لما فقد سيد الخلق زوجته التي كانت تسنده ، وعمه الذي كان ينافح عنه ضاقت عليه الدنيا وتألم ، وما كان الله تعالى ليتركه مهموما مغموما فقد كان القرآن أنيسه في وحشته وصديقه في غربته وكان لا بد أن تتنزل الآيات التي تبعث في قلبه الأمل ، فكانت سورة يوسف عليه السلام بلسما لجروحه وراحة لفؤاده وسكن لقلبه ، ويُكتب إلى نهاية الدنيا أن تكون هاته السورة دليل كل مؤمن يحيط به اليأس من كل جانب ،نافذة أمل وثقة في الله حُق لها أن تكون أحسن القصص ، لأنها ابتدأت برؤيا وانتهت بتحقيقها بعد رحلة من المقاومة والمصابرة والمعاناة
ثلاثة النجاح :
ابتدأت السورة بثلاثة أحرف “ألر” لترسم لنا رحلة ثلاثية رائعة وتختم بوصية ثلاثية في غاية الروعة “إنه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين ” ثلاثية النجاح وتحقيق الأحلام ” التقوى ، الصبر ، الإحسان ” وهي صفات لازمت سيدنا يوسف في جميع مراحل حياته “ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما ، وكذلك نجزي المحسنين ” ولما كان في السجن قال له صاحباه ” إنا نراك من المحسنين ” ولما مكنه الله في الأرض وأصابه برحمته قال فيه “ولا نضيع أجر المحسنين ” ولما دخل عليه إخوته قالوا “إنا نراك من المحسنين ” هكذا المؤمن صفة الإحسان لا تفارقه في حياته حتى يلقى ربه غير مبدل ولا مغير ، وهي رسالة إلى أولئك الذين يريدون تجريد السياسة من الأخلاق ، فهذا نبي الله يجمع بين النبوة والملك ويعلمنا كيف يكون المؤمن في ضعفه او تمكينه فقد وُصف بالإحسان في موضعين لما كان في السجن ولما أصبح عزيز مصر في إشارة إلى أن المؤمن لا تغيره الظروف مهما بلغت سوء أو تحسنا .
ثم نتأمل في روعة القصة وحبكتها والثلاثية الرائعة التي رافقت السورة من أحرفها الأولى إلى نهايتها ، فقد كانت الأحرف ثلاثة ، والرؤى ثلاثة ، رؤيا سيدنا يوسف ورؤيا صاحبي السجن ، ورؤيا الملك ، كما أن القميص ذكر ثلاث مرات ، القميص الذي جاء به إخوة يوسف ، وقميص سيدنا يوسف الذي قد ، وقميصه الذي أرسل فألقي على وجه أبيه ،وفي كل مرة يستعمل القميص لتحقيق أهداف معينه ، فمرة يكون دليل إدانة ، ومرة يكون دليل إثبات ، ومرة أخرى يكون هو الشفاء والعلاج ، ويذكر في السورة ثلاثة أنبياء ، يعقوب وإبراهيم وإسماعيل ، بل حتى انه يذكر من أعضاء الجسم ثلاثة : يد ، ورأس وعين ومن الحيوانات ثلاثة ، عير ، وذئب ، وبقرة لتتناسب مع ثلاثية مراحل حياة سيدنا يوسف عليه السلام لما كان في بيته ، ثم في بيت العزيز ، ثم في الملك
إرادة الله فوق إرادة البشر :
أراد إخوة يوسف عليه السلام أن يقتلوه فعاش ، وأرادوا أن يبيعوه مملوكا فصار ملكا ، وأرادوا أن ينقصوا محبته من قلب أبيه فزادت ، وكل ما نظرنا إليه بعين الخير كان شرا ، وكل ما رأينها شرا كان خيرا ، فهذا حب الأب ينتهي بجب ، وهذا الجب ينتهي بيت العزيز ، وهذا بيت العزيز ينتهي بالسجن ، وهذا سجن ينتهي بملك وأثناء كل هذا لا تجد إلا قلبا يلهج بالثقة في الله ولذلك صدق من قال “ حين ينظر الإنسان في تقلبات الحياة سيدرك أن اليوم الذي نعيشه هو الغد الذي قلقنا من اجله الأمس فلا يدع قطار حياته يتوقف كثيرًا على ” مـحـطـة ” اليأس ، وسيحتفظ دوماً بـ “تـذكـرة ” الأمل .
علينا أن نصغي إلى صوت الحياة بداخلنا ، عندما نعيش اليوم الذي قلقنا من اجله بالأمس ، وندرك أن مخاوف الأمس خفت بعد مواجهتها اليوم ، عندما نؤمن بقدرة الخالق عز وجل ولا نخاف الابتلاء ، لأننا على يقين انه ما ابتلانا ليعذبنا ولكن ابتلانا ليهذبنا حينها فقط سندفن اليأس ونزرع الأمل من اجل قاب قوسين او أدنى في الجنة ،لأنها خير من الدنيا وما فيها
نحن لا نهزم عندما يخسر وإنما نهزم عندما نيأس ونفقد ثقتنا بالله فالثقة بالله تعني ان تفقد شيئا عزيزا في حياتك وتبتسم وأنت تقول ” قدر الله وما شاء فعل ”
هدايا القدر :
لا تنزعج حين لا يعرف الناس قدرك ، ولا ينتبهوا لكلامك ، ولا تنزعج اذا كثر من يحسدك أو يحقد عليك أو قد يكيد لك ، فإذا لم تجد لك حاسدا فأنت إنسان فاشل ، ذلك أن الناس لا يتفقون على مدح إنسان إلا ذلك الإنسان الفاشل الذي يسلم نفسه لآراء الناس وإرضائهم ، كما أنهم لا يتفقون إلا على ذم الشيطان الفاسد ، فإذا تفرقوا بين مدح إنسان وذمه فذلك دلاله عظمته وقوته وصدق المنفلوطي حين قال : … العظمة قصر مشيد مرفوع على ساريتين منحوتتين من حب الناس وبغضائهم
فلا يزال ذلك القصر ثابتا في مكانه لا يتزعزع ولا يتخلخل ما بقيتا فى مكانهما
فإذا سقطت إحداهما عجزت الأخرى عن الاستقلال به
فسقطت بجانب أختها ……………فسقط هو بسقوطهما
ولا تنسى أنه وفي عمق الظلام الله قادر أن يبعث النور والنجاة فقد سخر قافلة كاملة إلى حيث ذلك البئر في الصحراء القاحلة لتنقذ سيدنا يوسف عليه السلام ، ثم مرة أخرى لما أراد الله أن ينجيه من السجن لم يرسل له صاعقة من السماء أو جندا من الأرض وإنما أرسل رؤيا تتدحرج في جنح الليل ، ذلك أن سيدنا يوسف عليه السلام لم يكن منشغلا بالخروج بقدر انشغاله بإصلاح واقعه ودعوة الناس إلى الله .
معركة الأخلاق
حين تحارب الناس بأخلاقهم لا بأخلاقك فستنهزم ، فهذا سيدنا يوسف عليه السلام وهو على العرش والتمكين يسر في نفسه ويكتم ويقول عند النصر “لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ” وفي نشوة الانتصار “وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو ” وكان قادرا على أن يقول إذ أخرجني من البئر ويذكرهم بالماضي الأليم ، ولكنه ينسب الخطأ إلى نفسه فيقول ” من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ”
لا تيأس :
مهما كسرتك المشاكل وأثقلت عاتقك الهموم فاحذر أن تنسى انك انسان
قال أحد الحكماء ذات مرة:إن كثيراً من الناس وصلوا إلى أبعد مما ظنوا أنفسهم قادرين عليه لأن شخصا آخر ظن أنهم قادرون على ذلك
لماذا ندع اليأس يتسلل الى قلوبنا فيقتل فينا كل شيء جميل؟؟؟؟؟
لماذا نعيش كما لو أننا لن نموت أبداً ، و نموت كما لو أننا لم نعش أبدأً ”
إذا نظرت بعين التفاؤل إلى الوجود رأيت الجمال شائعاً في كل زاوية , حتى القبح تجد فيه جمالاً واذا كنت يائسا بائسا فلن تعرف للجمال معنى ولن تعزف للحياة لحنا ، اليأس بضاعة المفلس ضعيف الارادة لين العزيمة العاجز عن مواجهة مصاعب الحياة
هذا ذو النون المصري كان يقول في دعائه : اللهم إليك تقصد رغبتي ، وإياك أسأل حاجتي ، ومنك أرجو نجاح طلبتي ، وبيدك مفاتيح مسألتي ، لا أسأل الخير إلا منك،ولا أرجو غيرك ، ولا أيأس من رَوحك بعد معرفتي بفضلك.
لا يجزع من كان له أب فكيف يجزع من كان له رب ، لا تدع اليأس يتسلل الى قلبك فقد خلقت السموات والأرض من أجلك ولا تخجل الا من ذنبك ولا تخف الا من ربك
إذا اشتمـلت على اليأس القلـوب وضاق لما به الصدر الرحيبُ
و أوطـــــــــــأت المكـــــاره واطـــمــأنت وأرست في أماكنـها الخطـــوبُ
ولم تــــــــــــــر لانكــــشـاف الضـر وجهًا ولا أغنــــــــــــــــــــــــى بحيلتـــه الأريـــبُ
أتاك علـــــــى قنــــــــــــــوط منــك غـــوثٌ يمـن به اللطيــــــــف المستجيــــبُ
وكـــــــــــل الحــــــــــــــــادثــات إذا تنـــــاهت فموصـول بهــــــــا الفـرج القريـب
لا تيأس وانطلق مقبلا على الحياة لا ترهقك الظروف ولا تسقطك الهموم فاذا سقطت يوما على ركبتيك فاعلم انك في أفضل وضعية لتسجد لرب السموات والأرض ومدبر شؤون الكون جميعا . ولله در ابن القيم حين قال :الطفل عندما تقذفه في السماء يضحك لأنه يعرف أنك ستلتقطه ولن تدعه يقع!” تلك هي …الثقة” …فقل دائمآ لو رمتني الأقدار فسوف تلتقطني رحمة ربي قبل أن أقع!” تلك ثقتي بربي “
تعليقات الزوار ( 0 )