أثار التوجّه الجديد لحركة النّهضة التونسية في مؤتمرها العاشر، والمنعقد أيام: 20، 21، 22 ماي 2016م، بالتوجّه نحو الفصل الكامل بين “السياسي” و”الدعوي”، عبر النقاش الداخلي في هذا “الملف السّاخن” الذي فُتح منذ سنة ونصف، من أجل الذهاب إلى: “التخصّص الوظيفي”، في إطار “حزبٍ سياسيٍّ مدنيٍّ يعتمد على المرجعية الإسلامية..”، لأنّ أجواء الحرية لا تتناسب مع الأحزاب الشمولية والإيديولوجية، وإنّما تقتضي الضرورة: بالتوجّه رأسًا إلى التنافس في خدمة المجتمع، وهو ما يُعتبر نوعا من “النّضج”، ورفعا “للوصاية الدينية” على الشّعب، وأنّه من غير المعقول إقحام كلّ الوظائف الأساسية مثل: “الوظيفة الدعوية” في “المناطق غير الآمنة” كساحاتِ التجاذب في معترك “الصراع السياسي” و”التنافس الانتخابي”.
هي – إذًا – حجّةُ الاختلاف الجوهري بين “منطق السياسة” و”منطق الدعوة”، وأنّ الدّمج التنظيمي التاريخي بينهما قد أضرّ بهما معا..
وإذا كان العالم يشهد تطوّرات متسارعة ودقيقة نحو “التخصّص”، وأنّ المنطق الديمقراطي يفرض التخلّص من “الأنظمة الشمولية”، فإنه يجب على الحركات الإسلامية التكيّف من أجل الذهاب إلى “ما بعد التنظيمات الشّمولية”، كنوعٍ من المراجعات العميقة، والتي تريد التحرّر من تبعات “الإسلام السياسي”، لتجنيب “الدعوة” ضريبة “أخطاء السياسة” في ظلّ التحوّلات الإقليمية والدولية الضاغطة، وهو التوجّه الذي يثير حفيظة البعض، لالتباس هذا التحوّل الاستراتيجي بالخلفيات الفلسفية للائكية والعلمانية، وهو ما يحتاج إلى الطمأنة بالتأكيد على “المرجعية الإسلامية” للحزب السياسي، بما يطفئ نار “الحرب الصامتة” بين “هذا التوجّه التجديدي” و”الحرس القديم”، خوفا من فَقْد البُعد الهوياتي.
إنّه الاستحقاق التنظيمي والفكري الذي تواجهه “حركة النّهضة”، في وسط بيئةٍ تونسيةٍ مشحونةٍ بالتحدّي الحداثي والعلماني، وهو ما سيجعله استحقاقا خارجيا أكثر منه تحدّيا داخليا.
*) ما الجديد؟
خصوصية الانتقال الديمقراطي في تونس، واستثنائية مسار حركة النهضة كقوةٍ سياسية فاعلة، ورمزية التجربة الجديدة للشيخ “راشد الغنوشي” ونضج فكره السياسي – مقارنةً مع أفكاره المتطرّفة خلال التسعينات – جعل من هذا التوجّه يأخذ بُعدا إعلاميا دوليا، وكأنّه تجربةٌ فريدةٌ لم يُخلق مثلُها في تاريخ الحركات الإسلامية المعاصرة؟؟.
لقد سبق للدكتور “عبد الرزاق مقري” رئيس “حركة مجتمع السلم” في الجزائر أنْ طرح هذا التوجّه منذ ما يقارب “عقدا ونصفا” من الزّمن على كبار مفكرّي وقادة الحركة الإسلامية في العالم، ولكنّ عقلية الوصاية الأبوية وقوة التحكّم التنظيمي حالت دون التجديد، وتعذّر تجسيد ذلك في الجزائر للظروف الاستثنائية، وحالة “الاستقطاب الحاد” التي عرفتها الحركة بعد وفاة الشيخ المؤسس “محفوظ نحناح” عليه رحمة يوم: 19 جوان 2003م.
لقد كان من ضمن مشاريع أوراق المؤتمر الرابع، والذي حمل شعار: “الإصلاح السياسي .. والتنمية” سنة: 2008م مشروع ورقة “الحركة بين العمل السياسي والعمل الدعوي”، خاصة مع تصاعد النقاش الحادّ حول: تصنيف الأعمال والتفاضل بينها وتوزيع النّسب فيها، واعتقاد التعارض بين ما هو سياسي وما هو دعوي، مع المفارقة الكبيرة بين كثرة مجالات العمل المستهلكة للطاقات وبين منظومة التسيير القيادية المخلّة بالأداء والتطوير، والتباس المفاهيم في كثرة الدّعاوى بالفصل: بين الفصل الكلّي الذي تأسّست عليه العلمانية الشاملة بفصل الدّين عن الحياة، وبين الفصل السياسي بين الدّين والدولة، وبين الفصل الوظيفي بين الدعوة وتقلّبات السياسة، وبين الفصل التنظيمي بين الحزب والجماعة، وبين الفصل الشخصي بين رجال الدعوة ورجال السياسية.
وجاء المؤتمر الخامس للحركة في ماي 2013م، وعرض الدكتور: عبد الرزاق مقري (كمرشّحٍ لرئاسة الحركة) كتابا – يُعتبر مشروعه التجديدي – الذي ترشّح به، وتمّ انتخابه رئيسا للحركة بـ: ¾ من أعضاء مجلس الشورى الوطني على أساسه، وهو كتاب: “البيت الحمسي .. مسارات التجديد الوظيفي في العمل الإسلامي”، والذي تحدّث فيه عن المسارات التخصّصية في المشروع الاستراتيجي الحضاري الشامل: الوظيفة العلمية والفكرية، الوظيفة الدعوية، المجتمع المدني، السياسة والعمل الحزبي، الوظائف الخادمة (التربية والتكوين، القيادة والتخطيط والإدارة، التنظيم واللوائح الداخلية..)، ثم الوظائف الحامية (المال، والإعلام، والعلاقات الخارجية..)، كلّ ذلك وفق الإمكان البشري والتوفيق الرّباني.
وكتب في (ص 319) عن إشكالية علاقة الدعوة بالسياسة (أو إشكالية العلاقة بين الضرورة المبدئية للدعوة والضرورة الواقعية للسياسة)، ثمّ تحدّث عن مشاريع التجديد الوظيفي في “الفرع الخامس” من الكتاب، وهي: 22 مشروعا استراتيجيا..
لكنّ الأهمّ في كلّ هذه المشاريع، فيما يتعلّق بالتجديد الوظيفي في العلاقة بين السياسي والدعوي، هو ترحيل الوظيفة الدّعوية والتربوية – مستقبلا – إلى مؤسسةٍ من مؤسسات المجتمع المدني في إطار التمييز والتّخصّص الوظيفي بعد النّضج والإطمئنان عليها..
إنّ الحركة تساعد على خدمة وتطوير “المجتمع المدني”، ولا تقوم بهذه الوظائف بنفسها كحزبٍ سياسي، وهي تتّبع في ذلك “نظرية الحبل السّري” (على رواية الدكتور رئيس الحركة)، مثل الأم مع جنينها، فالمشاريع تنضج في الرّحم، ثم يُقطع حبلُها السُّرّي إداريا وتنظيميا بالتأسيس الرسمي والقانوني والعلني، مع المرافقة والمتابعة: “.. حولين كاملين لمن أراد أن يُتمّ الرّضاعة..”(البقرة:233)، لتكون هديةً للمجتمع وَوَقْفًا للشعب الجزائري.
وبعيدا عن الإثارة الإعلامية وحالات الاستقطاب الداخلي والترف الفكري، فقد صادق “مجلس الشورى الوطني” في أول دورة عاديةٍ له سنة: 2013م على الخطة الخماسية، والتي تضمّنت هذه المشاريع، وهي الآن مبثوثةٌ في البرامج السّنوية، ومشاريع الأمانات الوطنية، والمستهدفات الولائية والبلدية..
ولقد دعّمنا هذا التوجّه بمقالاتٍ بموقع الحركة، مثل مقال: “تجربة الحركة الإسلامية المغربية في الوحدة: جدلية الوصل أو الفصل بين السياسي والدعوي، وعلاقة الحزب بالجماعة” بتاريخ: 05 نوفمبر 2013م، ومقال “التنظيم الرّسالي .. والتحدّيات الدّعوية” بتاريخ: 24 ديسمبر 2013م، ومقال: “الحركة بين العمل السياسي والعمل الدعوي” بتاريخ: 29 جانفي 2014م، ومقال: “الرّؤية الدّعوية ” بتاريخ: 03 أكتوبر 2014م، ومقال: “هل وحدة المشروع تعني بالضّرورة وحدة التنظيم؟” بتاريخ: 02 نوفمبر 2014م، ومقال: “بين الدعوة إلى الله والدعوة إلى التنظيم” بتاريخ: 12 نوفمبر 2014م، ومقال: “التجديد الدّعوي .. من المِعطف السياسي إلى العباءة المدنية” بتاريخ: 02 سبتمبر 2015م، ومقال: “صدمة العقل الاستراتيجي للحركة الإسلامية” بتاريخ: 20 جانفي 2016م.
وهي ليست مساحاتٌ تنظيرية، بل هي الآن مشاريعٌ عملية في مؤسسات تخصّصية عبر مسارات المجتمع المدني..
على المنبهرين بتجارب الآخرين أن يطمئنوا على تجربتهم، والتي تحتاج إلى رسوخٍ في الانتماء وشدّةٍ في الوفاء وصدقٍ في الولاء، بإنجاح هذه المشاريع على الأرض، تناغما مع أشواق العواطف اتجاه الآخرين..
تعليقات الزوار ( 0 )