بمناسبة استدعاء الهيئة الناخبة للانتخابات الرئاسية القادمة 07 سبتمبر 2024م، فإنَّ الواجب المعرفي يفرض علينا تناول مسألة الانتخابات من زاويةِ نظرٍ تأصيلية مبدئيةٍ مجرَّدة، بعيدةٍ عن حرية الموقف السياسي الاجتهادي والتقديري منها.
فالإسلام يتوفَّر على نظامٍ سياسيٍّ متكامل، ومنه وجوب وجود السُّلطة السِّياسية في الأمة، وهو ما يعني أنَّ الشريعة الإسلامية لا تؤمن بوجود الفراغ السياسي والمؤسساتي فيها، فقد نصَّ القرآن الكريم على وجود السُّلطة (أولي الأمر) ابتداءً قبل ترتيب الأحكام الشرعية اتجاهها، في قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم..”(النساء:59)، ولولا وجودها ابتداءً لكلَّفنا الله بما هو غير موجود، وهو على الله مُحال، وقد نصَّ “ابن خلدون”(ت: 1406م) في “المقدمة” بأنها: “ضرورةٌ عقلية وفريضةٌ شرعية”، وأنَّ هناك قيمةً شرعيةً ومصلحةً دنيوية لهذه الضَّرورة البشرية، كما قال شيخ الإسلام “ابن تيمية”(ت: 1324م) في كتابه “السِّياسة الشَّرعية في إصلاح الرَّاعي والرَّعية” بقوله: (يجب أنْ يُعرف أنَّ ولاية أمر النَّاس من أعظم قربات الدِّين، بل لا قيام للدِّين ولا للدنيا إلا بها). إلاَّ أنَّ ظاهرة السُّلطة ومعادلة الحكم وواجب الممارسة السِّياسة والانتخابية لا تتوقَّف على المعالجة الفقهية لمسائلها، إذْ أنَّ قضاياها تتجاوز ما هو منصوصٌ عليه شرْعًا، وهو ما يقتضي الاجتهاد في إعمال القواعد الكلية والمقاصد الكبرى للشريعة الإسلامية، بالاعتماد على مصادر غير نقليةٍ للتشريع في المجال السِّياسي، وهو ما يتطلب الانتقال من “الفقه السِّياسي” إلى “الفكر السِّياسي” في الممارسة السِّياسية، ومن ذلك وضع رؤيةٍ تأصيلية لمسألة الانتخابات المعاصرة، كإحدى الآليات الاجتهادية في تطبيق مبدأ “البيعة” و”الشورى” في الإسلام، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن ضرورة إعطاء واجب الولاء إلى السلطة في الأمة في قوله عن البيعة السياسية لوليِّ الأمر: “مَن مات وليس في عُنُقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية”، فنحن بحاجةٍ إلى الجمع بين “السِّياسة الشَّرعية” و”الشَّرعية السِّياسية” لصالح الأمة. وعندما نقوم بسردٍ تاريخيٍّ لكيفية اختيار الخلفاء الراشدين الأربعة، كنموذجٍ لاختيار أولي الأمر في الإسلام نخلص إلى نتيجةٍ مفادها: أنه لا توجد آليةٌ نمطيةٌ موحَّدةٌ في ذلك، وأنها لم تكن توقيفيةً ملزِمةً لكلِّ زمانٍ ومكان، بل كانت اجتهاديةً تقديرية، من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، وهو ما يفرض علينا التأسيس لرؤيةٍ مقاصديةٍ وواقعيةٍ اتجاه “الانتخابات” بمناسبة استدعاء الهيئة الناخبة للرئاسيات القادمة، وهي: 1/الانتخابات نظامٌ ضدَّ الفوضى: فقد جاءت الشرائع السَّماوية لتنظيم حياة الناس ضدَّ الفوضى والعبثية، كما قال تعالى: “لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومنهاجًا”(المائدة: 48)، وأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى آليةٍ من آليات ذلك، ولو في شأنٍ دنيويٍّ عابرٍ، مثل: السفر، فقال: “إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ فليُؤمِّروا عليهم أحدَهم”، قال الإمام الخطابي في شرحه لهذا الحديث: (إنما أمر بذلك ليكون أمرُهم جميعًا، ولا يتفرَّق بهم الرأي، ولا يقع بينهم الاختلاف)، وتنظيم حياة المسلمين (في الدنيا والدين) واجبٌ شرعًا من باب أولى، وأنَّ انعدام هذا الرباط الذي يجمع بين الرَّاعي والرَّعية صورةٌ من صور الفوضى، ومظهرٌ من مظاهر الجاهلية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “من خلع يدًا من طاعة لقِيَ الله يوم القيامة لا حجَّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية.”. والانتخابات المعاصرة هي آليةٌ من الآليات المتاحة والمباحة في تنظيم الحياة السياسية، واستمداد السلطة التأسيسية والشرعية السياسية من الشَّعب، وهي وسيلةٌ من الوسائل المتاحة في العصر الحديث في اختيار أولي الأمر في الإسلام، وهي من أعظم واجبات الدين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (يجب أن يُعلم أن وِلاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها..). 2/ الانتخابات نوعٌ من أنواع الشَّهادة: فإذا كان اختيارُ أولي الأمر من أعظم واجبات الدين، فإنَّ انتخابَهم نوعٌ من أنواع الشهادة والتزكية لهم، وقد نَدَبنا الله تعالى إلى أدائها – وخاصة إذا طُلِبت منَّا – لِمَا في ترْكها من الضياع للحقوق، فقال تعالى: “ولا تكتموا الشَّهادة، ومَن يكتمها فإنه آثمٌ قلبُه..”(البقرة: 283)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (شهادة الزُّور من أكبر الكبائر، وكتمانُها كذلك)، بل قد ندَبَنا الإسلام إلى الشهادة وإنْ لم تُطلب منَّا، فقال صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بالشَّهادة وإنْ لم يُسألها”، فهي تأخذ بُعدًا تعبُّديًّا، وأنَّ التعمُّد في الخطأ فيها هي خيانةٌ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: “مَن استعمل عامِلاً على المسلمين وهو يعلم أنَّ فيهم مَن هو أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين”.
3/ الانتخابات صورةٌ من صوَر البيعة: فقد شهدت التجربة السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم صوَرًا كثيرةً ومختلفةً من البيعة، قد تعدَّدت وتجدَّدت عبر المسيرة النبوية الشريفة، ابتداءً من بيعة العقبة الأولى سنة: 11 للبعثة، وبيعة العقبة الثانية سنة: 12 للبعثة، وبيعة الرضوان سنة: 06 للهجرة، وقد استوعبت بيعةَ الرجال والنساء فرادى وجماعات على الإمارة والجهاد ومسائل أخرى، كالبيعة على التوحيد والسمع والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنُّصح لكلِّ مسلم والبيعة على عدم النياحة للنساء.. وغيرها، وهو ما يدلُّ على أنَّ البيعة في الإسلام ليست ثابتةً على آليةٍ واحدة، وأنها قابلةٌ للتغيير بحسب الحال، وأنَّها قد تتطوُّر وتأخذ أشكالاً عِدة، وقد تنعقد على قضايا مختلفة قد تكون كلية أو جزئية ..
4/ الانتخابات آليةٌ من آليات تطبيق مبدأ الشورى: وهي الآلية في صناعة القرار، كما جاء في التكليف الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم: “وشاورهم في الأمر..”(آل عمران: 159)، وهي الصِّفة اللازمة للمؤمنين في اتخاذ القرار في قوله تعالى: “.. وأمرهم شورى بينهم..”(الشورى: 38)، ولتعقُّد الحياة المعاصرة فإنَّ الانتخابات قد تكون إحدى آليات هذا التعبُّد بهذا التكليف.. ويعتقد البعض أنَّ “الشورى” لا تكون إلا مِن أهل الحل والعقد ولا شأن للعامة بها، وكأنه لا عقل لهم ولا تكليف، ولا حرية لهم ولا اختيار، وهو نوعٌ من التجنِّي والمصادرة لحقِّ الرَّعية في أمرها، مع أنَّ الآية تقول: “وشاورهم في الأمر” بدون تمييز، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “أشيروا علي أيها الناس..” فلم يستثن أحدًا، بل كان يفعل ذلك وهو في غِنًى عن رأيهم بالوحي تطييبًا لقلوبهم، كما نقل الإمام القرطبي عن الحسن البصري قال: (ما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة لحاجةٍ منه لرأيهم، وإنما أراد أنْ يُعلِمهم ما في المشاورة مِن الفضل، ولتقتدي به أمَّتُه من بعده..).
5/ الانتخابات طريقةٌ لمعرفة رأي الأغلبية: ورأي الأغلبية في الأمة معتبرٌ شرعًا، ومن الأدلة على ذلك: فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، إذ كان يرى عدم الخروج من المدينة لملاقاة العدو، وكان رأي الأغلبية من الصحابة على خِلاف ذلك، ولا يزالون به حتى أخذ برأي الأغلبية منهم، وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: “لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما..”، قوله صلى الله عليه وسلم: “الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد”، وأنَّ الفقهاء كانوا يرجِّحون المسائل عند الاختلاف: برأي الجمهور والمشهور والإجماع والعُرْف، وهو نوعٌ من أنواع الأخذ برأي الأغلبية..
6/ الانتخابات طاعةٌ لولي الأمر، وليست خروجًا عنه: يعتقد البعض أنَّ تشكيل الأحزاب والتنافس بينها في الانتخابات هو نوعٌ من أنواع التفرقة وشقِّ عصَا الطاعة، وأنها مظهرٌ من مظاهر التنازع والخروج عن الحاكم.. والحقيقة أنَّ ولي الأمر هو مَن وضع الدستور الذي أقرَّته الأمة، وهو الذي سمح بتشكيل الأحزاب وتنظيم الانتخابات، فيكون ذلك طاعةً له لا خروجًا عنه، وبالتالي فالذي يقاطع الاهتمام بالشأن العام هو مَن يخالف ولي الأمر، وأنَّ الذي يكفر بالأحزاب يقع في أبشع صور الحزبية من حيث لا يشعر، لأنَّ كلَّ مَن يتميَّز عن الأمة باسمٍ أو لباسٍ أو شكلٍ أو فكرٍ فهو حزب وإنْ لم يتسمَّ بذلك، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: (والحزب: جماعة الناس، وكلُّ قومٍ تشاكلت قلوبُهم وأعمالُهم فهم أحزاب، وإنْ لم يلق بعضهم بعضًا)، مثل تسمية القرآن الكريم للقبائل بالأحزاب، وقد نزلت سورةٌ كاملةٌ فيهم، وهي سورة الأحزاب.
7/ الانتخابات سلوكٌ حضاريٌّ للتغيير: فقد أثبتت التجارب المعاصرة أنَّ للانتخابات دورٌ فعَّالٌ في التغيير، إذا توفَّرت على مشاركةٍ شعبيةٍ واسعة تعبِّر عن الإرادة الحقيقية للأمة، وهي آليةٌ جماعيةٌ للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العام، كما جاء في الحديث الشريف: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.”، وهذا التغيير ليس خاصًّا بأولي الأمر، بل عامٌّ لآحاد المسلمين، كما قال القاضي عياض عليه رحمة الله: (هذا الحديث أصلٌ في صفة التغيير، فحقُّ المغيِّر أنْ يغير بكلِّ وجهٍ أمكنه زواله به: قولاً كان أو فعلاً..)، ولذلك فقد تكون الانتخابات آليةٌ لتغيير الواقع الذي يشكو منه الناس، من غير يأْسٍ أو تخلٍّ عن الواجب، فقد كُلِّفنا بتقديم الأسباب والقيام بالواجب وتبرئة الذمة واستفراغ الجُهد وعدم الانخداع بالنتائج، التي هي بيد الله تعالى، وانظر إلى قوله عز وجل: “وإذْ قالت أمَّةٌ منهم لِمَا تعِظُون قومًا الله مُهْلِكهم أو معذبُهم عذابًا شديدًا، قالوا: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون”(الأعراف: 126).
إنَّ هذا الموضوع يتناول مسألة “الانتخابات” من الناحية العلمية المجرَّدة، بعيدًا عن أيِّ اختزالٍ أو إسقاطٍ أو تشخيص، وأمَّا الموقف منها فهو يخضع للاجتهاد البشري في تقدير المصلحة أو المفسدة، وهو يتركَّز في دائرة “الخطأ والصواب” وليس في دائرة “الحقِّ والباطل”، وأنَّ الذي يُطمأن إليه هو الرأي الجماعي المؤسَّساتي، وليس الرأي الانطباعي الفردي ..