التغيير تصنعه الكتل المتناغمة التي ستصطف اختيارا وراء قائد يفرزه الميدان وتتطلبه المرحلة القادمة ، وتنصره نصرة كاملة لا هوادة فيها ولا ردة ولا خذلان أما تلك الجماعات التي ستفرقها الجغرافيا والأعراق والحدود والقيود فستبحث عن سيد لا قائد ، وسيبقى ذلك السيد سيدا مادامت المصلحة وكان العطاء ، لأن النصر سيرتبط بالمنصب ومع المنصب سيكون أصدقاء البدايات أعداء ما بعد النهايات ، فالقائد الحقيقي وإن استعمل الغنائم في بعض الأوقات إلا أنه سيواصل معاركه مع تلك الثلة التي ستقول في مثل تلك المواقف اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .
ولذلك كان لنا في قصة بني اسرائيل عبرة وعظة فلما طغى فرعون وتجبر وبلغ من السوء مبلغه ومن المكان أعلاه كان الايذان بالخراب وبداية النهاية ، فعندما يبلغ أسوأ انسان أعلى مرتبة في المجتمع فتلك دلالة الهلاك مصداقا لقوله تعالى في احدى القراءات المشهورة “وإذا أردنا أن نهلك قرية أَمّٓرْنَا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرنا تدميرا ” وقد استعان هذا الفرعون لتثبيت سلطته بوزراء سوء وسحرة يسحروا أعين الناس ويسترهبوهم فيظهروا الحقيقة على غير حقيقتها وصورتها ، وفي الجانب المقابل كان هناك قوم مستضعفون نالوا من الظلم أكثره ومن العقاب أقذره وصبروا فكان لهم شرف التمكين وفضل الوراثة ” ونريد أن نمن على الذين استضعفوا ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ”
ولما كانت إرادة الله كان سيدنا موسى عليه السلام الذي صنعه الله لهذا الأمر الجسيم والقدر العظيم ” ولتصنع على عيني ” مع فتح عينيه تتقاذفه الأمواج إلى بيت عدوه فينشأ خبيرا بأسرار الحكم وبيت العدو ويعيش باقي أيامه وحيدا طريدا لا يعرف راحة ولا سكونا ، وحتى في تعليمه يسعى إلى من يعلمه في رحلة شاقة متعبة ،ومع بداية المواجهة تكون الرسالة الواضحة ” أرسل معي بني اسرائيل ” وتكون اليد البيضاء هي الزاد والمواجهة بسلاح العدو ، ومع بداية المفاصلة تظهر لغة العدو الواضحة ” إن هؤلاء لشرذمة قليلون ” ” وإنهم لنا لغائضون ” ” وإنا لجميع حذرون ”
ومع بداية المعركة يتصدر المشهد السحرة ليزيفوا الحقائق على غير صورتها ويشيجوا العامة من أجل يوم مشهود يفضحون فيه سيدنا موسى عليه السلام وأصحابه ، وتنتظر العامة ذلك اليوم فربما ينالهم من الكذب ما يصوغ لهم القعود والخنوع ” علنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبون ” فتأتي البينة من سيدنا موسى تلقف ما يافكون ، تلك البينة التي يقف أمامها السحرة عاجزين فيتبعون موسى عليه السلام وينخرطون معه في رحلته ، ولكن الفرعون يأبى فهو يدرك أن الخذلان من الاقربين هزيمة فينالهم من التعذيب ما يرفعهم الى الله شهداء .
ولما كانت المعارك الفاصلة هي قدر الله على العباد ، كان الخذلان أقسى ما يمكن أن يصيب القائد والأمة ، وكان صفة ملازمة لبني اسرائيل حتى حق فيهم الاستبدال ، فقد كتب الله على كل أمة تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير أن يستبدلها الله ويمكن لغيرها ويترك أفعالها شاهدة عليها تتعلم منها الأمم وتتكون .
الخذلان في الأتباع يبدأ بتمكن حب الدنيا من القلوب وسيطرة المادية وضعف الإيمان فتنطمس البصيرة فتبدأ صناعة العجول وقتل الفحول والانسحاب في اللحظات الفاصلة وإيثار العاجل على الآجل وتزييف الحقائق وكتم العلم وتحريف الكلم ، حينها يبدأ الخذلان بالكفر بالأفكار وايثار القعود على شاكلة إذهب أنت وربك فقاتلا إننا هاهنا قاعدون ، وعلى طريقة :إنا لن ندخلها ماداموا فيها” حتى يتمكن الخوف من القلب فيؤثروا القعود خوفا من جبروت العدو ” إن فيها قوما جبارين ”
الخذلان في الأتباع هو التشدد وكثرة السؤال والتفاوض والتبرير والتفسير كما فعل بنو اسرائيل في قصة البقرة، هو عدم الصبر على طعام واحد والرغبة في تجربة كل جديد ، هو ” أنى يكون له الملك علينا ” في رغبة جامحة من أجل منازعة كل من اكتسب شرعية القيادة ، في وضع المعايير الدنيوية في تصنيف القائد ” ولم يوت سعة من المال ” في عدم الصبر على عوائق الطريق .
أما الخذلان في القيادة فهو سيطرة حظوظ النفس وتضخم الأنا ، هو ذلك السامري الذي يخرج ما يلمع في أعين الأتباع من حب المتاع وتوظيفه في التمكين لنفسه ورفع كل مجواف ، والخوف من كل صادح بالحق وناقد يريد الخير للجميع ، هي قارون الذي قال إنما أوتيته على علم عندي عكس ما قال ذو القرنين ” ما مكني فيه ربي خير ” هي ذلك الاستعلاء الذي مارسه الفرعون حين قال ” ما أريكم إلا ما أرى ” هي الانتصار للنفس على حساب المبدأ وايثار العاجل على الآجل وتمكن حب الدنيا والمنصب من القلب .
حين يأتي الطوفان وينفلق البحر يجب على الجميع أن ينشغل بموقعه بين أهل الحق وأهل الباطل ، ولأن صلاح القاعدة هو من يصنع قوة القيادة سيخرج من بين الركام قائد كداوود عليه السلام لم يكن في المشهد اطلاقا يقود الأمة الى نصر والتمكين .