في الفاتح من أفريل 2024م دمَّرت غارةٌ صهيونيةٌ مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، مما أسفر عن مقتل 16 شخصًا، بينهم قائد فيلق القدس في سوريا ولبنان التابع للحرس الثوري الإيراني وعددًا من الضباط البارزين معه.
ويُعتبر هذا الهجوم تجاوزًا للخطوط الحمراء بقصف القنصليات الديبلوماسية، والتي تعدُّ أرضًا سيادية لإيران، تتمتع بالحصانة الديبلوماسية وفق القانون الدولي، وهو ما طرح التبعات القانونية والسياسية لهذا الهجوم، وحقَّ الدفاع المشروع بالرَّد عليه، وخاصة بعد فشل مجلس الأمن في إدانته، وأعطى دائمًا هذا الامتياز الاستثنائي للعربدة الصهيونية في المنطقة تحت الرعاية الأمريكية، وكأنَّ إسرائيل ولايةٌ من الولايات المتحدة الأمريكية، لها كامل الحرية المطلقة في تجاوز القوانين الدولية والأعراف الديبلوماسية والقيم الإنسانية ما دامت تتمتع بحقِّ الفيتو الظالم من أجل حمايتها في كلِّ مرَّة.
وبحسب الاستقراء التاريخي لتصرفات الكيان الصهيوني فإنه لا يستحق التعامل معه وفق القوانين الدولية، لأنه كيانٌ فاشيٌّ، نازيٌّ ومحتل، لم يلتزم يومًا بالأعراف الإنسانية والقوانين الدولية، سواء داخل فلسطين المحتلة أو خارجها، إذْ لا يفرق بين العسكريين والمدنيين، ولا بين الثكنات العسكرية والمقرات الدبلوماسية والمؤسسات المدنية والهيئات الأممية، وسيكون من الإجحاف إدانةُ أيَّةِ ضحيةٍ تقاومه أو تردُّ عليه.
وقد لا نختلف في اعتبار هذا الهجوم والرَّد عليه حادثًا مفصليًّا، له تداعياته البارزة في المنطقة والعالم، وسيدشِّن مرحلةً جديدةً في الصراع الوجودي مع هذا الكيان اللَّقيط، وسيكرِّس قواعدَ اشتباكٍ جديدةٍ في مواجهة “العلو الكبير” لإسرائيل، ومَن يقف خلفها من الصَّهاينة العرب والغربيين.
لا تستطيع “طهران” الوقوف متفرِّجة أمام هذه الخطوة المجنونة، لأنها خدشت “الصبر الاستراتيجي”، ولا يمكن القبول بقواعد جديدة في الصراع تأكل من رصيدها في “الرَّدع الاستراتيجي” ، لكنها في نفس الوقت تخشى أن يؤدي الردُّ الواسع إلى اندلاع حربٍ إقليميةٍ مباشرةٍ وشاملة هي غير مستعدةٍ لها، وهو ما يخشاه الجميع كذلك، فهي تدرك قبل غيرها أنه إذا كان هذا الانتقام “لا مفرَّ منه” فإنها قد تنجرُّ إلى ما تريده إسرائيل باستدراجها إلى حربٍ مباشرةٍ، تعتبر “قبلة الحياة” و”طوق النجاة” لإنقاذها من مستنقع “الفشل الاستراتيجي” في غزة، وتمكِّنها من جعل طهران في مواجهةٍ مفتوحةٍ مع حلفائها الغربيين والعرب المطبِّعين، بما يسرِّع بتحقيق أمنيتها في تشكيل تحالفٍ إقليمي ودوليٍّ ضدَّها.
هذا الرَّد بهذا الشكل والحجم دفع البعض إلى طرح سؤالٍ جدي، وهو: هل هذا الرَّد الإيراني مجرد مسرحيةٍ متفقٍ عليها تصبُّ في مصلحة العدو الصهيوني؟ أم هي مواجهةٌ استراتيجيةٌ حقيقية؟
فهناك مَن يرى بأنَّ الرَّد الإيراني مجرد مسرحيةٍ مكشوفة، فقد اعترفت إيران بأنها أبلغت أمريكا وعددًا من الدول بموعد العملية العسكرية قبل تنفيذها بحوالي 72 ساعة، وأكدت أنها لن تستهدف إلا القواعد العسكرية الإسرائيلية التي انطلقت منها طائرات (F 35) في هجومها على قنصليتها في دمشق، تطبيقًا لمبدأ الدفاع عن النفس، وأنَّ الطريقة الإيرانية في الرَّد والإبلاغ عنه مكَّن وسائل الدفاعات الجوية الإسرائيلية والأمريكية والفرنسية والبريطانية والأردنية من تدمير العديد من الصواريخ والمسيرات الإيرانية قبل وصولها إلى أهدافها، كما أنَّ هذه العملية لم تسفر عن أيٍّ من الخسائر البشرية الإسرائيلية، وأنه كان ينبغي عليها توظيف عنصر المباغتة والمفاجأة، كما أنَّ هذه الضربة أدَّت إلى نتائج عكسية، ومنها: لملمة الداخل الإسرائيلي لمصلحة نتنياهو، وإرجاع تعاطف الدول الغربية وبعض الدول العربية مع هذا الكيان النازي، بل وأعطت فرصة ذهبيةً لتحالفٍ دولي مع إسرائيل ضدَّ إيران ومحور المقاومة، وشغلت العالم عن مجازر العدو الصهيوني المستمرة في غزة.
فلم تعد خافيًّةً محاولات “نتنياهو” الخروج من أزماته الداخلية، ورغبته في الانتقام من طهران الداعمة لحركات المقاومة، والتي ساهمت بصورةٍ واضحةٍ في فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أهدافه في غزة، رغم مرور أكثر من نصف سنة من حربه المجنونة، وصولاً إلى محاولات استدراج أمريكا إلى المواجهة المباشرة مع إيران، وتوسيع دائرة الصراع في المنطقة، وتوريط الجميع فيها، على قاعدة: “عليَّ وعلى أعدائي”.
لقد مارست إيران “الصبر الاستراتيجي” عقب اغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني” على يد أمريكا ببغداد في جانفي 2020م، وبقي الرَّد المباشر معلَّقًا ضمن استراتيجية الردِّ طويلة المدى، مع أنها تجرأت في سابقةٍ تاريخية، وردًّا على ذلك الاغتيال، فاستهدفت فيه بشكلٍ مباشرٍ قاعدة “عين الأسد” الأمريكية، ووُصف ذلك الهجوم بأنَّه “أكبر هجوم باليستي ضدَّ الأميركيين على الإطلاق”، ومع ذلك فقد ظهر خطر مصطلح “الجمود الاستراتيجي” بعد وضع “تحرير فلسطين والقدس” و”دعم المقاومة” في المنطقة ضمن الخطاب الرسمي والأدبيات الدينية والسياسية لإيران، ومع ذلك كان ردُّ فعلها من حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة طيلة أكثر من نصف سنة منذ 07 أكتوبر 2023م مثيرًا لانتقاداتِ خصومها وغيرَ مرضيٍّ لحلفائها، حتى جاء الهجوم الصهيوني على قنصليتها في سوريا، فكان الرَّد الأوَّل في تاريخ الصراع مع هذا العدو منذ قيام الثورة الإسلامية سنة 1979م علنيًّا ومباشِرًا ومن الأراضي الإيرانية، وعلى الهواء مباشرة، وباستهداف قواعد عسكرية غايةً في الحماية بأحدث الدفاعات الجوية الغربية، على مسافةٍ تصل إلى 1100 كلم، رغم الضغوط الدولية بعدم الرَّد خوفًا من انفجار المنطقة بأكملها، فقد كان حجم هذا الرَّد ونوعيته بحوالي 350 من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة استعراضًا لهذا الانتقال من “الصبر الاستراتيجي” إلى المحافظة على قدرات “الرَّدع الاستراتيجي” من تآكله، في زمن “الفشل الاستراتيجي” لهذا الكيان العنصري، عبر “ديبلوماسية الصواريخ والطائرات المسيَّرة”، وهو نموذجٌ مصغَّرٌ لسيناريو “زوال إسرائيل” عبر الضَّربات الجوية المركَّبة عسكريًّا وجغرافيًّا من عدة جبهات، بعد توحيد الساحات في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وهي تجربةٌ لمناورةٍ عسكريةٍ بالذخيرة الحيَّة، وبشكلٍ فعليٍّ وحقيقي وواقعي، وُصِف أمريكيًّا بحسب منسق مجلس الأمن القومي الأميركي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض “جون كيربي”: “بالهجوم الجوي الإيراني غير المسبوق”، ووُصِف صهيونيًّا بحسب وزير الحرب الإسرائيلي “يوآف غالانت” أنَّ كيانه عاش “أكثرَ ليلةٍ دراماتيكيةٍ بتاريخه”، رغم التسويق المكثَّف للفشل الإيراني والتقليل من أهمية هذا الإنجاز وحجمه ضمن الحرب النفسية وترميم الصورة المتهالكة لإسرائيل عبر السرديات المفضوحة، إذْ تواجه أزمةً كبيرةً في معركة الصورة والمعلومة.
هل هي مواجهةٌ استراتيجيةٌ حقيقية؟
بالرغم من الآثار الجانبية السلبية لهذا الرَّد الإيراني، والتي وصلت إلى وصفه بالمسرحية ، فإنَّ هذا الرَّد لا يخلو من أبعادٍ استراتيجية جدية، ومنها:
_ كان بإمكان إيران أن تردَّ بشكلٍ متماثلٍ ضدَّ المصالح الإسرائيلية في الخارج، إلاَّ أنها أخذت وقتًا كافيًّا لاختيار الرَّد المباشر، ومن إيران إلى الداخل الصهيوني، في رسائل جريئة ومباشرة.
_ لقد استخدمت إيران جزءًا بسيطًا من قدراتها ضدَّ “إسرائيل”، استدعت كلَّ هذا الاستنفار من الدعم الغربي والعربي، بما رسم معادلاتٍ جديدةً في الرَّدع، وفرَض نتائج استراتيجيةً ستلقي بظلالها على المستقبل وعلى أيِّ مواجهة قادمة.
_ أثبت هذا الرَّد أنَّ “إسرائيل” المنفردةً أضعف ما تكون في مواجهةٍ استراتيجيةٍ متكاملة، فمن المؤكد أنَّه لولا هذا الدعم الخارجي لكانت تداعيات هذا الهجوم أكبر مما هو متوقَّع، وهو ما يؤشَّر على هشاشة هذا الكيان، وتآكل قدراته الذاتية، فهو أوْهن من بيت العنكبوت لولا هذا الحبل من الناس، وبالرَّغم من هذا الدعم الغربي المطلق لإسرائيل فإنَّ هيبة هذا الكيان وقدراته على الدفاع أو الهجوم أصبحت تثير الأسئلة الوجودية على مستقبله، وأنَّ إيران ومحور المقاومة أصبحت لهم من الجرأة ما يرعب “إسرائيل” ويهزَّ الثقة في مزاعمها بتوفير الحماية والأمن لليهود في العالم.
_ جرأة إيران على الردِّ المباشر من أراضيها، بعد أكثر من ثلاثة عقود، لم تجرؤ دولةٌ على هذا الاحتلال، ناهيك على تنفيذ هجوم عليه، يرسم مشهدًا جديدًا في الصراع معه، كما رسمته المقاومة الفلسطينية بمعجزتها العسكرية في معركة “طوفان الأقصى”.
_ استهدفت إيران قاعدة “نيفاتيم” الجوية في بئر السبع، وهي أهم قاعدةٍ لسلاح الجو في “إسرائيل”، تبعد بحوالي 1100 كلم عن إيران، وتُعدُّ المقرُّ الأساس لطائرات “F-35″ الأمريكية الأحدث، وهي تعمل برادار ” “band-X القادر على كشف التهديدات الجوية من مسافة 5000 كلم، ومع ذلك تمَّت إصابتها بشكلٍ دقيقٍ ومباشر، رغم التعتيم الإعلامي الصهيوني وفرض الرقابة العسكرية على ذلك.
_ تكمن أهمية الرد الإيراني في التداعيات الاستراتيجية المستقبلية، وهو ما يفرض إعادة رسم التوازن الإقليمي والدولي في التعامل مع محور المقاومة، كما يثبت هذا الردُّ – على محدوديته المتعمدة – قدرة إيران على مواجهة قوة عالمية عظمى دون تردد.
_ هناك حساباتٌ للكلفة المالية والمادية للحرب في ميزان الربح والخسارة أيضًا، فالجانب الإيراني أنفق حوالي 60 مليون دولار على هذه الضَّربة، بينما كلَّفت إسرائيل وحلفاءها أكثر من 1.3 مليار دولار، وهي قيمة الصواريخ الاعتراضية التي تمَّ إطلاقها، يُضاف إلى الخسائر التي قُدِّرت بأكثر من 70 مليار دولار في معركة “طوفان الأقصى”.
_ تأخير الرَّد أو عدم الرَّد مطلقًا يحمل مخاطر استراتيجية، منها: “فقدان هيبة” إيران كقوةٍ مقاومةٍ لهذا العدو الصهيوني وللوجود الأمريكي ولخطر تمدُّد مشروع التطبيع الذي يريد ابتلاع المنطقة، وهو ما يؤثر سلبًا على مشروع المقاومة في الأمة بأكملها.
_ هذا الرَّد الإيراني غير المسبوق على إسرائيل يؤسِّس بالضرورة لمعادلةٍ جديدة في المنطقة، فهو ليس مجرد تسجيلٍ لردِّ الاعتبار أو لردع إسرائيل فقط، بل هو بحسابات الصراع معها منذ عملية “طوفان الأقصى” يعدُّ إسْفِينًا جديدًا في نظرية الأمن الإسرائيلية، وفي العقيدة العسكرية الصهيونية يزيد في “المأزق الاستراتيجي” لهذا الكيان.
لقد غادرت إيران سياسة “الصبر الاستراتيجي” على العربدة الإسرائيلية في المنطقة، إلا أنَّ هذا الانتقالُ إلى “الرَّدع الاستراتيجي” كان بشكلٍ عقلانيٍّ ومضبوط، وبالرغم من محاولة “نتنياهو” العودة إلى سردية تصوير إسرائيل على أنها “ضحية”، لاكتساب شرعيةٍ داخليةٍ وخارجيةٍ جديدة، واسترجاع بعض التعاطف العالمي والعذرية الدولية، إلا أنَّ ذلك لا يغطي عورة “الهزيمة الاستراتيجية” لإسرائيل في غزة وفي العالم