لكل زمن فكره، لكل زمن رجاله، ولكل زمن إنجازاته. وقليل من الناس من يستطيع أن يتكيف ليواكب الأزمنة المختلفة، يقولون في علم الإدارة أن 5% فقط من الناس يستطيعون التكيف مع التحولات وتجديد أنفسهم للاستمرار في الريادة.
بعد ان انتهت مرحلة المقـ.ـاومة الشعبية الجزائرية المسلحة التي واجهت الاحتـ.ـلال الفرنسي مدة سبعين سنة تقريبا، منذ دخوله سنة 1830 إلى بداية القرن العشرين خلفتها المقـ.ـاومة السياسية الوطنية التي صار دورها مواجهة مخططات فرنسة الجزائر وسلخها من انتمائها الحضاري بالتجهيل والتنصير ومحاربة اللغة العربية والتفريق العرقي، علاوة على التجويع ومختلف وسائل الإبادة والاحلال الاستيطاني بجلب سكان جدد من مختلف أنحاء أوربا.
استطاعت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن تحقق بمدارسها وبرامجها الموجهة لصناعة الإنسان نهضة عربية إسلامية جزائرية، كما حارب النخبيون قانون الأهالي وحاولوا تحسين ظروف الجزائريين دون أن يتحقق لهم ما أرادوه، وفي أوج قوة تياري الإصلاح الديني والإصلاح القانوني أثناء انعقاد المؤتمر الإسلامي سنة 1936، برز مصالي الحاج الذي كان نضاله قبل ذلك بين شبكات العمال الجزائريين والمغاربة في فرنسا ضمن حزب نجم شمال افريقيا.
حين برز مصالي الحاج في الجزائر كانت رسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد تحققت إذ نشأ تيار كبير من الوطنيين آمنوا بمقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس “إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد…، في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري”. وبعد هذا الإنجاز أصبح الشعب الجزائري يتطلع إلى شيء جديد: هو الاستقلال.
فهم مصالي حاجة الجزائريين فجاء يحضر المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في ملعب 20 أوت سنة 1936 بالرغم من أنه لم يكن معنيا وفرض نفسه على المنظمين. كان الحضور يتطلعون إلى ما سيقوله الزعماء الكبار الذين ألفوهم – ومنهم رمز الأمة الجزائرية عبد الحميد بن باديس – عن رحلتهم إلى فرنسا وجواب السلطة الاستعمارية في باريس عن مطالب الحقوق، فأخذ مصالي الحاج الكلمة فألهب بها مشاعر الجمهور وخرجوا به من الملعب يحملونه على أكتافهم … لقد دار الزمن لصالح مصالي الحاج.
كانت حركة واحدة، وعبارة واحدة كافيتين لتغيير مسار التاريخ. حمل الرجل حفنةً من التراب ونادى في جمهور لا يعرفونه: ” هاذي بلادنا! هاذي ارضنا! ويجب على الاستعمار أن يخرج، الاستقلال! الاستقلال!
في وقت قياسي شكل مصالي الحاج “حزب الشعب الجزائري” في أنحاء البلاد كلها، وصارت فكرة “الاستقلال” هي الفكرة الآسرة والجامعة للشعب الجزائري. وهكذا فُتح قسمٌ جديد في مدرسة الحركة الوطنية بات هو الأكثر استقطابا والأكثر تخريجا للقادة والأكثر تأثيرا في الشعب والأكثر ضغطا على الاستعمار الفرنسي، وفي الساحة الدولية.
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية استعملت فرنسا المنهزمة أمام هتلر أعدادا كبيرة من الشعب الجزائري لاسترجاع كرامتها، وبدعم من الحلفاء أُطلِق “وعدٌ ما” بأن من حق الشعب الجزائري أن يتطلع إلى الاستقلال وأن المسألة ستناقش بعد نهاية الحرب. عند انتهاء الحرب خرج الجزائريون في يوم 8 ماي 1945 للشوارع سلميا يطالبون إنفاذ حقهم في الحرية كغنيمة من غنائم حرب طاحنة ذهب ضحيتها 60 مليون قتيل من أجل الحرية وضد العنصرية. لم يُرِدها الفرنسيون المتمسكون ب”الجزائر الفرنسية” هكذا فاقترفوا مجزرة مروعة في حق طلاب الاستقلال راح ضحيتها 45 ألف شهيد.
كانت أحداث 8 ماي 1945 حدا فاصلا بين مرحلتين: مرحلة المطالبة بالاستقلال بالوسائل السلمية ومرحلة الانتقال إلى العمل المسلح من أجل ذلك. كانت خيبة الأمل شاملة لدى كل منظمات وقادة التيار الوطني، الجمعية والاندماجيون وتيار الاستقلال، فلا بد من مبادرة تخرج الحركة الوطنية من الجمود الذي وقعت فيه، والذي لا يخدم إلا الاحتـ.ـلال. شيء طبيعي أن يكون حزب الشعب بقيادة مصالي الحاج هو المبادر فأسس المنظمة الخاصة ( أو المنظمة السرية) للإعداد للعمل المسلح، وكان عناصرها كلهم شباب. وقع ذلك في مؤتمر حزب الشعب يومي 15-16 فبراير 1947 الذي تشكلت فيه حركة انتصار الحريات الدينوقراطية كواجهة قانونية لحزب الشعب الجزائري الذي دخل السرية بعد أن تم حله من الإدارة الاستعمارية. غير أن الأحداث الداخلية للتيار الوطني كله غيرت المسارات. نشبت خلافات في كل الاتجاهات، وكان الخلاف الأشد بين مصالي الحاج وأعضاء اللجنة المركزية الذين ينتمون إلى الجيل الثاني الذي حنكه النضال والسجون واحداث الحرب العالمية فلم يصبح يقبل قرارات الزعيم دون مؤسسية. التزم شباب المنظمة الخاصة، الذين يمثل أغلبهم الجيل الثالث، الحياد وكانوا يلومون الجميع على انشغالهم بالخلافات والتخلي عن دعمهم للانتقال الفعلي إلى العمل المسلح.
في الفاتح من نوفمبر 1954 فجر الشبابُ الثورةَ وأسسوا جبهة للتحرير الوطني ودعوا كل الأحزاب والقوى الوطنية للالتحاق بها على قاعدة واحدة هي lلجـ.ـهاد المسلح من أجل تحرير الجزائر. وعلى زغردة الرصاص وعبق البارود يكون اعتماد كل أشكال النضال الأخرى، الشعبية والدبلوماسية والعمالية والطلابية والفنية والرياضية وغير ذلك.
التحق العلماء والنخبويون والمركزيون جميعا وبعض الشيوعيين، أفرادا، وحلوا كياناتهم، سوى الحزب الشيوعي الذي بقي تابعا للحزب الشيوعي الفرنسي.
غير أن المعضلة الكبرى تمثلت في أن أب فكرة الاستقلال لم يتقبل أن أبناء أبنائه يفجرون الثورة دون المرور عليه فلم يعترف بهم، ولا بثورتهم، وأسس حزبه “الحركة الوطنية الجزائرية” ليبقى يطالب بالاستقلال ولكن دون مواجهة مسلحة. لم تقبل جبهة التحرير الوطني أن يكون للثورة رأسان، ولم تراع في مصالي الحاج مكانته وسبقه إذ تخلف عن إعلان lلجـ.ـهاد ورفض الالتحاق به.
تعقّد الأمر أكثر حينما أسس رجل من أتباع مصالي المخلصين (م . ب) جيشا مسلحا لمواجهة جبهة وجيش التحرير الوطني، ثم دخل هؤلاء الوطنيون “القدماء” في تنسيق عسكري وأمني مع جيش الاحتـ.ـلال، وتورطوا في جرائم مروعة ضد إخوانهم الجزائريين، وأصبحت المواجهة المسلحة بين الطرفين شاملة في الجزائر وعلى الأرض الفرنسية ذاتها وسط المغتربين الجزائريبن . وعند ظهور الخيانة وتجليها رفض كثير من أعضاء الحركة الوطنية الجزائرية المصالية هذا الانحراف، وكثير منهم التحق بالجهة المقـ.ـاومة للاحتلال، بل حتى مصالي الحاج نفسه أصابه كثير من الحرج ودعا إلى وقف الاقتتال ولكنه لم يتخل عن حزبه ولم يلتحق بالثورة، وربما تكون صحوة مصالي الحاج المتأخرة هذه ما جعل دولة الاستقلال تمنحه الجنسية الجزائرية دون منحه جواز السفر إلى أن مرض مرض وفاته، وحين توفي رحمه الله نُقل جثمانه من فرنسا ليدفن في الجزائر، وبعد سنوات أعيد الاعتبار لمكانته الأولى في الحركة الوطنية وسميت منشآت رسمية باسمه.
لم يتوقف الخـ.ـائن ( م . ب ) عن التنسيق الأمني مع الاحتـ.ـلال وقتال المجاهدين، بل تبرأ من تبعيته لحزب مصالي الحاج، وبقي يواصل خيانته حتى لحقته الهزيمة و قُتل معزولا لم يأسف عليه أحد، حتى فرنسا التي كانت تسلحه لم تأسف عليه إذ تقول المصادر الفرنسية أنه صار عبئا عليها فتخلت عنه في آخر المطاف وانتهى به المطاف معزولا حتى داخل عشيرته.
بعد ما تجاوز الخلاف بين الأشقاء مستوى الخلاف السياسي وصارت الحركة الوطنية الجزائرية، وخصوصا ذراعها العسكري، ألعوبة في يد الاحتـ.ـلال، لم يصبح ممكنا تحقيق أي تقارب بين الطرفين. لقد بدأ الخلاف حول استراتيجية تصفية الاستعمار، بين استراتيجية المقـ.ـاومة واستراتيجية المفاوضات السياسية دون قتال، ثم تحول الخلاف إلى مواجهة مسلحة وتنسيق أمني تورط فيه الطرف الأسبق والأقدم في النضال الوطني وفق ما كان يدعيه!
لم يتوقف النزاع إلا برجوع فئة كبيرة من أعضاء وأنصار الحركة الوطنية الجزائرية المصالية إلى الموقف الوطني الصائب والسائد بين الجزائرين ثم بالحسم المسلح مع من بقي في الخيانة. ومن عبقرية الثورة التحريرية أن كثيرا من زعماء الفصائل والشخصيات، لم يساهموا في تفجير الثورة والتحقوا بها متأخرين، استطاعوا أن يجدوا لهم مكانة في صفوفها الأولى لما رجعوا إليها بصدق، بل حتى أولئك الاندماجيون الذين لم يكونوا يؤمنون بالشخصية الجزائرية المستقلة عن فرنسا صاروا قادة فيها كأمثال فرحات عباس رئيس حزب الاتحاد من أجل البيان والديموقراطية الذي وجد نفسه رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة.
لقد علمتنا الثورة التحريرية الجزائرية أنه لا يمكن تحقيق النصر على الاحتـ.ـلال دون وحدة وطنية، جبهة وطنية واحدة، وأفضل طريق للوحدة هو الحوار والمفاوضات، ولكن حين يكون الخلاف حول استراتيجية المقـ.ـاومة، فلا يؤمن بها أحد الأطراف المعنية، يصبح الحديث عن الوحدة حديثا عبثيا لا يتعلق إلا بالصورة والمشهدية وكسب الموقف وربح الوقت، وكل اتفاق وحدوي لا يقوم على أساس رفض الاحتـ.ـلال ومواجهته بالقوة ثم بكل أنواع النضال لا يكتب له النجاح، ومن يتراجع عن اتفاق الوحدة إذا وقعت إنما هو الذي لا يؤمن بالمـ.ـقاومة، ثم ستتحقق الوحدة يوما ما بالأمر الواقع في الميدان وينجز وعد الاستقلال … ولو بعد حين.
يتبع..
د. عبد الرزاق مقري
رئيس حركة مجتمع السلم
تعليق