تؤكّد الحقيقة التاريخية أنَّ الشُّعوب العربية والإسلامية تمتَّعت بحكم”الشَّريعة” في ظلِّ الخلافة الإسلامية، ولم تُبتلَ بطرح إشكاليةِ علاقةِ “الدِّين” بالسياسة والدولة، وهي التي صنعت حضارةً إسلاميةً امتدَّت من القرن 08 إلى القرن 15 ميلادي، كأطوَل حضارةٍ في تاريخ الإنسانية، لا تزال آثارُها شاهدةً عليها إلى الآن، لولا القِطْعة الزَّمنية السَّوداء للحركة الاستعمارية المعاصرة، والتي كانت من بين نتائجها محاولات “رَهْبنة الإسلام” و”عَلْمنة الدِّين”، مع أنَّ شؤون الحكم والسياسة هي جزءٌ أصيلٌ في بناء التصوُّر الإسلامي عن الله والكون والإنسان والحياة، إذْ تضمنت رسالة الإسلام بُعدًا قانونيًّا ودستوريًّا سياسيًّا وعسكريًّا صريحًا، وقد تأصَّل ذلك البُعد في الفقه السياسي القرآني بالمزج بين النبوة والسياسة بالجمع بين “العدل والإحسان” في قوله تعالى: “إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان”(النحل:90) أي بين الحق والقوة، وبين الدين والدولة، فالدولة في الإسلام ضرورةٌ في نقل الأحكام الشرعية العملية من دائرة الالتزام الأخلاقي الفردي إلى دائرة الالتزام القانوني الجماعي.
ومع أنه هناك توجُّهٌ تصالحيٌّجديدٌبين “الدِّين والدولة” في الغرب نفسِه، وهو الذي صدَّر لنا “العَلمانية” كديانةٍ جديدةٍ بديلةٍ عن الدين، ومن هذا التوجُّه: دعوة”البابا” في الإرشاد الرَّسولي سنة 2012م إلى “العَلمانية الإيجابية” كضرورةٍ للدِّين والسِّياسة معًا، والتي يعني بها”تَحرير المعتقد من ثقل السِّياسة، وإغناء السِّياسة بإسهامات المعتقد، بحفظ المسافة اللازمة، والتمييز الواضح، والتَّعاون الذي لا غِنَى عنه لكليهما”، مع التأكيد على”الاحترام المتبادل بين السِّياسة والدِّين، ورفض السُّقوط في التَّجربة المستمرَّة للخلط أو للتحارب”، وذلك بالذَّهاب إلى التسليم بالدَّور الاجتماعي للدِّين، وكأنه يعترف بأنَّ جوهر “العلمانية” هو تراجع الجاذبية الاجتماعية للدِّين، والشُّعور الجماعي بالاستقلالية عنه، كمسارٍ تفقد فيه المؤسَّساتُ الدينية ورموزُها النفوذَ على الثقافة والمجتمع والدولة.إلاَّ أنَّعالمنا العربي والإسلامي أخذ مفهوم “العَلمانية”- باستعارة مضامينها الفلسفية الغربية – بُعدًا تصادميًّا معالدِّين، كمؤامرةٍ لتصفيته والقضاء عليه، ولم يقتصر دور “العلمانية” على تحييد الدِّين وفصله عن الدَّولة فقط، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك بالتدخُّل في “الدّين” نفسِه، بفرض مفاهيم جديدة لممارساته في الحياة العامَّة والخاصَّة، بل وإجبار النَّاس على أنماطٍ جديدة فيه، ومنها: الرَّهبنة”، كحياةٍ دينيةٍ انعزاليةٍ عن الناس، منفصلةٍ عن الواقع والشأن العام، دون مراعاة الاختلاف الجوهري بين “الإسلام” و”المسيحية”، وأنَّ البُعد السِّياسي للعَلمانية بفصل الدّين عن الدولة يتناقض جوهريًّا مع طبيعة الإسلام ووظيفتهفي سياسة الدّنيا بالدّين، فهو ليس مجرد “عقائد لاهوتية”غيبية أو”شعائر تعبديَّة” منعزلة، إذْ شمِلت تشريعاته: الدُّنيا والآخرة، والبُعد الرُّوحي والمادِّي، والحياة الخاصَّة والعامَّة، وعمَّت أحكامُه الفرد والمجتمع والدَّولة، كما قال تعالى: “ما فرَّطنا في الكتاب من شيء”(الأنعام:38)، وهو الدِّين الكامل الذي استوعب مظاهر الحياة جميعًا، كما قال تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورَضِيتُ لكم الإسلام دِينًا”(المائدة:03).
لقد مثَّلت المحاولات المستميتة لإقصاء الإسلام عن الدولة والحياة المبرِّر القوي الأبرز لتأسيس الحركة الإسلامية المعاصرة مطلع القرن العشرين، في إطار الاستئناف الحضاري للأمة من جديد، إلا أنَّ ما وقع لِما يسمونه – عَلمانيًّا”الإسلام السياسي”من إخفاقاتٍ على مستوى تجارب المشاركة السياسية ونماذج الوصول إلى الحكم أحدثت زلزالاً فكريًّا ومفاهيميًّا مدوّيًّا، يؤشِّر على انخراط الحركة الإسلامية في مرحلةٍ مختلفةٍ، وانتقالها إلى طورٍ جديد، ودخولهافي مخاضٍ لولادةٍ وبعثٍ آخر، تنسجم فيه “سُنة التجديد” مع “الحتمية النَّصية” في الحديث النبوي الشَّريف: “إنَّ يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها”، وذلك بالانتقال في القرن القادم من “مرحلة الصَّحوة” على مستوى خطّ المجتمع إلى “مرحلة النَّهضة” على مستوى خطّ الدولة، ومنها إلى الحضارة وأستاذية العالم.
فالإسلام ليس مجرد “شعائر تعبُّديةٍ فرديةٍ بين العبد وربِّه”، بل هو كذلك مادةٌ ثوريةٌ ضدَّ الظّلم والفساد والاستبداد، وأنَّ التديُّن الشَّعبي العام أصبح يتجاوز – كمًّا ونوْعًا – القدرات التنظيمية للحركة الإسلامية، وأنَّ التعامل الاستئصالي أو الإقصائي للأنظمة معها لا يزيدها إلا تعاطفًا وحضورًا بشكلٍ أو بآخر، وأنَّ فشل الأنظمة في “الاحتكام إلى الديمقراطيةّ” وفي “تحقيق التنمية” وفي “احترام القيم السِّياسية والإنسانية” هي من أكبر عوامل استمرار المشروع الإسلامي، ووقود وجوده وعنصر قوَّته اليوم وغدًا، وأنَّ صندوق “الديمقراطية الحقيقية” في العالم العربي والإسلامي يتحدَّى فرضية “ما بعد الإسلاموية”، ويسقط “أطروحة ما بعد الإسلام السياسي”، لأنَّه لم – ولن – يُنْجِب في الأخير إلا مَا ينسجم مع هوية الشُّعوب المسلمة وعمقها الحضاري.
لقد تجاوز التديُّنُ الشَّعبي القدراتِ التنظيمية للحركة الإسلامية، وانتقلت الصَّحوة الإسلامية من “الظاهرة التنظيمية” إلى “الظاهرة المجتمعية”، وهو ما يجعل “العَلمانية والرَّهبنة” تتهاوى أمام امتدادات “الفكرة الإسلامية السياسية” شعبيًّا ورسميًّا، عموديًّا وأفقيًّا، تفرض الاعتراف بأنَّ الإسلام هو حضارة الغد، وأنَّ له قوَّةً ذاتية، فهو المادَّةالحيَّة للحضارة، وهو ما يؤهِّله للبقاء، مهما تعثَّرت محاولاتُ تمثُّلِه البشري سياسيًّا.ويَرَى العلاَّمة عبد الحميد بن باديس (1889م – 1940م) أنَّ الأمم والحضارات تمرُّ بثلاث مراحل، فقد جاء في تفسيره (ص 122، 123) قوله: (الأمم كالأفراد تمرُّ عليها ثلاثةُ أطوار: طورُ الشَّباب، وطورُ الكهولة، وطورُ الهرم)، ويقول: (وما من أمَّة إلاَّ ويجري عليها هذا القانون العام، وإنْ اختلفت أطوارُها في الطّول والقِصَر، كما تختلف الأعمار..)، لأنَّه كما يقول: “أعمارُ الأمم مقدّرةٌ بآجالها في مثل قوله تعالى: “ولكلِّ أمّة أجل، فإذا جاء أجلُهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون”(الأعراف: 34)، فذكر إنشاء الأمم على إثر الهالِكين، في مثل قوله تعالى: “وكم قصَمنا من قريةٍ كانت ظالمةً، وأنشأنا بعدها قومًا آخرين”(الأنبياء: 11)، وذكر طورَ شبابِ الأمَّة وقوَّتَها في مثل قوله تعالى:“عسى ربُّكم أنْ يهلِك عدوَّكم،ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون”(الأعراف: 129)، ويرى برؤيةٍ سُنَنِية رائعة، كمصلحٍ لا كمؤرّخٍ فقط، بأنَّ هناك إمْكانًا للأمَّة في الاستئناف الحضاري من جديد، فيبحث عمَّا يستنهض الهِمم ويبعث الأمل، وأنَّ الحضاراتِ ليست بالضرورة تنتهي بالاستئصال والفناء، بل قد يُقتصر طورُها الأخير على مجرد “العذاب”، إمَّا بالاحتلال والعدوان، أو بالاستبداد والظّلم، أو بالفساد والانحلال، ويستشهد لذلك بقوله تعالى: “وإنْ من قريةٍ إلاّ نحن مهلِكوها قبل يوم القيامة أو معذّبوها عذابًا شديدًا، كان ذلك في الكتاب مسطورًا”(الإسراء: 58)، فالآية تنبِّه إلى نوعيْن من العقاب: الإهلاك أو العذاب الشَّديد، وهذا النَّوع الثاني من العقاب هو ما جعل منه “ابن باديس” موضوعًا لشرح فكرته حول: تجديد حياة الأمَّة وانبعاثها، وإمكانية استئنافها الحضاري، ودخولها في دورةٍ حضارية جديدة.لا تزال الأمَّة تمتلك – وإلى الآن- عناصر الإمْكان للاستئناف الحضاري من جديد، رغم محاولات “العَلمنة” و”الرَّهبنة”، فهي تمتلك رصيد التجربة الإنسانية والتاريخية المتمثّلةِ في النُّبوّة الخاتمة، وتمتلك “صحَّة النَّص السّماوي” المحفوظ والمستوعِب للأفكار والقيم، كما قال تعالى: “إنَّا نحن نزَّلنا الذّكر، وإنَّا له لحافظون”(الحِجر: 09)، وتمتلك العقيدة الصحيحة عن الله والكون والإنسان والحياة، وتمتلك التجربة الواقعية السَّابقة للدولة والحضارة الإسلامية، وتمتلك امتداد الأنموذج التطبيقي عبر الزَّمان والمكان، وفق الحقيقة النَّصيَّة: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خالَفَهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ على ذَلِكَ.”.