نحن بحاجةٍ إلى الرؤية التأصيلية للعمل السياسي وفق التصور العقدي الإسلامي، إذْ أنَّ العمل السياسي يمثِّل مصدرًا للقلق والإزعاج لدى الكثير، إذْ له منغِّصاتٌ ثقيلةٌ على الحياة الروحية لهم، لأنه ملتصق بالدنيا وبالمناصب وبالتنافس، ومزدحمٌ بصراع الرغبات وتصادم الإرادات وتقاطع الطموحات والمصالح. ولهذا السبب فإننا بحاجةٍ إلى تأصيل العمل السياسي وفق التصور العقدي الإيماني والأخلاقي، وصياغة تصوراتنا عنه ضمن البعد المقاصدي والحضاري في حياتنا الإيمانية ونحن نسير إلى الله عز وجل.
ولا نبالغ إذا قلنا بأنَّ من أعظم الوظائف الحضارية للإنسان وأقدسها في هذا الوجود هي الوظيفة السياسية، وهي المهمة الأساسية والمحورية له في الحياة، وهو التكليف الإلهي الذي حُدِّد له قبل وجوده، فقد نقل القرآن الكريم حوارًا علويًّا بين الله تعالى وملائكته في الملأ الأعلى عن هذه الوظيفة الوجودية له في الأرض، فكانت أصالةً في التصوُّر الإيماني عنها، في قوله تعالى: “وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة..”(البقرة:30).
ولفظ الخليفة هو مصطلح سياسي، وواجب الخلافة هو تكليفٌ سياسي، فهو مصطلحٌ ذو حمولةٍ سياسيةٍ بامتياز، وقد لخَّص علماؤنا معنى الخلافة في قولهم: “هي سياسة الدنيا بالدين”، وحول هذه الوظيفة المقدَّسة ندندن.
فسياسة الدنيا بالدين هي المهمة الأساسية والرئيسية والأولى في حياة المؤمن، ولذلك فإن العمل السياسي ينتمي إلى هذا العمق الزمني في التاريخ السحيق، ينبغي لنا أن نمارسه بهذه الأبعاد الأخلاقية والروحية العميقة.
فمن أعظم مراتب الجهاد في الإسلام، هو الجهاد السياسي السلمي والمدني، ومما يدلُّ على ذلك: النص النبوي الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أعظم الجهاد، كلمة حق، أمام سلطان جائر”، وهو يتحدث عن العمل السياسي.
ومن أعلى مراتب الشهداء في سبيل الله، هو الشهيد السياسي، كما ورد في الحديث النبوي الشريف: “سيد الشهداء حمزة، ورجلٌ قام إلى إمامه فأمَرَه ونَهَاه فقَتَله”. ومن أعظم الأجور في سبيل الله هو الأجر السياسي، وهو ما نحرص عليه ونحن نجتهد في الشأن العام، لأنَّ نفع العمل السياسي دائمٌ ومتعدي وعام، وهو ما نتطلع إليه بالارتقاء في العمل السياسي من الأجرة السياسية الدنيوية المادية إلى الأجر السياسي الأخروي، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ”إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا”، لأن صلاة 70 سنة هي عبادة فردية وفوائدها خاصة، أمَّا القوْمَة في سبيل الله – ومنها في الشأن العام لنفع الناس وخدمتهم – فنفعها عامٌّ ودائمٌ ومتعدِّي، وفيها من الأجر بقدر ما ينتفع به الخلائق، وقد جاء في الحديث: “الناس عيال الله، وأحب الناس إلى الله أنفعهم لعياله”، ولذلك فإنَّ الأجر السياسي هو من أعظم القربات الذي نتقرَّب به إلى الله عز وجل. فما هي أبعاد المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ 1/ الانخراط في مشروع الأمة: قدرُنا أن نعيش هذا السياق التاريخي الذي سقطت فيه الخلافة الإسلامية رسميًّا عام 1924م، إلاَّ أنه هناك سُنَّةٌ من سنن الله في الأمة، وهي سُنَّة التجديد، في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”، وقد بعث الله مجددين في القرن الماضي، وهو قرن الصحوة، وقد حقَّقت الأمة أهدافها في تلك المئوية، وهي عودتها بشكل عام إلى الهوية وإلى الدين، وأصبح التديُّن ظاهرة اجتماعية وشعبية، وترسَّخت هوية الأمة بالاعتزاز بانتمائها التاريخي والثقافي والحضاري.
وإننا اليوم أمام حتميةٍ جديدةٍ لهذه الأمة، وهي التجدُّد على رأس كل مائة سنة، وهي الانتقال من الصحوة إلى النهضة، وأنَّ القرن القادم سيكون قرن النهضة، ولن تكون هناك نهضة دون الوصول إلى الدولة، وأنَّ خيارنا الفقهي والفكري هو الوصول إلى الدولة عبر الإرادة الشعبية والاحتكام إلى الآلية الديمقراطية وهي الانتخابات. إننا في قرنٍ جديد لهذه الأمة، وهي تعيش إرهاصاتِ ميلادٍ جديد، وفي الوقت الذي وصل فيه هذا الجشع الغربي وعبر أدواته في المنطقة، وهي دول التطبيع والخيانة، والتي تقود الثورات المضادة ضدَّ إرادات الشعوب وسيادات الدول الوطنية، فإنَّ الجزائر لا تزال قلعة عصية على هذا الانهيار، وهو ما يجعل المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وحفظ سيادة الدولة واستقلالها عبر الإرادة الشعبية هو انسجامٌ طبيعيٌّ مع هذا البُعد الحضاري للأمة، إبطالٌ سياديٌّ لهذا السحر الغربي ضدَّها. 2/ البُعد المرتبط بالقضية المركزية: هناك حقيقةٌ نصية تصدِّقها الحقيقة الواقعية، وهو النص النبوي الشريف: “لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”. ولا يزال هذا الحديث حيًّا صحيحًا وممتدًّا في الزمان والمكان والإنسان منذ 1445 سنة، ولا تزال له حقيقةٌ واقعيةٌ شاهدة، ولذلك فإنه لو اجتمعت قوى الدول الغربية وأدواتها العربية المطبِّعة، والتي تمثِّل 80% من العسكرية العالمية، بما يمثِّل حربًا عالمية حقيقية في محاولات خبيثةٍ لتصفية القضية الفلسطينية، فإنَّ الحقيقة الواقعية تؤكد أنهم لن يستطيعوا القضاء المقاومة ولو أرادوا. فالإرادة الغربية الصهيونية لتصفية المشروع الحضاري للأمة في العصر الحديث، وتحديدًا في العالم العربي، وفي قلبه: البوصلة وهي القضية المركزية، ومخاطر ذلك وتداعياتها على الأمة لا تخفى على المراقب الاستراتيجي، إذْ لا تزال الأمة تعيش استهدافًا معقَّدًا ومركَّبًا، وكانوا على وشك تصفية القضية الفلسطينية، لولا الخطوة الجريئة للمقاومة الفلسطينية “بمعركة طوفان الأقصى”، وهي الضربة الاستراتيجية الصادمة للعالم، قد قَلَبَت الطاولة على الجميع، وأوقفت هذا الانهيار المريع للمشروع الحضاري للأمة. ولذلك فإنَّ المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وانسجام الإرادة الشعبية مع الإرادة الرسمية فيها هو ما يعزِّز موقف الدولة الجزائرية اتجاه القضية الفلسطينية، ضمن الإطار الطبيعي العربي الإسلامي للدولة الجزائرية. 3/ البُعد المرتبط بالديمقراطية والتعددية والتنافسية: لقد نصَّ بيان أول نوفمبر 1954م – كأسمى وثيقةٍ تاريخيةٍ وتأسيسيةٍ للدولة الجزائرية – على البُعد الديمقراطي لها، وذلك ضمن الأهداف الداخلية للثورة التحريرية المباركة، وهو: “إقامة دولةٍ جزائريةٍ ديمقراطيةٍ، اجتماعيةٍ، ذات السيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، وهو ما يقضتي إلزامية القبول بالتعددية الحزبية والنقابية والجمعوية من أجل تكريس تنافسية الأفكار والبرامج والبدائل، عبر آليات الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية. ومن السُّنن الإلهية الثابتة والمطردة في الاجتماع البشري: سُنّة التدافع، والتي تمارسُ دورًا مصلحيًّا ورقابيًّا على مكوّنات المعادلة الشعبية، وتحمل مضمونًا وغايةً خيريّةً للدولة، والتي يُضبط بها صلاحُ الشأن العام، ويُدفع بها الفسادُ في البلاد، ويُحافَظُ بها على الحيوية في الحياة السياسية، وتُحفَّز بها الطاقاتُ نحو التنافس من أجل التجديد والتطوير والإبداع، وقد قال تعالى عن هذه السُّنّة في حفظ الدنيا من الفساد: “ولولا دفْعُ الله النّاس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض، ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين”(البقرة:151)، وقال عنها بما يحفظ الدّين والقيم الإنسانية من الانهيار في قوله تعالى: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ،
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”(الحج:40). ولا توجد مثل الانتخابات في تطبيق هذا البُعد الديمقراطي للدولة، وهذا الانسجام مع السُّنة الإلهية في التدافع بالتعددية والتنافسية، وتكون المشاركة في الانتخابات الرئاسية أسمى صور هذه التعددية والتنافسية، باعتبارها تنافسٌ على المشاريع والبرامج الوطنية الكبرى. 4/ البُعد المرتبط بالمحافظة على التيارات والمدارس السياسية الأصيلة في المجتمع: فمشاركتنا في الانتخابات الرئاسية يحافظ على هذه المكوِّنات الرئيسية في الوطن، وعلى التوازنات الطبيعية لمكونات الشعب، وفي الوقت الذي تعاني فيه التيارات السياسية في العالم العربي من الصراعات العدمية، نبقى نحن في الجزائر نحمل راية هذه الصورة المشرقة من التنافس الشريف والتدافع السياسي النظيف، في أجواءٍ من التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين الأحزاب والعائلات السياسية الكبرى، في وجودٍ قانوني رسمي وطبيعي، وهو ما يفرض علينا الإبقاء على هذه الميزة التنافسية في الجزائر قائمة، وستكون هذه الانتخابات فرصة لإبراز هذه التعددية والحفاظ على هذه العائلات السياسية، وعلى الوعاء الطبيعي للتيارات، ومنها: التيار الإسلامي ومدرسة الوسطية والاعتدال. ونحن نعتقد أن الشرعية السياسية عبر المشاركة السياسية الواسعة، والتي تدعِّمها مشاركة الأحزاب والعائلات السياسية الكبرى ستعطي مصداقيةً للدولة الجزائرية، وقوةً لمؤسسات الدولة، وحصانةً لشرعيتها المستقبلية، وأنَّ مجرد المشاركة في هذه الانتخابات هي رسالةٌ سياسيةٌ قويةٌ باتجاه القوى الإقليمية والدولية المراقِبة لتجربة الديمقراطية في الجزائر. 5/ البُعد المرتبط بالدولة: نحن نفرِّق بين الدولة والنظام والسلطة والحكومة، فالدولة هي: وطن وشعب وسلطة، وبالتالي فنحن جزء من الدولة من الدولة الجزائرية، فالدولة هي دولتنا ونحن أصلاء فيها. وعندما نعود إلى مفهوم الدولة في الإسلام، فإنَّ الإسلام يرفض أي شغور سياسي ومؤسساتي للسلطة داخل الأمة، فعندما يقول ربنا عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم”(النساء:59)، لا يمكن التكليف بطاعة أولي الأمر (السلطة السياسية) إن لم تكن موجودةً ابتداءً، لأنه سيكون تكليفٌ بما هو غير متاح، وهو على الله محال، وعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلَّم: “من مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية”، والذي يُقصد بها البيعة السياسية في الدولة، وليست البيعة التنظيمية في الجماعات، وهو ما يفرض على كلِّ فردٍ من الأمة واجب الانتماء والولاء في المعروف للسلطة في الدولة. ونحن كدولةٍ جزائريةٍ لا تزال تحافظ على هويتها وانتمائها وتاريخها وثباتها في مواقفها الأساسية مقارنة مع باقي الدول الأخرى، ونحن بلدٌ لا يزال مهددًا ومستهدفًا نتيجة مواقفه المبدئية التاريخية والثابتة اتجاه القضايا العادلة، وعلى رأسها: القضية الفلسطينية، وأنَّ دول التبعية والتطبيع لا تزال تلعب أدوارًا وظيفية خطيرةً ضدَّنا، وهي تعمل على احتوائنا بمشروع الخيانة والغدر ضدَّ الأمة، كأدواتٍ لمشروع الحركة الصهيونية العالمية، وعند رصد هذا الاستهداف المركَّز على الجزائر نجد أنَّ مشروع التطبيع ومحاولات تهديد أمننا القومي يحيط بنا من كلِّ حدودنا الملتهبة من المغرب والصحراء الغربية، إلى الانقلاب العسكري في مالي والنيجر، إلى الحالة ِالانقسامية في ليبيا والوضع الهشِّ في تونس.. فنحن محاطون بمشاريع تستهدف استقرار الدولة الجزائرية وسيادتها، ولن يفوِّتوا فرصة هذه الانتخابات الرئاسية في المحاولات المستميتة للتدخُّل في شؤوننا الداخلية، كما حاولوا التدخُّل في رئاسيات 2019م لولا أنَّ الله سلَّم. إن مشاركتنا في الانتخابات الرئاسية يعتبر تمينًا للجبهة الداخلية، وهي إعطاءٌ للشرعية وإصباغٌ للمصداقية عليها، وهي حمايةٌ لمؤسسات الدولة وشرعيتها في المستقبل، ولن نسمح باستغلالها للمساس بسيادة الدولة واستقلالها، وأنَّ هذه المشاركة تتجاوز “منصب رئيس الجمهورية” إلى أهدافٍ استراتيجية قبل وأثناء وبعد الانتخابات، وهو ما يتناغم مع الأهداف الكبرى لمراكمة المسار الديمقراطي والمؤسساتي في البلاد.
إنَّ هذه الانتخابات الرئاسية فرصةٌ للجزائر وللشعب الجزائري في المحفاظة على سيادة الدولة واستقلالها، وهي محطةٌ للتأكيد على تمتين الجبهة الداخلية، وزيادة منسوب شرعية مؤسسات الجمهورية، وأنَّ التوجَّه الوطني العام لكلِّ مكوِّنات الحياة السياسية والحزبية يدفع باتجاه المشاركة السياسية الواسعة فيها، وهو ما يعزز المسار الدستوري، ومصداقية البُعد الديمقراطي والمؤسساتي للدولة.