تعتمد سورة الكهف على منهج قويم في تقويض المادية وهدم أسسها وقواعدها فتبدأ بإظهار زيفها ودجلها وإن كان لها صولات فقط وأن الحق سينتصر ولو بعد حين كما في قصة الفتية ، وإظهار أطراف المعركة الأبدية بين الايمان والمادية وهما فكرتان لا تجتمعان في قلب مؤمن ثم تبدأ بتقويض النظرة المادية وربط العلاقة بين الأسباب ومسببها ، وأن الايمان بالغيب هو مفتاح النجاة في الدنيا التي تحكمها قوانين الفناء ولا حركة فيها ولا قوة إلا بالله ، ثم تركز على النظرة المحدودة للعقل المادي وعجزه أمام قدرة الله ، وأن التصديق لا يرتبط بالبصر فقط ، وإنما بالبصيرة أيضا ، لتنتهي بتصدير النموذج الحقيقي الذي يجمع بين الإيمان والصلاح وتسخير أسباب الأرض نحو غاية عظمى وفكرة أسمى تتجلى في فكرة جوهرية تنقض المنظومة الحداثية وهي فكرة الإستخلاف ، ولا تتحقق هذه الفكرة إلا بفكرة جوهرية تسقط أعمدة الفكر المادي تتمثل في الإيمان بالغيب ولذلك ختم الله قصة ذي القرنين بتذكر الدار الاخرة وأحوالها وأهوالها إن المتأمل لسورة الكهف يدرك أنه حملت موضوعا واحدا وإن تعددت اشكاله ، موضوع الصراع بين الإيمان والمادية ، ذلك أن الحضارة المادية اتسمت بالدجل والكذب والتزييف ، ولذلك كان ادراك حقيقة هذا الدجل طريق واحد هو كتاب الله ، وهو إدراك يستحق الحمد ، وفعل يستحق الشكر ووسيلة لا تعرف العوج الذي تعرفه الأديان الأخرى ، ولذلك استفتح الله السورة بالحمد الدائم على نعمة الكتاب ونعم إدراك أسراره وسبر أغواره ، ثم كانت القصص الأربعة التي تنوعت في مواضيعها واساليبها وتوحدت في فكرتها وجوهرها وهدفها تجمع بين عالم الأسباب والإيمان ، بين الغيب والشهادة ، وتبطل فكرة المادية التي تعمل على إلغاء مسبب الأسباب وتحييد الايمان وهو ما سندركه من خلال قصص هذه السورة.
فقد جاءت قصة اصاحب الكهف في وقت كان المسلمون يعانون من الاضطهاد والظلم ضاقت عليهم الارض فيها بما رحبت ، يتنزل عليهم القرآن يروي عليهم قصص مليئة بالتفاؤل والأمل ليقول لهم أن دعوة الله منصورة بإذنه وإن بقي أصحابها في الكهف بضع سنين ، ويصبح طريد الأمس عزيز اليوم وتنتهي القصة بانتصار الايمان على المادية لتصبح قصة الكهف قصة الثبات على المنهج والمبدأ قصة الانتصار للعقيدة ، والتخندق بكهف التسليم لله وتعاطي الوصفة القرآنية لعلاج فتنة الدين والثبات على الحق.
وفي قصة صاحب الجنتين قصة السعي وراء المال والمادة وزينة الحياة الدنيا ، ذلك الصراع الذي يعيشه الانسان ويسيطر عليه حتى تصبح المادة محور سعيه وهمه و يتمسك بالأسباب وينسى مسبب الأسباب ، ويظن أن المال وجنان الدنيا تتحقق بالجهد والكد ، وأنها ملك له وينسى محور القصة المتمثلة في قوله تعالى : ما شاء الله لا قوة إلا بالله في اشارة إلى تفويض الأمور والقوة لله وحده ، ذلك أن الإنسان إذا غفل عن الله تعلق بالأسباب ، وإذا تعلق بها أعرض عن ربه وعاش الضنك والنكد ، وهو ما يمتاز به زخرف الحياة المادية ، تعلق بالأسباب وبعد عن مسببها ، وقلق وهم ونكد رغم كل المظاهر الزائفة ، ولا حل إلا بالإيمان والرجوع إلا الله ، تلك المادية التي تبعث في الانسان تعلقا بزخارف الدنيا وزينتها حتى تصل بصاحبها حد إشراك الأسباب بالله كما قال صاحب الجنتين ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ، إنها نفس الصور التي يعيشها إنسان العصر الحالي ، تعلق بالأسباب حد الاشراك ، وبذل في سبيلها حد الكفر بما سواها ، ولا حل إلا بوصفة قرآنية في صورة متسارعة يصف القران حقيقة الحياة الدنيا وقيمتها ووزنها مقارنة بالآخرة ، ويوضح نظرة القرآن لها وأنها مزرعة للآخرة ، وأن الميزان المعتدل أن نستعمل الفانية من أجل الباقية ، وأن نجعل المال في أيدينا لا في قلوبنا ، ويعلمنا أن المؤمن الحقيقي يقف في وجه المادية بكل مظاهرها.
وفي قصة موسى والخضر جمع بين المعلوم والمجهول ، بين الظاهر والخفي ، تظهر محدودية الانسان في رؤيته للأشياء ، وتحقيق لفكرة الإيمان بالغيب ، تبدأ القصة بتصرفات غريبة ، لا يقرها العقل ولا يتقبلها ،وتنتهي بإقرار لقصور العقل وجرأة الانسان في ادعائه أنه أحاط بكل شيء علما ، في إشارة إلى أن هذا الكون ليس ما أحاط به عقل البشر ، ولا ما أدركته العيون ، وفي تحد واضح للفكر المادي الذي لا يؤمن إلا بالملموس ونقض للحضارة المادية في كل أركانها ، ودعوة إلى الصبر من أجل الاحاطة بكل الجوانب وربط بين السبب والمسبب.