صحيحٌ أنّ الطاقةَ الجسدية محدودة، وبها يتّصف الإنسان بالضّعف البشري اللاّزم، كما قال تعالى: “وخُلِق الإنسانُ ضعيفا.“(النّساء:28)، ولكنّ الله عزّ وجلّ متّعه كذلك بالطاقةِ الرّوحية اللاّ محدودة، وهي الطّاقة الغيبية التي يستمدها من القويّ المطلق، ولا تكون إلا بقوّةِ الاعتقاد في الله، وشدّة التعلّق به عزّ وجل، ومُتعة العيش معه سبحانه..
إنّها الطّاقة الإيمانية التي تجمع شَتَات “النّفس” في اتّساقٍ يُركّز قِوَاها، فتَسْرِي رُوحًا متّقدةً بين جوانح الإنسان، فترفعه من حضيض “الحمإِ المسنون” إلى علياء “الملأ الأعلى المقدّس”، فيعيش بجسده على الأرض ويلامس بروحه السّماء، ويطير إلى ربّه على أجنحةٍ من “حنين الشّوْق” بدل أن يُساق إليه بسياطٍ من “لهب الابتلاء”..
وعندما تطالع صفحاتِ مَن تمتّعوا “بشرف الصُّحبة”، تدرك حجم الغفلة التي تأخذنا عن “الإيمان المتجدّد”، وأنّ عامل الزّمن قد يزحف على “حلاوة الإيمان” و”لذّة الطاعة” فيأخذ نصيبه منها ما يجعل القلب قاسيا، فقد روى الإمام مسلم عن “ابن مسعود” رضي الله عنه أنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا ربُّنا بقوله تعالى: ” ألَمْ يَأْنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبُهم لذكر وما نزل من الحقّ ..”(الحديد:16) إلا: أربع سنين.)، وإيقاع الآية القوي ورَنّاتها العميقة جعلت بعضهم ينظرُ إلى بعضٍ وهم يقولون: ماذا أحدثنا؟ للتحذير من التقصير، والخشية من “اختطاف القلب” من “حضرة الرّب” عزّ وجل.
وهو ما يدخل الرّعب في النّفوس أنّ: تلازُمًا قويًّا بين “قوّة الإيمان” وبين “الخشوع في القلب” و”الرِّقّة في الفؤاد” لابد أن يكون سِمةً متأصّلةً في الكيان العقلي والعاطفي للإنسان اتجاه ربّه..
إنّ معتقد “أهل السُّنة والجماعة” أنّ: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلّما ارتقى العبد سُلّما في مدارج السالكين، وبلَغ مقامات الربّانيين تَلَبّس بحقيقة الإيمان وذاق حلاوة “الإيمان الحقّ”، مصداقا لقوله تعالى: “إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِر الله وَجِلت قلوبُهم، وإذا تُلِيت عليهم آياتُه زادتهم إيمانا وعلى ربّهم يتوكلون“(الأنفال:02) إلى أن قال:” أولئك هم المؤمنون حقًّا.”(الأنفال:04)..
إنّها “الإيقاعات القرآنية” و”الرّعشة الوجدانية” التي تُهيْمِن على “القلب” فتنشأ الخشية منه “سبحانه” فتدفع إلى: “العمل” و”البذل” و”العطاء” و”الإنجاز”، فيزداد المؤمن “اطمئنانا” و”يقينا” يُريح ضميره إلى أداء الواجب، في ظاهرةٍ يتجدّد معها الإيمان، كلّما عاش القلبُ مع القرآن.
إنها “الحقيقة النّبوية” التي قرّرها “صلى الله عليه وسلّم”، والتي تحتاج إلى “يقظةٍ” و”انتباه”، وهو يقول: “إنّ الإيمان ليَخْلَقُ في جوف أحدكم كما يخْلَقُ الثوب، فاسألوا الله تعالى: أن يجدّد الإيمان في قلوبكم.“، أي: يضعف ويبْلَى وتتغشّاه الغفلة، وهو ما يحتاج إلى “العناية” و”التعهّد” بالتوجّه الصّادق إلى الله تعالى بتجديد الإيمان..
إنّ “تجديد الإيمان” هو الوصيّة الخالدة والصّرخة المدوّية والنّداء النبوي القوي، الذي اخترق حُجب الزّمان والمكان، فهزّ أعماق النّفس البشرية لتجدّد عهدها مع الله، وأيقظ هذه “الأسرار الإلهية” لتفعل فعلها وهي تُردِّد “كلمة الإخلاص”، فقال صلى الله عليه وسلّم: “جدّدوا إيمانكم“، قيل: يا رسول الله، وكيف نجدّد إيماننا؟ قال: ” أكثروا من قول: لا إله إلا الله.”.
ما الذي يُعِيقنا عن “السير إلى الله” وهو الذي يبعث فينا الأمل المتجدّد بصوت الحقّ الذي يهتف فينا لنجدّد الإيمان كلّ ليلة، والكون يجدّد حركته “قبل طلوع الشمس وقبل الغروب“، فنَذُكُرَه عند “إِسْلام الرّوح” إلى بارئها في سُكون الليل، عندها يخلو كلُّ حبيبٍ بحبيبه، فيأتينا النّداء الإلهي اللّطيف:
” ينزل ربّ العزة في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، وذلك كلّ ليلة، فيقول:”هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ حتى ينفجر الفجر.“.
ما الذي يمنعنا من “تجديد الإيمان ” والصفحات السّوداء من ماضينا لا يجوز لها أن تكون عائقا أمام عودتنا الصادقة إلى الله، وأن الذنوب مهما اغتالت صفاءنا ومعاصينا مهما أخذت من طاقة إيماننا لابد أن نقهرها بالأمل المتجدّد في الله، وهي الحركة القلبية بالنّدم التي تعبّر عن حالة التجدّد في العلاقة مع الله، وهو يقول: “قل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إنّ الله يغفر الذنوب جميعا.” (الزّمر:53).
ما الذي يغتال يقيننا في الله، وهو أرحم بنا من أنفسنا، وهو يفتح أمامنا هذا الأملَ في المتجدّد، وهو يقول: “يا ابن آدم إنّك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي..“..
إنّ هذا التودّد الإلهي وهذا اللّطف الرّباني هو الجُرْعةٌ التي تُحْيِي الأمل في “تجديد الإيمان” بهذه الإرادة الفذّة والهمّة العالية، وتُبقِي النّفسَ خَجْلَى أمام هذا العطاء اللاّ متناهي لتستأنف “العيش مع الله” من جديد.. وهو الذي يعطي بلا شروط ويقبل التوبة بلا حدود، وهو الذي يفعل ذلك بلا غَرَضٍ ولا عِوَض كآثارٍ من كماله الأعلى وذاته المنزّهة.
لماذا لا يتجدّد الإيمان في لحظات الصّفاء وتمَاهِي النّفس مع الكون، وهي تتأمّل في ملكوت الله، وتتفكّر في خلق السّموات والأرض، وهي تردّد:” ربّنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك، فقِنَا عذاب النّار..” (آل عمران:191)..
لماذا لا يتجدّد الإيمان في اللّحظة الفاصلة عند الصلاة، والرّوح في معراجها إلى أصلها الأول، وقد دخل العبد في “الحضرة الإلهية” مُقبِلا عليه بكلِّيته، وهو يقف بين يديه، يكلّمه ربُّه وهو يناجيه، والله يقول: “قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ..“..
لماذا لا يتجدّد الإيمان والقلب يطالع آياتِ الله، والنّفس تتشرّبُ الوحي، وهدايات الله تملأ الوجدان فتطمئن إلى ذكر الله، وهو يقول: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب..”(الرّعد:28)..
لماذا لا يتجدّد الإيمان في لحظة السّجود الخاشعة، وفي الدقائق الغالية وفي لحظات الأُنْس، والله تعالى يرحّب ويقول: “.. واسجد واقترب” (العلق:19)..
لماذا لا يتجدّد الإيمان والعبد يسترضي ربّه بالنوافل، وهو لا يزال يتحبّب إليه بها، وهو يقول: ” .. ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ورِجْلَه التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعِيذنّه.“..
لماذا لا يتجدّد الإيمان بالتلاقي بين الإخوان، والحركة الصّادقة من تبسُّم الوجه ترتقي إلى درجة الصّدقة، والمصافحة تتساقط معها الذنوب كتساقط أوراق الشّجر، والله يقول: “واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعَشيِّ يريدون وجهه..“(الكهف:28)..
لماذا لا يتجدّد الإيمان عندما ينسِبُ العبدُ النِّعمَ التي تلاحِقُه بعدد أَنْفَاسِه إلى المُنعِم سبحانه، فيلْهَج لسانُه بالحمد والشّكر، وهو يردّد: “اللّهم ما أصبح بي مِن نِعمةٍ أو بأحدٍ مِن خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلَك الحمد ولك الشّكر.“..
اللّهم يا قيّوم السّموات والأرض: حبّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا اللّهم من الرّاشدين.
تعليقات الزوار ( 0 )