الرئيسية مقالات أ. حمدادوش ناصر الإرهاب الغربي وفلسطين

الإرهاب الغربي وفلسطين

كتبه كتب في 18 فبراير 2024 - 10:55 ص
مشاركة
AisPanel

من أشهر الكتب التي ألَّفها المفكر والفيلسوف الفرنسي المسلم “روجي غارودي”(1917م – 2012م) كتاب “الإرهاب الغربي”، والذي صدر سنة 2004م، فيقول بأنه ألَّف هذا الكتاب كاملاً قبل تفجيرات 11من سبتمبر 2001م، ومع ذلك لم يغيِّر منه كلمةً واحدة، لأنه يتيح فهم دلالة الحدث، على اعتبار أن مركز التجارة العالمي والبنتاغون يمثِّلان أعلامًا رمزية من الهيمنة الغربية، وأن أمريكا التي أطلقت جنون العظمة لديها ابتداءً من إلقاء القنبلتين النوويتين على “هيروشيما وناكازاكي” باليابان سنة 1945م، وقتلتفيها ما يقارب ربع مليون ياباني، قد أعلنت عن ميلاد قوةِالتدمير لردع أيِّ منافسٍ ينازعها الهيمنة.لم تكن الأسطوانة المشروخة في نِسبة تفجيرات أحداث 11 من سبتمبر 2001م إلى “بن لادن” و”القاعدة”،ونقل الحرب المقدسة (الجهاد) إلى أمريكا مقنعةً لدىحوالي 200 طيار مدني وعسكري من خبراء الطيران في أمريكا نفسِها.                                                              

وخلاصة الحدث أنه هناك خيانةٌ عظمى، ووجود مؤامرةٍ على مستوى عالٍ جدًّا لتبرير الحرب على امبراطورية الشرِّ الجديدة، وهي: “الإسلام”، العدو الجديد للحضارة الغربية، كبديلٍ عن امبراطورية الشرِّ التقليدية: “الاتحاد السوفياتي”. وليست هذه المرة الأولى التي تنظم فيها المخابرات المركزية والقيادات العسكرية والسياسية الأمريكية العليا مثل هذه الإثارة لإجبار الشعب الأمريكي والرأي العام العالمي على قبول حملات العدوان الأمريكي والسياسة الهجومية لها، وقد أعلن الرئيس الأمريكي “جورج بوش”أنه يخوض “حربًا صليبيةً حقيقية”، مستوحاة من كتاب “صدام الحضارات” لصامويل هنتنغتون، ليجمع خلفه كلَّ العالم الغربي، إلا أن الاصطدام بالعالم الإسلامي الغني باحتياطات النفط والغاز غير واقعي بحملةٍ صليبيةٍ مباشرة، مما دفعه إلى تغيير مفردات الحملة، واعتبارها حربًا “ضدَّ الإرهاب”.يتحدث “غارودي” عن النتائج التاريخية لأسطورة “الشعب المختار”، والتي تؤدي إلى الإقصائية الراديكالية، واعتبار أنَّ أصحاب هذه العقيدة هم كهنة أو ملوك الرب.

وتعتبر فكرة “الشعب المختار” أكثر الأفكار دموية في التاريخ، وقد اعتنق “البروتيستانت الإنجليز” هذه العقيدة عند وصولهم إلى أمريكا،بقتل وإبادة الهنود الحمر، يصاحبهم فيها الكتاب المقدَّس (العهد القديم)، وأنَّ أمريكا هي “أرض الميعاد” التي يبْنُوا عليها مملكة الرب.

وباسم هذا المبدأ تمارس أمريكا السياسة الاستعماريةاليوم، وتحاول إخضاع العالم إلى قوانينها، تحت ذريعة “القدر المحتوم” لهذا الشَّعب المختار الجديد.لم تكن تلكالممارساتمن الطرد والتدمير والقتل متعارضة مع المفهوم الديني لديهم، بل كانت دليلاً على المباركة الإلهية بزعمهم، وعندما أعلنوا استقلالهم عن إنكلترا سنة 1776م قدَّم الأب المؤسِّس لها “جورج واشنطن” أول رئيسٍ لأمريكا، وبعده خَلَفه “جون آدمز” المبدأ الموجِّه للسياسة الأمريكية إلى يومنا هذا، بذلك النسب الإلهي للدولة الجديدة، فيقول: “لن أكفَّ عن الاعتقاد بأنَّ تأسيس أمريكا ليس إلا إرادة العناية الإلهية لتعليم وتحرير البشرية، التي لا زالت خاضعة للرِّق”، ثم جاءت أدبيات القرن التاسع عشر لها، كقول الكاتب “هيرمان ميليق” في كتابه “أمريكا حضارة”: “نحن الأمريكيون شعبٌ خاص، وشعبٌ مختار، نحن إسرائيل هذا العصر، نقود سفينة الحرية”، حتى أصبح من ثوابت هذه السياسة الأمريكية: “الله والدولار هما غذاء السُّلطة”، إلى أن قال الرئيس السابع والثلاثون لأمريكا “ريتشارد نيكسون”(1913م – 1994م): “الله مع أمريكا. الله يريد أن تتولَّى أمريكا شؤون العالم”.يقول “غارودي”: إنَّ تاريخ الغرب بأكمله محكومٌ بسيطرة الكنيسة، فهو العالم المسيحي، وأنَّ تاريخ هذه “أوروبا” تاريخٌ دموي”، وصولاً إلى تلك الخِلطة العجيبة التي تشكَّلت منها “اليهودية – المسيحية”، وأنَّ الثقافة الغربية كعقيدةٍ ثابتةٍ ليست لها إلا مصدران: يهودي – مسيحي، ورغم ميلاد عصر النهضة الغربية في القرن الخامس عشر إلا أنها كانت ولادةٌ متزامنة مع ميلاد وحوش الغابة، الذي خلق مجتمعًا غربيًّا محكومًا بالرأسمالية المتوحشة والكولونيالية الدموية، عبر السباق والتنافس بين البشر، ضمن إيديولوجية السيطرة السياسية والعسكرية، التي غيَّرت التصوُّر عن العلاقات: بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والله، والتي تحوَّلت إلى علاقة الصراع والإرهاب والدم.ثم يتحدث “غارودي” عن جيوبوليتيكا القرن العشرين، وأن أبلغ حدث فيه ليس انهيار الاتحاد السوفياتي، بل إفلاس الرأسمالية، بعد هذه الهيمنة الغربية طيلة 500 سنة، وقيادة العالم إلى انتحار كوكب الأرض بأكمله.

فالتقدم انحرف إلى دمار الطبيعة والبشر، والديمقراطية هي الصورة الرهيبة في التاريخ لتباعد “الذين يملكون” و”الذين لا يملكون”، والحرية فتحت المجال لفرض أقسى الديكتاتوريات في الحكم، والعولمة كرَّست الانقسام المتعاظم بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها، وتدمير تنوُّع الحضارات.إنَّ التعصب الأساسي في الثقافة الغربية الكولونياليةتمثّل في إنكار الآخر، وبذل الجهود في تدميره، وبسط هيمنة أكثر الحركات الدينية والقومية تعصُّبًا وإرهابًا، وهي (المسيحية – الصهيونية) التي تحكم الدول الغربية، المتحالفة عضويًّا مع الكيان الصهيوني، والذي يرتكب أبشع الفضاعات والمجازر والجرائم، وبأسوأ أشكال التطرُّف والإرهاب في تاريخ البشرية، والذي يقوده اليمين الديني المتطرِّف الحاكم في إسرائيل باسم اليهودية، وإنكار الوجود الفلسطيني: دولةً وشعبًا، وما تمارسه الآلة الإرهابية والإجرامية لإسرائيل الآن ما هيإلاَّ تجسيدٌ عمليٌّ لثقافة الإرهاب الغربي وبأسلحته ودعمه المطلق.

تأسَّست ثقافة الإرهاب الغربي اتجاه فلسطين عبر فكرة “الوعد” التوراتية، بتقديم أرضٍكَهِبةٍ، تستمد أصولها من الوعد القديم من الربِّ لإبراهيم عليه السلام، كما في كتابهم المقدس “سفر التكوين”: “وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض”، وذهب معظم المفسرين المعاصرين لتاريخ إسرائيل أنَّ هذا “الوعد” هو بالمعنى الكلاسيكي، والذي يضفي شرعيةً لاحقةً (شرعية الأمر الواقع) على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الذي يجب القبول به.

ثم يختم “غارودي” هذه النتيجة لهيمنة الإرهاب الغربي، فيقول: “سوف يكون القرن الحادي والعشرين مسرحَ أكثرِ الحروب الدينية حسمًا، والقضية مآلها: انتحار الكوكب الأرضي، أو انبعاث الإنسانية”.

ويتكلم الدكتور “عبد الوهاب المسيري” في كتابه “الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ” في الفصل الأول: الإبادة النازية والحضارة الغربية، عن علاقة هذه الظاهرة (الإبادة) بالتشكيل الحضاري الغربي الحديث، ويعرِّف هذا المصطلح بأنه محاولة القضاء على أقليةٍ أو طائفةٍ أو شعبٍ قضاءً كاملاً (كما يحدث الآن في غزة)، ويؤكد على وجود هذه النزعة الإبادية في الحضارة الغربية، وأنَّ الكاثوليكية الغربية والطبقات الحاكمة (النبلاء) كانوا حماةً لليهود، باعتبارهم الشاهد الأزلي على عظمة هذه الكنيسة، وأنهم الأداة الطيِّعة من أدوات الاستغلال وامتصاص فائض القيمة من الجماهير، باعتصار ما يجمعوه من ثروةٍ من خلال الضرائب.وبعد عصر النهضة، ظهرت الكنيسة “البروتيستانتية” التي رفضت فكرة الشعب الشاهد، واستبدلتها بعقيدة الألفية الاسترجاعية، التي ترى بأنَّ العودة الثانية للمسيح مشروطةٌ بعودة اليهود إلى أرض الميعاد (فلسطين)، ومنها تشكَّلت (المسيحية – الصهيونية)،التي لا تزال تقود التجربة الاستعمارية بشقيها الاستيطاني والإمبريالي، ولا تزال جيوشها تحمل أسلحة الدمار والقتل والإبادة، ومن نتائج ذلك: نقل الفائض البشري (يهود العالم) إلى جيبٍ استيطاني (فلسطين) لتكون ركيزةً للحضارة الغربية المتشبعة بثقافة الإرهاب والتوحُّش، وهو ما اعترف به رئيس الكيان الصهيوني “إسحق هرتسوغ” عندما برَّر حرب الإبادة الوحشيَّة التي يشنُّها الكيان الصهيونيعلى غزة اليوم، بأنها:”ليست حربًا بين إسرائيل وحماس فحسب، بل إنَّ الهدف منها حقًّا هو: إنقاذ الحضارة الغربية وقيمها”.  إنَّ الإطار المعرفي لثقافة الإرهابالغربي اتجاه فلسطين تقوم على تهجير يهود العالم إليها عبر هذا الاحتلال الاستيطاني، والذي هو في جوهره تصديرٌ لإحدى مشاكل الغرب الاجتماعية (المسألة اليهودية) إلى العرب (فلسطين)، فالحضارة الغربية ترى في اليهود مجرد مادة (فائض بشري، عِبء عليها)، وترى بأنَّ العرب مجرد مادة (كتلة بشرية تقف ضدَّ المصالح الغربية)، وترى بأنَّ فلسطين مجرد مادة (جزءً من الطبيعة، وليست وطنًا حقيقيًّاللشعب الفلسطيني)، وهو ما يؤكد أنَّ النازية (الإبادة) متجذِّرة في الثقافة الغربية والصهيونية، وتشكِّل مرجعية في فكرهم وسلوكهم.فهناك أصولٌ فكريةٌمشتركةٌ بين النازية والصهيونية، رغم الدعاية الإسرائيلية الشرسة في تأكيد احتكار اليهود لدور الضحية في عملية الإبادة المزعومة على يد هتلر، مع أنَّ جرائم النازية مسَّت كذلك كثيرًا من الشعوب والأقليات الإثنية والدينية والعِرقية.

فالنازية والصُّهيونية – حسب المسيري – لا تمثلان انحرافًا عن الحضارة الغربية، بل هما تياران أساسيان فيها، وما يدلُّ على ذلك هو التزام الغرب بكلِّ حماسةٍ بالدعم الأعمى والمطلق لإسرائيل، وذلك بإنشاء دولةٍ يهوديةٍ في فلسطين على جثث الفلسطينيين، وكأنَّ فلسطين هي التي يجب عليها أن تدفع ثمن جرائم النازية، وذلك بالإمعان في ارتكاب المجازر وحروب الإبادة التي يتعرَّض لها الشعب الفلسطيني يوميًّا طيلة 75 سنة، منذالعام 1948م.

تعليق