الرئيسية مقالات أ. عمار بن ثابت لقاء الهياكل والأرواح

لقاء الهياكل والأرواح

كتبه كتب في 6 فبراير 2024 - 11:23 ص
مشاركة

حين تفقد الحركة الروح يصبح لقاء الهياكل بلا طعم ولا رائحة ، مجرد لقاءات إدارية دورية ، بل حتى إن الخطط ستصبح مجرد استنزاف للطاقات والجهود ، وكذب على النفس ، وامتداد نحو الأمام في طريق نحس فيه احساس قس بن ساعدة حين قال كلما اقتربنا زادت المسافات ، ذلك أن الإمتداد يقتل الاتجاه ويقسي القلب وفي ذلك يقول الله تعالى فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، وحساب الأرواح يختلف عن حساب الأجساد ، فقد يكون الجسد في غربة والروح في وطن ، وقد تبتعد الأرواح وان اقتربت الأجساد حينها يفقد العمل طعمه ، والانتصار شغفه ، والفوز قيمته ، فما فائدة أن ينتصر الجسد وتخسر الروح .
ولذلك فالروح وحدها هي التي يتيح للانسانية ان تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت، لان من يفقد القدرة على الصعود لا يملك الا ان يهوي بتأثير جاذبية الأرض… فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه للفهم، وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الايمان ـ كما يقول مالك بن نبي ـ ، فالقُوَّة الرُّوحية هي خميرة النُّهوض الحضاري.. نحو بذور ثقافة يكون فيها الأساس الأخلاقي هو روح الاجتماع الإنساني
مرحلة الروح يجب أن تسبق الهياكل ، وتسبق كل فعل وسلوك انساني فردي أو جماعي ، فلا تخطيط بلا روح ، ولا فعل بلا روح ، هزة القلب تلك ، او التوتر الداخلي هو الباعث على العمل والمحرك للانسان وقوى النفس ، يجب أن يسبق الفكر والعقل ، فقد يحدث أن ينزلق تنظيم ما إلى مرحلة العقل والفكر فينغمس في خطط تشغيلية ودورات تدريبية ولقاءات جوارية وحملات تحسيسية ، ولكن دون فائدة ، يحس أنه يدور حول نفسه كما يدور حمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل منه هو المكان الذي ارتحل اليه ، وقد ينزلق إلى مرحلة الغريزة فيبدأ الصراع حول المتاع الزائل والكيد والتنازع والتدابر ، فيعتقد الجميع حينها أن الأزمة فكرية ، ولكنها أزمة الروح أولا ، أزمة القوة الباعثة على الفعل الاخلاقي
حين تموت الروح في الهياكل تعيش التنظيمات في ترف تخطيطي ، وتضخم تشغيلي واستعلاء تنظيمي وخوف تقييمي ، يعيش الجميع غربة حقيقية ، ولا يستمد الأفراد طاقتهم إلا من ذلك الحنين إلى الماضي وتذكر الخلوات والجلسات والإيمانيات ، ولكنها طاقة محدودة سرعان ما تنضب
وحتى ننفخ في الهياكل الروح ، ونعيد لها بريقها وتوهجها يجب أن نضبط البوصلة ونحدد المنطلق ، حتى لا يحدث الإنزلاق ونتيه ونحيد عن الطريق فيحدث الاستبدال والخسران ونحن نظن أننا نحسن صنعا ، وأعظم المعارك هي تلك المعارك التي تكون في غرف مظلمة داخل الروح هناك تصنع الانتصارات والانكسارات ولذلك كان أفضل الاستثمارات على الاطلاق، تلك الاستثمارات التي نوظفها في معرفة أحوالنا الخاصة، والوقوف على إمكاناتنا الكامنة، وحقيقة المشكلات التي نعاني منها، والمصاعب التي تواجهنا.
ولا حل إلا بالجلوس مع كتاب الله وتدارسه وتدبره والتنقيب فيه والعلاج في عيادته .
قال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا فحين يتصل الإنسان بالقرآن تنفخ فيه الروح ويصبح للهيكل قيمة ومعنى كالأرض التي يتنزل عليها الماء فتهتز وتنبت ولذلك كانت البداية من تلك الجلسات الايمانية التي تتغذى منها الروح ، فلا غرابة أن ينير الله لعبده بين الجمعتين إذا ما قرأ سورة الكهف
أولا من الكهف إلى الاسراء :
إن المتأمل لكتاب الله يدرك أن الله تعالى ما فرط في هذا الكتاب من شيء ، يكفي فقط أن نحسن الغوص فيه والاستفادة من درره ، والتنقيب في فوائده ، ولعل المتأمل في سورة الكهف والاسراء يدرك هذا التناغم بين السورتين فهي تنقلك من الحمد إلى التسبيح
حيث تبدأ سورة الاسراء بالتسبيح وتنتهي بالحمد بقوله تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، لتبدأ سورة الكهف بعدها بالحمد بقوله تعالى الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب في إشارة إلى أن العمل يجب أن يربط بذكر الله تعالى والتمكين لذلك ، وأن الروح أولا وغذاؤها واجب ومهم سواء تعلق الأمر بالأرض (الكهف ) أو السماء (الاسراء) ، ولذلك وجب على كل فرد تغذية روحه اولا بذكر الله تعالى ، يجب أن ينعزل بين الحين والحين إلى كهفه يذكر ربه حتى يكتب الله له الارتقاء والاسراء من جاذبية الأرض إلى جاذبية السماء
فلا يجب أن يسيطر الجسد على الروح ، كما لا يجب أن تسيطر الشخصية على الذات بل يجب أن تحلق من جاذبية الأرض إلى جاذبية السماء ، ويجب أن يتغذى المؤمن من الصلاة والذكر والقرآن فذلك غذاء الروح حتى يقوى وينطلق في أداء واجبه ورسالته من الصراع الى التمكين
لعل في علاقة سورة الكهف بالإسراء إشارة إلى العلاقة بين الصراع والتمكين ، ففي سورة الكهف صراع لا يتوقف وفي الاسراء رحلة الى السماء ليتيقن الفرد أن الحياة معركة مفتوحة ولا راحة فيها إلا في الجنة ، وفي ربط الأرض بالسماء دلالة على جوهر دور الإنسان وهو الإستخلاف ودلالة على ربط الدنيا بالآخرة وإذا أراد الانسان أن يرجع إلى مساكنه الأولى فليعرج على طريق المجتهدين ففيها لنجاة والسعادة .

وإشارة أخرى إلى أن صراع الانسان في الأرض مع المادية وصورها المذكورة في سورة الكهف ، أما في سورة الاسراء ففيها استبدال بني اسرائيل بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا لشيء إلا لأن المادية سيطرت عليهم واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير فتحقق الهبوط والاستبدال .
……. يتبع

تعليق