعض،فعِوَض أن نوجه فكرنا وجهدنا لحل المشاكل، يتعين علينا أولاً أن نركز على إجراء التجارب.
2. وأن نعتبر القيادة فناً من الفنون التجريبية،فعِوَض أن نفكر في مناصبنا على أنها مستقلة وذاتيّة الحكم، لنفكر فيها على أنها جزء لا يتجزأ من منظومة أشمل تتسم بالتشابك والترابط داخلياً وخارجياً.
3. عوِض أن نستجيب للنزاعات أو الصراعات فقط بمحاولة حلها، علينا أن ننظر إلى الصراع على أنه فرصة لممارسة القيادة، وننظر إليه أكثر على أنه إشارة أعمق عن اختلافات بين القيم، ومن ثم نستكشف تلك القيم ونعيد ترتيبها بشكل متناغم ومتناسق.
4. علينا أن لا نقضي الكثير من الوقت في البحث عن أفضل الممارسات التي تتبعها الجهات الأخرى، ونخصص المزيد من وقتنا للعمل على الابتكارات الجريئة واستكشاف وخلق ممارسات جديدة تتناسب مع بيئتنا، قد ينتهي بها المطاف لأن تُتبع لاحقاً.
5. وأخيراً، وبدل استنزاف أنفسنا وأبداننا حتى الإنهاك من أجل قضية ما، علينا أن نراعي مقولة “إن لنفسك عليك حقاً”، ونعتني بأجسادنا ونفسياتنا لأننا بحاجة لأن نكون بكامل عافيتنا وقواناً لتحقيق الازدهار.
6. وليس آخرا علينا أن نعلم أننا لن ننجح في القيام بكل هذه الأمور من أول محاولة، ولا حتى من الثانية، وفي بعض الأحيان لن ننجح حتى في تحقيقها في المحاولة الثالثة، لذلك نتوقع الفشل ونحضّر أنفسنا له، ونتقبله ومن ثم نتعلم منه. وتذكر قول مانديلا: “أنا لا أفشل البتة، فإما أن أنجح وإما أن أتعلم درساً”. فكل فشلٍ يعتبر مصدراً رائعاً للدروس والمعارف والحِكَم التي تزودنا بمجموعة جديدة من المهارات والرؤى التي تمكننا بدورها من مواكبة التغيرات الجذرية سريعة الوتيرة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية الآن. إننا نمر بمنعطف حاد وحاسم في تاريخ البشرية، ولدى كل واحد منا الفرصة والإمكانية -بشكل غير مسبوق في التاريخ- لرسم ملامح المستقبل.
إن العالم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أشخاص مثلنا يؤمنون بعمق بهدفهم من وراء ممارسة القيادة، والمتمثل في مساعدة مجتمعاتهم وبلدانهم على تجاوز أصعب التحديات التي يواجهونها أثناء تأقلمهم مع هذا الواقع الجديد.
في الحلقة القادمة : منهج الإبداع السياسي والقيادة التأقلمية (03)