أسطول الحرّية (3) .. جهادٌ مدنيّ – الجزء: 01
إن “أساطيل الحريّة” تشبه “استراتيجية السّرايا” التي اعتمدها النّبيُّ صلى الله عليه وسلّم في التطوّر النّوعي لسُنّة التدافع، وهو ينشد “الحرّية” ويقول: “خلّوا بيني وبين النّاس”، والاستقراء التاريخي يثبت أنه “صلى الله عليه وسلّم” بدأ مرحلته الدّفاعية عن الدّعوة بعد الهجرة ووضع أركان الدولة بمعركة “الكرِّ والفرّ” عبر هذه “السّرايا”، وهو تطوّرٌ نوعيٌّ للانتقال من “سلمية” المرحلة المكيّة إلى ضرورات المواجهة وملاقاة العدوّ دفاعًا عن النّفس وحمايةً “للدعوة”.
وبعد التدقيق في كتب التأريخ والسِّيَر نجده قد بعث حوالي: 73 سريّة، ابتداءً من سريّة “حمزة بن عبد المطلب” رضي الله عنه إلى “سيف البحر” في رمضان 01 هـ، إلى سريّة “أسامة بن زيد” رضي الله عنه إلى “البَلْقاء” بالشام في سنة: 11هـ، وهي عبارة عن مجموعاتٍ صغيرةٍ لا يشارك فيها النّبي صلى الله عليه وسلّم، وفي الغالب لا يكون الغرض منها القتال والمواجهة العسكرية، بل لتحقيق بعض الأهداف المرحلية المحدّدة، وهي تمهيدٌ للغزوات والمعارك الكبرى التي بلغت: 28 غزوة شارك فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والحكمة منها هي: تدريب الصحابة رضوان الله عليهم على المواجهات المصيرية المستقبلية، وإظهار جانب القوّة والعزّة لدى المسلمين، واستعراض العضلات أمام الأعداء المتربّصين، وإشعار الآخر بأنه ليس حرًّا بأن يفعل ما يشاء دون ردّة الفعل وتوازن الرّعب، وأن سلمية المرحلة المكية لا تدوم أمام جرأة المشركين واليهود على الدّماء والحرمات والممتلكات، وأن العدوّ لابد أن يذوق مرارة الجرائم وأن يتحمّل مسؤولية الحماقات وأنه ولابدّ: مُؤَاخذٌ على كلّ ما يفعل..
ولقد حقّقت هذه السّرايا جملةً من الأهداف، وأثمرت عدّة انجازاتٍ منها:
– التعرّف على البيئة المحيطة (سياسيا وجغرافيا وعسكريا..) فهادنوا البعض وتحالفوا مع آخر.
– اكتساب الخبرة العسكرية والجرأة على المواجهة وإشعار العدوّ بعدم الأمان.
– التدريب على الرسائل المشفّرة بعنصر المفاجأة والتهديد والإرباك للآخر.
– ممارسة الضغط، وخلق جوٍّ من الحصار السياسي والاقتصادي وتهديد مصالح العدو.
– الانتقال إلى استراتيجية: خير سياسةٍ للدّفاع هي الهجوم، لاستنزاف قوّة العدو وتحطيم معنوياته…
وكانت نقطة التّماس – غير المرغوب فيها – عند الصحابة رضوان الله عليهم هي غزوة “بدر” في رمضان: 02 هـ، والتي كان الهدف منها هو: اعتراض تجارة قريش القادمة من الشام بقيادة “أبي سفيان”، تعويضا لهم على ما تركوه في مكة، وما نهبته قريشٌ فيها، وشاءت الحكمة الإلهية أن تكون مواجهةً تاريخيةً ومصيرية، يقابل فيها: 314 مسلما، حوالي: 1000 مشرك، في أوّل اختبارٍ عسكريٍّ حقيقي. ويكشف القرآن الكريم الخبيئة النّفسية للمؤمنين، في مراجعاتٍ نقدية جريئة وصريحة، بإرادتهم غنيمة التجارة وليس ملحمة القتال، فقال تعالى:” وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.” (الأنفال:7،8)، يأتي هذا الكلام بعد أن كرِه الصحابة الخروج للمواجهة، وجادلوا في عدم الاستعداد للمخاطرة، فقال تعالى عنهم:”كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.”(الأنفال:5،6).
*) أسطول الحريّة .. نوعٌ من الجهاد المدني:
هناك مَن لا يريد الانعتاق من الثنائية القاتلة: إمّا الجهاد العسكري (والذي لا نستطيعه) أو الاستسلام أمام العدوّ الصهيوني، فتُعطّل الطاقات وتُشلُّ الأفكار ونعجز عن الحركة، ولا نبحث عن مساحاتٍ أخرى من فضاءات “الجهاد” المتنوّعة، ومنها: الجهاد المدني.
لقد عرّف شيخ الإسلام “ابن تيمية” – عليه رحمة الله – “الجهاد” في “مجموع الفتاوى” فقال: ” الجهاد حقيقته: الاجتهاد في حصول ما يحبّه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومِن دَفْع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان.”، و يقول الإمام الشهيد “حسن البنّا” – عليه رحمة الله – في ركن “الجهاد” :” وأريد بالجهاد الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، والمقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم:” مَن مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة الجاهلية. “، وأوّل مراتبه: إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك: جهاد اللّسان والقلم واليد وكلمةِ حقٍّ عند السّلطان الجائر…”. ولقد دلّت نصوصٌ كثيرة على أفضلية وعلوّ درجة “الجهاد المدني” بالوسائل السّلمية، ومنها قوله “صلى الله عليه وسلّم”: “إن من أَعظم الجهاد: كلمةُ حقٍّ أمام سلطانٍ جائر.” وقوله: “خيرُ الشّهداء حمزة، ورجلٌ قام في وجه سلطانٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله.”.
فيكون الجهاد السياسي السّلمي بمواجهة الأنظمة والدّول الظّالمة والجائرة، والجهاد الاقتصادي بمقاطعة وحصار منتوجات الشركات الدّاعمة، والجهاد الاجتماعي والإنساني بالسّعي على الأرملة والمسكين من الأفراد والشعوب المحاصرة والمضطهدة، والجهاد الإعلامي بالكلمة وصناعة الرأي العام وكشف حقيقة الأعداء، والجهاد المالي ببذله في سبيل الله، والجهاد الشعبي بالمسيرات والمظاهرات السّلمية، عملا بقوله صلّى الله عليه وسلّم، – والذي يشمل ذلك كلّه -: ” مَن رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.”، وهذه الأحاديث عامة، ولا تستثني أحدا، لقوله صلى الله عليه وسلّم بصيغة التنكير: ” ورجلٌ..” و” مَن رأى منكم..”.
لا عذر لأحدٍ في عدم القيام بهذا النّوع من الجهاد، فالكلُّ يستطيعه، وإنّ إعدام نيّته وعدم استصحاب معانيه نوعٌ من النّفاق، ومَن مات على ذلك مات ميتة جاهلية، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: ” مَن لم يغزو، ولم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية.” وفي رواية: “.. مات على شُعبة من شُعب النِّفاق.”، بل إنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم ارتقى بالنّية الحاضرة والمرافقة الشّعورية والتفاعل الوجداني مع “المجاهدين” أن ينال أجرهم وإنْ لم يكن معهم، كمَن عاش مع “أسطول الحرية 3″ بكلّ مشاعره وجميع جوانحه وخالص دعائه، فقال صلّى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك: ” إنّ أقواما خلفنا بالمدينة ما سِرتم مسيرا ولا قطعتم واديًّا إلا كانوا معكم، حَبَسَهم العذر..”، وفي روايةٍ للإمام مسلم: ” إلا شَرِكُوكم في الأجر.”، وإن الإسلام ليرتقي بأيِّ عملٍ إيجابي مؤثِّرٍ في العدوّ، ولو كان بسيطا، ” فكم من عملٍ صغيرٍ عظّمته النّية، وكم من عملٍ عظيم صغّرته النّية”، فقال تعالى عن هذه الصّورية التقريبية، وهي تغري بالمبادرة وعدم احتقار أيِّ فعلٍ تأثيري في الأخر كالعدوّ الصهيوني: “.. ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.”(التوبة: 121،120).
إنّ قوافل المساعدات البرّيّة، وقوافل كسر الحصار البحرية، هي نوعٌ من “الجهاد المدني” الذي يعرّي هذه الأنظمة المتخاذلة والمتواطئة مع العدوّ الصهيوني، وهي نوعٌ من “المراغمة للعدو” في فضحه وكشف وجهه القبيح أمام العالم، وهو يمارس هذه الجرائم، ويصرّ على سياسة العقاب الجماعي، وممارسة هذا الحصار الوحشي، غير الإنساني وغير الأخلاقي وغير القانوني على الشّعب الفلسطيني.
بقلم النائب ناصر حمدادوش
تعليق
تعليقات الزوار ( 0 )