الرئيسية مقالات الدكتور عبد الرزاق مقري خاطرة رمضانية ختامية: كيف تركني رمضان إذ رحل

خاطرة رمضانية ختامية: كيف تركني رمضان إذ رحل

كتبه كتب في 17 يوليو 2015 - 12:20 ص
مشاركة

بسم الله الرحمن الرحيم

خاطرة رمضانية ختامية: كيف تركني رمضان إذ رحل.

حينما حل رمضان هذه السنة وجدني أسائل نفسي عن جدوى ما نقوم به في وطن أوضاعه صعبة معقدة ومستقبله غامض، وحركة تحمل عبئا كبيرا في الإصلاح والتغيير، يحاسبها الجميع بقدر حجمها وانتشارها وفاعليتها، ولكن إمكانياتها المادية والبشرية من حيث النوع قبل الكم أقل بكثير مما يواجهها من مسؤوليات وتحديات. وشعب أكثره غافل لا يدري عن حقائق الأمور شيئا، الفقير مشغول بفقره والغني غافل بغناه، لا يكاد يسمع ما يقال له عن شؤون بلده وأمته، ونخب موزعة بين الانتهازية والعدوانية والعجز والاتكالية، تقول أكثر مما تفعل، وتنتظر ولا تتقدم وتُعيق السير أكثر مما تشجع، وأصحاب المشاريع الأنانية أو المشبوهة تعيث في الأرض فسادا قد ملكوا ناصية المال والإعلام وسائر أدوات التأثير. حين حل رمضان وجدني أسائل نفسي عن جدوى ما نعمل في أمة تغرق في التخلف، يأكلها الصراع الطائفي، ويتمدد فيها العنف والاقتتال، وتتحكم فيها أنظمة ظالمة جاهلة عميلة تقود الشعوب إلى الهاوية وتعرض الأمة إلى الفناء، وتضرب الناس بعضهم ببعض. حين حل رمضان وجدني أسائل نفسي عن جدوى ما نقوم به في مواجهة أمم في الغرب والشرق قوية متطورة متفوقة تخاصمنا وتعادينا وتستغلنا، تغلبنا كل يوم وتضحك علينا كل يوم، حل رمضان وأنا في حالة من الحزن ضاق بها صدري، أكثر ما يقتلني فيها عجز التقي وجلد الفاجر، حل رمضان وأنا في حالة من التعب والإرهاق بعد سنة طويلة من العمل والكد بلا توقف ولا هوادة ولكن دون رضا بما تحقق وتجسد، وأحمل معي،فوق ذلك، نفسي التي تخاصمني بعيوبها وعثراتها ونقصها وقلة صبرها، حل رمضان وتمنيت لو أنه لم يحل حيث لم تكن نفسي مهيأة لاستقباله وهو شهر العبادة والتبتل والانصراف للقيام والصيام والذكر والدعاء، لم أكن مستعدا لذلك وأمامي واجبات كثيرة تصدني عن صفاء العبادة، لا أستطيع تركها ولا أستطيع الانشغال بها، حل رمضان وشيء من اليأس يعصر قلبي، وهواجس كثيرة تدور في خلدي. غير أن الله وفقني لاستعمال العقل في معالجة هذه المعضلة العظيمة حيث أعطيت لنفسي هنيهة من الزمن استعملت فيها عبادة التفكر في حالي وكيف أعمل مع هذا الشهر الجليل. كانت أمامي دعوات كثيرة من الولايات لحضور برنامج الإفطار الجماعي وأمامي مستهدفات ومتابعات مع الأمانات والمؤسسات، وإنجازات تأخرت،علي إكمالها كلها قبل اللقاء الدوري لمجلس الشورى مباشرة بعد رمضان، وها هو رمضان يدعوني للانقطاع عن وتيرة العمل والدخول في محرابي لعلي أجد أنسا أفقِده وشوقا أنا في أمس الحاجة إليه…ومع هذا كله لم تكن معنوياتي لتسمح لي بتحمل هذه الأعباء كلها. كنت قبل سنوات أسارع إلى العمرة في شهر رمضان فأنقطع عن الدنيا وأغيب عن المشهد فلا أشعر بالحرج ولا يلومني إذ غبت أحد، ثم أعود إلى الحياة وأنا على أحسن حال. أما اليوم..فلا الوقت يسمح، ولا المورد المالي موجود، ولا الواجبات تريد أن تعتقني. أمام هاذين الأمرين المتعارضين سألت نفسي هل يوجد ما يجمعهما؟ وهل يمكنني تنظيم نفسي لكي أقرنهما؟ لم أجد عناء في الجواب البتة، سارعت الآية العظيمة التي تحدد الهدف من الصيام إلى ذهني فملكت فؤادي وشغلت كل فكري: (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)). فسألت نفسي مرة أخرى: ما الذي يجعلني أحصل على التقوى؟ هل هو الانقطاع للعبادة مع ما فيها من سهولة إن وفق الله لها، أم هو الخضوع لوتيرة العمل والانصراف للقيام مع ما فيها من ثقل وإكراه خصوصا إن بقيت المعنويات على ما هي عليه؟ فأجبت نفسي بنفسي: إنه لا هذا ولا ذاك، وإنما هي النية والمقصد مصداقالحديث المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))، ثم رجعت لفكري أستعمله: هل إذا حاسبت نفسي على النية وألزمتها الصدق وابتغاء مرضات الله بعون من الله، هل يمكنني أن أجمع بين الأمرين؟ فأجابتني هذه المرة خبرتي وتجربتي فقالت: نعم إنه التنظيم، عليك أن تنظم نفسك! إن صححت مقصدك فقد قطعت المسافة كلها، وإنما يكون التوفيق في السير والتسديد في الإنجاز بقدر تنظيم نفسك وحسن إدارة شأنك.

بعد هذا التفكير، اشتغلت على نيتي ومقصدي، ثم قررت أن أستجيب لأغلب الولايات لحضور أنشطة الإفطار السنوي لما يحمله هذا النشاط من حيوية وتنوع في الاهتمامات السياسية والعبادية والثقافية والاجتماعية والشعبية والتنظيمية، تُنظم كل يوم، وهي أكثر فائدة من التجمعات التي أنتقل إليها في الولايات مرتين في الشهر في غير رمضان، وذلك من حيث تنوع الحضور واللقاء بالضيوف من مختلف الاتجاهات والشرائح، ومن حيث الاحتكاك المكثف بالمناضلين، والمتابعة الميدانية لمستهدفات الحركة. وقررت أن أنظم بين زيارة وزيارة لقاءات المتابعة مع الأمانات والمؤسسات في مكتبي بمقر الحركة ما استطعت، وقررت أن لا أعطي للحديث مع غيري إلا الزمن الضروري ولا أزيد، وأن لا أجهد نفسي إلا في المبرمج من الأعمال، فكلفت مسؤول التنظيم، الأستاذ عبد العالي مشكورا، أن ينظم رحلاتي للولايات بما يمنحني ذلك، وبما يراعي فترات الراحة وفترات العمل لكي أجد الوقت لكتابة رسائلي ومقالاتي ولكي أخلو بربي فأنجز أورادي وأحدث مولاي عن همومي وعن مصاعبي وهواجسي وأدعوه لكي يهديني ويعينني …… وقد نجحت في ذلك كله بفضل الله، كما لم يحدث لي في أي شهر خلا من شهور رمضان.قد يعتقد الناس بأنني شُغلت كثيرا بالسياسة لكثرة ما حدث من الضجيج على إثر لقائنا مع مدير ديوان الرئاسة الذي لم يكن أصلا في البرنامج في بداية رمضان، لا والله لم يؤثر ذلك في برنامجي،إنما هي فترة دقيقة دامت يومان، أو ثلاثة على أكثر تقدير عالجناها بقدر ما نستطيع، حققنا فيها مكاسب جليلة ليس الوقت للحديث عنها، من أكثر فوائدها بروز أهمية الحركة ووزنها حيث أننا شغلنا الساحة السياسية والإعلامية بين مؤيد ومعارض رغم وجود حدث كبير أهم هو محنة غرداية، مما يدل بأن الحركة كبيرة، تصنع الحدث والناس يتبعون من حيث دروا أو لا يدرون، لا شك أننا أخطأنا في بعض الأحيان وخسرنا في الأمر بعض الخسائر، فتلك الضريبة الدائمة للعمل السياسي، نعتذر لمن أسأنا له حينها وسنسعى إليه للتصالح إن وجدنا الطريق سالكا، ونسامح من أساء لنا دون حقد ولا ضغينة، ولعل زكاة الفطر تجبر في صيامنا وأعمال شهرنا ما نقص فهي لذلك شرعت كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنها: “فرض رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين “. ثم ختمنا الشهر بالاستعداد لمبادرة كبيرة بشأن غرداية حيث سنتجه في قافلة من 48 ولاية لثمين مبادرتنا الجارية والقيام بواجب العزاء والتضامن.

لقد انقضى الشهر ووفقنا الله للقيام بعمل كبير نرجو أن يتقبله الله تعالى، وها هو الشهر ينصرف وأنا أكثر عزيمة، قد ارتفعت معنوياتي إلى العلا بما حققناه في كل فقرات البرنامج، التي سطرناها والتي زحفت علينا دون إذن ولا بيان. أشعر بقرب من الله أكبر وبثقة فيه أعظم، أحسن فيه الظن، وآمل رحمته وغفرانه، أتوقع القبول من لدنه بواسع كرمه وإحسانه، قد زال عني الكثير من الوساوس، وسقطت عن كاهلي أطنان من الهموم.

إن أعظم ما ورثته في نهاية شهر رمضان بالإضافة للأنس الذي كان يجافيني حين أقبل رمضان هو إعادة النظر للواقع الجزائري والعربي والإسلامي بميزان النسبية فتهيأ لي عندئذ بأنه لا يوجد ما يدعو للتشاؤم، وتأكد في نفسي صدقية ما كنت أحاضر به بالناس لأرفع من معنوياتهم دون أن يكون في نفسي جزم به و لايقين، وهو أن حال الأمة بخير إذا تركنا الصورة الفوتوغرافية الجامدة التي تصفها في اللحظة الراهنة ثم انصرفنا للتأمل في الشريط المتحرك الذي يحكي تطورها في الزمن. لقد كانت أمتنا تحت الاستعمار لعقود طويلة، ثم تحت حكم الدكتاتوريات دون مقاومة من الشعوب، وكان التخلف والاستلاب الحضاري هو الشائع في تلك العقود كلها، ثم ها هو الشعور بالانتماء للإسلام والحاجة للحرية ينتشر في الناس بلا حاجة لحركات إسلامية تؤججه كما كان في البدء، وها هذه الحركات الإسلامية المعتدلة تنجح في كل انتخابات نزيهة تنظم، وها هي سياسات الاستئصال لتيارات الاعتدال تفشل في كل البلدان العربية رغم الكيد والعناد والدماء وطول المعاناة، وها هي الأنظمة الانقلابية والدموية والشمولية تترنح، ضحاياها ينخرطون في المستقبل وهي تشعر بأن الأفق أمامها مسدود، وها هي النهضة الحضارية تقلع عند أعاجم المسلمين في تركيا وإيران وماليزيا وأندنوسيا وباكستان، وكل هؤلاء يتبنونالمرجعية الإسلامية مهما اختلفت سياساتهم واستراتيجياتهم، وها هي حركة مجتمع السلم تعود من جديد رغم المحن التي مرت عليها بعد وفاة الشيخ محفوظ رحمه اللهوها هو الجميع يطلب ودها، السلطة تتمنى اللحاق بها والمعارضة تخشى أن تغادرها في حالة نادرة من العزة لا يحظى بها غيرها، وها هي هيئاتنا ومؤسساتنا تشتغل وتنجز كما لم تكن تفعل من قبل، وها هي أعدادها تنمو من جديد خصوصا على مستوى الفتيان والشباب، وها هي تحقق الاستقرار والهدوء والهناء المساعد للعمل، رغم بعض الهنّات البسيطة التي تحدث لنا حتى تبتعد بها عنا العين ولا يؤثر فينا الحسد.

قد يقول قائل لم تحدثنا عن الأجواء العائلية في رمضان إذ هي كذلك من محطات الأنس التي يفرح بها الصائمون خصوصا عند مائدة الإفطار، وعند الذهاب جميعا للصلاة، وعند اختلاء كل واحد في زاوية من البيت بالقرآن. أقول نعم ذلك الذي ضيعته في هذا الشهر الكريم، لم أحظ بزيارة الوالدة الكريمة إلا مرتين أو ثلاث، ولم أفطر مع أولادي إلا ثمانية أيام. ولكن هذه هي الدنيا ليس فيها كل ما نحب وما نريد، غير أنني قررت هذه المرة أن تكون لي عطلة مع الأهل لنكمل معا الإعداد لعام مقبل من العمل: سنزور جيجل بحول الله نتمتع بشواطئها وغاباتها ونسيمها وطيبة أهلها في شهر أوت بصحبة الزوجة والأولاد، وسآخذ معي بعد ذلك والدتي وربما زوجتي للاستجمام في أحد الحمامات طلبا لرضا الأم الحبيبة ولترميم العظام والمفاصل التي أضرت بها كثرة الأسفار… اسألوا الله لي أن أتم البرنامج بهاذين الفقرتين ولا ألغيهما كما حدث لي في مرات خلت، و أنا عازم على ذلك هذه المرة.

شكرا رمضان قد أعدت لنا الروح، وأعطيتنا من الزاد ما نكمل به سنة مقبلة بحول الله لنواصل الكفاح من أجل وطننا وديننا في مواجهة الصعاب الضخمة التي تنتظرنا، نسأل الله أن يحيينا إلى أن نلقى رمضان المقبل وحالنا وحال أمتنا على أحسن حال، فنعيش فيه أجواء الأنس من جديد كأننا في الجنة، إلى أن نلقى الله وهو عنا راض، شهداء بجوار المصطفى الحبيب عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن اهتدى بهديه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

أقرأ أيضا :

خاطرة رمضانية 1 : رمضان الأوبة

خاطرة رمضانية 2 : سانحة التراويح

خاطرة رمضانية 3 : فضل الجوع

خاطرة رمضانية 4 : عَشر الاستدراك

تعليق

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً