لعل في علاقة سورة الكهف بالإسراء إشارة إلى العلاقة بين الصراع والتمكين ، ففي سورة الكهف صراع لا يتوقف وفي الاسراء رحلة الى السماء ليتيقن الفرد أن الحياة معركة مفتوحة ولا راحة فيها إلا في الجنة، وفي ربط الأرض بالسماء دلالة على جوهر دور الإنسان وهو الإستخلاف ودلالة على ربط الدنيا بالآخرة وإذا أراد الانسان أن يرجع إلى مساكنه الأولى فليعرج على طريق المجتهدين ففيه النجاة والسعادة .
وإشارة أخرى إلى أن صراع الانسان في الأرض مع المادية وصورها المذكورة في سورة الكهف ، أما في سورة الاسراء ففيها استبدال بني اسرائيل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا لشيء إلا لأن المادية سيطرت عليهم واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فتحقق الهبوط والاستبدال . إذا أردت أن ينور الله لك بين الجمعتين فلجأ إلى الكهف ، انعزل بنفسك فليس أنفع للقلب من خلوة يدخل بها ميدان فكرة ، ومن آية يرتقي بها الدرجات تلو الدرجات سورة الكهف رحلة لتنظيم فكر الإنسان وترتيب حياته ، وشحذ همته ، وتوضيح الرؤية فهي التي تعصمه من الدجل والدجالين ، ومن الانحراف والمفسدين ، وهي تحوي من الدروس والعبر ما تحميه مما كان يستعيذ منه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في كل وقت وحين ، إنها فتنة الدجال فما السر في ذلك ، وما الصلة بينها وبين هذه الفتنة ؟ وكيف تعلم على اصلاح الفكر وتقويم السلوك ؟ تتحدث سورة الكهف في تسلسل رهيب على مراحل نمو الفكرة عند الانسان وكيف أنها تبدأ كامنة في عقل صاحبها كما في قصة اصحاب الكهف أين يحتضنها صاحبها حين تبدأ فكرة مستهجنة أو محاربة ، لا حل لها إلا بالتلطف حتى تنمو نموا طبيعيا ينتقل بها إلى المرحلة الثانية التي تخرج فيها من الحوار الذاتي والكهف إلى واقع الناس لتصبح مؤهلة للنقاش والتفاعل والحوار والتضاد والتقابل ، ثم تكون مرحلة التطبيق كما في قصة موسى والخضر حيث يجب عليها أن تمتاز بالمرونة كي لا تتحطم على صخرة الواقع ويكتب الله لها التمكين كما في قصة ذي القرنين ، هكذا يرتب القرآن رحلة الإنسان في عالم الافكار فقد يكون في مرحلة أصحاب الكهف ، أو صاحب الجنتين ، وربما يكون في موسى والخضر ، وقد يكتب الله الفكرة التمكين كما في ذي القرنين،المهم أن لا ينسى صحاب الفكرة أن الهدف من الرحلة هو الرشد فهو الذي طلبه الفتية وطلبه موسى عليه السلام ، والرشد إصابة عين الحقيقة ، المشي في الطريق الصحيح ، من أدركه أدرك الخير كله.
تعتمد سورة الكهف على منهج قويم في تقويض المادية وهدم أسسها وقواعدها فتبدأ بإظهار زيفها ودجلها وإن كان لها صولات فقط وأن الحق سينتصر ولو بعد حين كما في قصة الفتية ، وإظهار أطراف المعركة الأبدية بين الايمان والمادية وهما فكرتان لا تجتمعان في قلب مؤمن ثم تبدأ بتقويض النظرة المادية وربط العلاقة بين الأسباب ومسببها ، وأن الايمان بالغيب هو مفتاح النجاة في الدنيا التي تحكمها قوانين الفناء ولا حركة فيها ولا قوة إلا بالله ، ثم تركز على النظرة المحدودة للعقل المادي وعجزه أمام قدرة الله ، وأن التصديق لا يرتبط بالبصر فقط ، وإنما بالبصيرة أيضا ، لتنتهي بتصدير النموذج الحقيقي الذي يجمع بين الإيمان والصلاح وتسخير أسباب الأرض نحو غاية عظمى وفكرة أسمى تتجلى في فكرة جوهرية تنقض المنظومة الحداثية وهي فكرة الإستخلاف ، ولا تتحقق هذه الفكرة إلا بفكرة جوهرية تسقط أعمدة الفكر المادي تتمثل في الإيمان بالغيب ولذلك ختم الله قصة ذي القرنين بتذكر الدار الاخرة وأحوالها وأهوالها جاءت قصة اصاحب الكهف في وقت كان المسلمون يعانون من الاضطهاد والظلم ضاقت عليهم الارض فيها بما رحبت ، يتنزل عليهم القرآن يروي عليهم قصص مليئة بالتفاؤل والأمل ليقول لهم أن دعوة الله منصورة بإذنه وإن بقي أصحابها في الكهف بضع سنين ، ويصبح طريد الأمس عزيز اليوم وتنتهي القصة بانتصار الايمان على المادية لتصبح قصة الكهف قصة الثبات على المنهج والمبدأ قصة الانتصار للعقيدة ، والتخندق بكهف التسليم لله وتعاطي الوصفة القرآنية لعلاج فتنة الدين والثبات على الحق وفي قصة صاحب الجنتين قصة السعي وراء المال والمادة وزينة الحياة الدنيا ، ذلك الصراع الذي يعيشه الانسان ويسيطر عليه حتى تصبح المادة محور سعيه وهمه و يتمسك بالأسباب وينسى مسبب الأسباب ، ويظن أن المال وجنان الدنيا تتحقق بالجهد والكد ، وأنها ملك له وينسى محور القصة المتمثلة في قوله تعالى : ما شاء الله لا قوة إلا بالله في اشارة إلى تفويض الأمور والقوة لله وحده ، ذلك أن الإنسان إذا غفل عن الله تعلق بالأسباب ، وإذا تعلق بها أعرض عن ربه وعاش الضنك والنكد ، وهو ما يمتاز به زخرف الحياة المادية ، تعلق بالأسباب وبعد عن مسببها ، وقلق وهم ونكد رغم كل المظاهر الزائفة ، ولا حل إلا بالإيمان والرجوع إلا الله ، تلك المادية التي تبعث في الانسان تعلقا بزخارف الدنيا وزينتها حتى تصل بصاحبها حد إشراك الأسباب بالله كما قال صاحب الجنتين ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، إنها نفس الصور التي يعيشها إنسان العصر الحالي ، تعلق بالأسباب حد الاشراك ، وبذل في سبيلها حد الكفر بما سواها ، ولا حل إلا بوصفة قرآنية في صورة متسارعة يصف القران حقيقة الحياة الدنيا وقيمتها ووزنها مقارنة بالآخرة ، ويوضح نظرة القرآن لها وأنها مزرعة للآخرة ، وأن الميزان المعتدل أن نستعمل الفانية من أجل الباقية ، وأن نجعل المال في أيدينا لا في قلوبنا ، ويعلمنا أن المؤمن الحقيقي يقف في وجه المادية بكل مظاهرها وفي قصة موسى والخضر جمع بين المعلوم والمجهول ، بين الظاهر والخفي ، تظهر محدودية الانسان في رؤيته للأشياء ، وتحقيق لفكرة الإيمان بالغيب ، تبدأ القصة بتصرفات غريبة ، لا يقرها العقل ولا يتقبلها ،وتنتهي بإقرار لقصور العقل وجرأة الانسان في ادعائه أنه أحاط بكل شيء علما ، في إشارة إلى أن هذا الكون ليس ما أحاط به عقل البشر ، ولا ما أدركته العيون ، وفي تحد واضح للفكر المادي الذي لا يؤمن إلا بالملموس ونقض للحضارة المادية في كل أركانها ، ودعوة إلى الصبر من أجل الاحاطة بكل الجوانب وربط بين السبب والمسبب أما في قصة ذي القرنين : فإقرار بأن النظرة المادية تقوم على فكرة ” إنما أوتيته على علم عندي ” والنظرة الإيمانية تقوم على فكرة ” ما مكني فيه ربي خير ” النظرة المادية تقوم على الدجل والافساد ويظهر قائدها حين يتمكن من قوى الأرض وأسبابها ليفسد فيها ويفتن الخلق ويحارب الحق ، تلك الأسباب التي تملكها قبله سيدنا سليمان وذو القرنين ولكن غاية الدجال كانت الكفر أما غاية ذي القرنين فكانت الإيمان وتسخير قوى الأرض لعبادة الله وتحقيق الإستخلاف والعبودية وعدم الافساد قال تعالى : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور هذا الفكر المادي قد يكون انطماسا في البصيرة ، ويظن صاحبه أنه يحسن الصنع ولكن هيهات إنه الخسران المبين ولذلك قال تعالى في ختام السورة : قل هن ننبؤكم بالأخسرين أعمالا الذين ظل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ” ثم إن سورة الكهف تبتدأ بالحمد لله على نعمة القرآن وتختم بالقرآن في قوله تعالى قل لو كان البحر مداد لكلمات ربي ، في إشارة إلى أن أكبر النعم التي أنعمها الله علينا هي نعمة القرآن ، لتختم السورة بوصية جامعة تمثلت في قوله تعالى ” فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ” إقرار بأن الإيمان أساس النجاة والشرك أساس الخسران.