تمرُّ علينا هذه السنة الذكرى 21 لوفاة الشيخ محفوظ نحناح عليه رحمة الله، وهو الذي التحق بالرفيق الأعلى يوم 19 جوان 2003م، وبذلك ودَّعت الجزائر والأمة العربية والإسلامية خطيبًا مفوَّهًا، وداعيةً متمرسًا، ومربيًّا ناجحًا، وسياسيًّا بارعًا، ووطنيًّا مخلصًا، وإنسانًا راقيًا، ومدرسةً أصيلة، وقد ملأ الدنيا وشَغَل الورى، وترك أثرًا لا يُنسى. وممَّا تميَّز به الشيخ محفوظ نحناح – عليه رحمة الله جرأته الأدبية وقدرته الفكرية وفراسته السياسية من أجل التجديد في الفقه السّياسي الإسلامي المعاصر، وذلك بالانتقال من “السِّياسة الشَّرعية” بحمولتها الإيديولوجية وخلفيتها التاريخية إلى “الشَّرعية السّياسية” عبر الآليات الديمقراطية المعاصرة، والإبداع في التكييف بين الواقع المعاصر وبين المبادئ والقيم السّياسية الأصيلة، وهو الذي يدرك أنَّ “المشروع الإسلامي” و”الفكرة الإسلامية” قدرها أن تنتقل من الفرد والمجتمع إلى الدولة، وتصنع النهضة، ومنها إلى الحضارة وأستاذية العالم، فالإسلام ذو طبيعةٍ سياسيةٍ وقانونيةٍ ودستورية، وقد أحذ مسارًا سياسيًّا ومؤسساتيًّا معروفًا، فقد بدأ فرادًا في غار حراء، ثم جماعةً في “دار الأرقم بن أبي الأرقم”، ثم مجتمعًا في المرحلة المكية، ثم دولةً في المدينة المنورة، ثم جاءت الفتوحات الإسلامية، وتأسَّس الكيان السياسي للأمة وهو الخلافة الإسلامية، ثم صنعت هذه الخلافةُ نهضةً علمية وعمرانية إنسانية تمثَّلت في الحضارة الإسلامية، وهي الحضارة الأطول في تاريخ البشرية. كما أنَّ “الشيخ” أدرك أنَّ الفقه السّياسي الإسلامي يقوم على مجموعةٍ من الأركان في فقه الدولة، ومنها: 1_ وجوب السّلطة في الأمَّة: أو ما يُسمَّى بنصْب الإمام، وأنَّ ذلك واجبٌ دينيٌّ قبل أن يكون ضرورةً سياسية واقعية، إذ لا يجوز أن تبقى الأمَّة بلا سلطة (بلا إمام)، وهو ما أكَّدت عليه النُّصوص الدّينية نظريًّا، وما ترجمته الأمَّة عمليًّا، فقد جاء في الحديث النبويّ الشَّريف: “مَن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية”، وهو ما يؤكّد على الطبيعة القانونية والدستورية للأمَّة، إذ لا يجوز للمسلم أن يبقى بلا إمام (بلا حاكم)، وقد قال تعالى على وجوب ذلك ابتداءً: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسول وأولي الأمر منكم..”(النساء:59)، والآية تدلُّ على وجود “أولي الأمر” في الزَّمان والمكان، وإلاَّ فإنَّه تكليفٌ بما هو غير موجود، وهو على الله محال، وهو ما ينبِّهنا إلى خطورة وجود الفراغ السياسي في السّلطة، والفراغ المؤسساتي في اللأمَّة. 2_ الأمَّة مصدر شرعية السُّلطة في الإسلام: إذْ تُعتبر المشاورة (صناعة القرار) في قوله تعالى: “.. وشاورهم في الأمر..”(آل عمران: 159)، والشورى (اتخاذ القرار) في قوله تعالى: “..وأمرُهم شورى بينهم..”(الشّورى: 38) من أهمِّ المبادئ والقيم السّياسية الإسلامية التي تؤكد أنَّ الشعب هو مصدر الشرعية السياسية للسُّلطة في الإسلام، وهو ما يعني توزيعَ عناصرِ القوَّة بين الشَّعب والسُّلطة. 3_ حقُّ الأمَّة في الرقابة على السُّلطة: وقد جاء في القواعد السّياسية لنظام الحكم التي أرسَاهَا سيِّدنا أبو بكر رضي الله عنه: (.. فإن أحسنتُ فأعِينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإنْ عصيتُ فلا طاعة لي عليكم..)، وهو إقرارٌ بمشاركة الشّعب في تحمُّل مسؤولية مراقبة شؤون الحكم، وأنَّ النُّصح للحاكم وتقويم السُّلطة ومعارضة أيِّ فسادٍ أو استبدادٍ ليس مجرد حقٍّ للأمّة، بل هو واجبٌ عليها. ولذلك رفع الشيخ محفوظ نحناح السَّقف عاليًّا في الاجتهاد السياسي من “فقه المشاركة السياسية” إلى “فقه الشَّراكة السِّياسية”، وهو ما دفعه للمشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1995م، رغم خطورة البيئة السياسية والقانونية والأمنية المحيطة بها، والتي رُفع الشعار المرعب فيها: “من الصندوق إلى الصندوق”، وقد كانت الجزائر تعيش جنون الكل الأمني الاستئصالي باسم الدولة، وجنون الإرهاب والتطرُّف باسم الإسلام، وبالرغم من عدم واقعية الفوز بمنصب رئيس الجمهورية إلا أنَّ “وطنية الشيخ” كانت تتطلع إلى أهدافٍ استراتيجية، تتجاوز المنصب والطموحات الحزبية والشخصية، ويتجلَّى ذلك في الأبعاد الاستراتيجية للمشاركة في تلك الانتخابات، وهي: _ الانحياز إلى الدولة وتبنِّي الخطاب الوطني الجامع: لقد كان الشيخ نحناح يميِّز بين “الدولة” و”السُّلطة”، وكان يخوض هذه الاجتهادات السياسية للانحياز بشكلٍ واضحٍ إلى أولوية بقاء الدولة، باعتبارها فريضة شرعية وضرورة واقعية. _ تبنِّي الخيار الديمقراطي: وهو الخيار الصَّعب في زمن الإرهاب والكلِّ الأمني، ولكنه حتميةٌ لبناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية على قاعدة الإرادة الشَّعبية، بعيدًا عن الانقلابات العسكرية، أو التدخُّلات الأجنبية، أو استعمال العنف للوصول إلى السُّلطة أو البقاء فيها، وذلك لقناعته المبدئية بأنَّ الخيارَ الديمقراطي هو السَّبيلُ الوحيد إلى الشراكة السياسية الحقيقية، فقد نصَّ في كتابه “الجزائر المنشودة” عن شروط الديمقراطية الحقيقية: “أن تكون الإرادة الشَّعبية المعبَّر عنها من خلال الانتخابات الحرَّة والنزيهة هي السَّبيل الطبيعي والقانوني الوحيد للوصول إلى السُّلطة والخروج منها”. _ الدَّعوة إلى تمدين النِّظام السِّياسي: لقد ناضل الشيخ محفوظ نحناح طويلاً من أجل تمدين النظام السِّياسي، وكان ذلك من بين أهمِّ مفاتيح خطابه في مختلف الاستحقاقات الانتخابية منذ رئاسيات 1995م، إذ يعتبر تدخُّل المؤسَّسة العسكرية في الحياة السِّياسية المدنية، وترجيح الكفَّة في المنافسات الانتخابية عبر انحياز “الأسلاك النظامية”، وعدم احترام الإرادة الشعبية في تأسيس السُّلطة المدنية، عائقا حقيقيًّا أمام الحرية والديمقراطية والتنمية. _ المشاركة في الانتخابات الرئاسية سنة 1995م: لقد جاء في خطاب الرئاسيات قوله – عليه رحمة الله: “إنَّ الانتخابات الرئاسية في اعتقادنا: فريضةٌ شرعية وضرورةٌ واقعية، وهي خطوةٌ للسَّير نحو انفراج الأزمة أو التخفيف منها، لأنَّ الوطن لا يمكن أن يستمر على هذه الحال المتأزمة بدون هيئات منتخبة..”. _ التطلُّع من المشاركة في الحكومة إلى الشَّراكة في الحُكم: فلقد طالب في خطاب افتتاح المؤتمر الثاني للحركة يوم 04 مارس 1998م بضرورة ترقية الائتلاف الحكومي إلى تحالفٍ، كقناعةٍ سياسيةٍ واستراتيجيةٍ مستقبلية، فقال: “وتشرَّفت الحركة بالمساهمة في التصحيح التاريخي من خلال الائتلاف الوطني الإسلامي، متمنِّين أن يرقى إلى تحالفٍ قوي، يتَّسع لكلِّ القوى والأفكار”، وكم كان يردِّد مستشرفًا: “نحن في الحكومة ولسنا في الحكم”. لقد كان من بين أهداف هذه المشاركة في الانتخابات الرئاسية لسنة 1995م ما نصَّ عليه “الشيخ” في كتابه “الجزائر المنشودة”، هي: _ المساهمة في الحفاظ على الدولة الجزائرية، ومنع بنيانها من الانهيار والسُّقوط، ونقصد هنا الدولة، لا السُّلطة أو الحكومة أو النِّظام القائم. _ الحفاظ على صورة الإسلام، من خلال تقديمه في صورةٍ مخالفةٍ للصُّوَر المشوَّهة الدموية المرعبة، التي رسمتها له خناجر الإرهاب وحناجر وسائل الإعلام المتغرِّبة في الداخل والغربية في الخارج. _ تثبيت صورة الحركة الإسلامية الوسطية المعتدلة، واعتراف السُّلطة بشرعية هذه الحركة وأصالة وطنيتها في خدمة البلاد، رغم محاولات إقصائها الفكري والسِّياسي والقانوني. – المساهمة في طمأنة القوى الداخلية والخارجية تجاه الحركة الإسلامية، وإظهار استعدادها للعمل الديمقراطي السِّلمي، وقطع الطريق عن التيار التغريبي الاستئصالي الذي استغل المأساة الوطنية لتمرير مخططاته التي تستهدف الإسلام والثوابت الوطنية تحت غطاء مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه.
لقد كانت مشاركة الشيخ نحناح – عليه رحمة الله في الانتخابات الرئاسية 1995م مشاركةً تاريخيةً استثنائية، استشرف فيها – ببُعد النظر – النتائج الاستراتيجية الكبرى التي تتجاوز الطموحات الشخصية والحزبية في المنصب إلى أهدافٍ لا تزال تستفيد منها دولته وشعبه وحركته إلى الآن.