لقد حاول خطيب الجمعة أن يكون معتدلا ضمن مساحات الحرية المتاحة في المساجد، بل أقول أنه تجاوز الحدود المتاحة، وأخشى عليه أن يُعاقَب. ومع ذلك نهض أحد المصلين بعد الصلاة يصيح بأعلى صوته محتجا على خطبة الإمام، ومما فُهم من كلامه المتلعثم: “عيشوا وحدكم!”، “كولوا وحدكم!” اسكنوا وحدكم!” “هاذي ماهيش خطبة!”.
لقد كنت أنا كذلك منزعجا جدا من الإمام في ما كان يقوله في الخطبة الأولى، ليس لأن ما كان يقوله مجانبا كله للصواب، لقد كان محقا في تنبيه الناس إلى مخاطر “الحرقة” ودعوتهم للصبر، ولكن كنت أخشى أن مع مبالغته في التشديد على الشباب “الحرّاق” ووضعهم أمام مصير أخروي مرعب أن يسكت على من تسبب في مصيرهم الدنوي المفزع.
ولكن حينما استدرك ببعض الكلمات عن مسؤولية الحكومة قلت لقد أدى الذي عليه، وبالشيء القليل الذي شهد به، مشكورا، عرّض نفسه للعقوبة من وزراة الشؤون الدينية المأمورة، وتجاوز منهجا منتشرا في المساجد، يروق الحكام، يجعل المسؤولية كلها على الرعية ولا يحمّل المسؤول أية مسؤولية عن مسؤوليته، بل يدعو الناس لقبول القمع ولو أخذ الحاكم أموالهم وضرب بالسياط ظهورهم، في تعسف منكر في انتقاء النصوص وتفسيرها.
ولكن ذلك المصلي الثائر لم يقبل محاولة اعتدال الخطيب البطولية في تناوله لهذا الموضوع الاجتماعي السياسي الخطير، لم يقتنع بميزان النصيحة الخفيفة للحاكم والإدانة الشديدة للحراقة الذي وزن به الإمام المسألة، فلربما عند صاحب ذلك الصوت المبحوح المحتج على الإمام واحد من أهله قد فُقد إلى الأبد، أو لا يزال في عرض البحر تترنح به مركبة الموت، أو قد وصل إلى الشاطئ الآخر ولكن لا تَعرِف أمُّه كيف مبيته ولا مصيره في بلاد الناس. يخيل إليك وأنت تسمع ذلك المصلي الحزين الغاضب كأنه يريد أن يبكي.
يعلم الله أنني تعاطفت شيئا ما مع ذلك الإمام الذي الذي قال كلمة حق، بقدر استطاعته، مجازفا باستقراره المهني أمام وزارة في خدمة جمهورية التحكم. ولكن تعاطفي مع ذلك المصلي الغاضب كان أكثر وأكثر، فهو من يمثل نبض الشعب حقا، صرخته المعبرة عن أسى الذين يغامرون بأرواحهم في مراكب الموت تُسقِط كل الأرقام الزائفة التي يقدمها المسؤولون عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي في الجزائر.
أذكر يوما كنت في حوار مع رائد النهضة الماليزية ومُلهمِ رواد الحضارة في العالم الإسلامي الدكتور مهاتير محمد، نتحدث عن أوضاع العالم الإسلامي فحدثني بأسى بليغ عن الدول الإسلامية التي يموت أهلها في البحار فرارا من بلدانهم إلى بلاد أعدائهم، قال لي: ” إنه لعَيبٌ وعار على حكام هذه البلدان”، هكذا فهمها رجل دولة تقلد المسؤولية ديمقراطيا لخدمة شعبه وإسعاد مواطنيه.
فعلا إنه لعيب وعار على حكامنا أن تعلن السلطات الإسبانية ذات يوم بأنه قد وصلها خلال أربع وعشرين ساعة أكثر من 1000 حراق جزائري عبر 80 قاربا للهجرة غير الشرعية، والأمر مستمر لا يريد التوقف، وشيء مفزع حقا أن تصبح “الحرقة” مشروع البطّال غير المتعلم والجامعي والمرأة والرجل، والشاب والكهل والطفل، بل مشروع عائلات بأكملها.
إن الهجرة غير الشرعية ليست تعبيرا عن ضيق في العيش فحسب، بل هي أكثر من ذلك، هي مؤشر على انقطاع الأمل كلية، وانهيار للثقة في مستقبل البلد. ومما يدل على ذلك أن الجزائريين توقفوا عن الهجرة غير الشرعية في بدايات الحراك الشعبي، لأن الحراك أعطاهم الأمل بأن الأمور ستتغير، ولكن حينما أدركوا بأن الأمور قد رجعت لما كانت عليه، وتصدّر المشهد من جديد نفس الرموز والأحزاب والممارسات والموازين ورجعت جحافل المزورين والزبونية والانتهازية، لم يصبروا على ضيق المعيشة وصعوبات الحياة التي يرونها كل يوم تتعاظم، بل أصبح القادم أسوء في اعتقادهم، فباتت المغامرة بالنفس من أجل احتمال ضئيل بتحسن الحال ما وراء البحر أفضل من الموت البطيئ المؤكد في البلد، حسب ظنهم.
ليست الهجرة السرية ظاهرة اجتماعية فحسب بل هي ظاهرة سياسية بامتياز، أبلغ من كل حديث وأوضح من كل بيان في توضيح فشل حكام البلدان التي يحدث فيها هذا.
ومما يزيد أهمية هذا العمل أن هذا الموقف السياسي البليغ لا علاقة له بساسة يمكن اتهامهم بأنهم يصارعون من أجل الكرسي، أو أنهم مرتبطون بقوى أجنبية. إنهم أناس من عموم الشعب أبعد ما يكون عن السياسة، يغامرون بأنفسهم لأجل أنفسهم ولكنهم يرسلون لنا جميعا رسائل تجعلنا نستحي ونخجل سلطة ومعارضة.
يخجل الجميع حقا أمام هذه الصورة المشينة عن بلادنا وهذا الوضع الإنساني المأساوي لمواطنينا، تخجلُ الأجيال المتعاقبة على نفس الحكم منذ قرابة ستين سنة لأنهم فشلوا في خدمة البلد وضيعوا الفرص تلو الفرص، وأغلقوا كل آفاق الإصلاح والتغيير أمام الناس، وتخجل الأجيال التي عارضت هذا الحكم منذ الاستقلال إلى اليوم لأنهم عجزوا جميعا على تحقيق التداول لتخليص البلد من هذه المنظومة التي تفرض نفسها بالتحكم والسيطرة والتزوير.
تمنيت لو أن “الحراقة” توقفوا عن المغامرة بحياتهم في عرض البحار وبذلوا التضحيات وخاضوا المغامرات من أجل التغيير داخل بلدهم، فأعانوا الثابتين على هذا الطريق ممن يثقون بهم، أو سلكوا طرقا سياسية جديدة خاصة بهم يخلصون بها البلد من الأسباب التي تجعل الناس يركبون مراكب الموت، لعلنا نصبح يوما ما بلدا جاذبا يتمنى الناس من سائر البلدان العيش فيه.
رئيس الحركة
د. عبد الرزاق مقري