الرئيسية مقالات أ. حمدادوش ناصر إسرائيل تخسر معركة البقاء الثانية

إسرائيل تخسر معركة البقاء الثانية

كتبه كتب في 20 مايو 2024 - 6:03 م
مشاركة
AisPanel

تمرُّ علينا الذكرى 76 للنكبة بقيام إسرائيل، الموافقة لـ: 15 ماي 1948م، ومع التطوُّرات الدراماتيكية المتسارعة للمعركة الوجودية والمصيرية التي تخوضها المقاومة ضدَّها في “معركة طوفان الأقصى” منذ 07 أكتوبر 2023م إلى الآن، يفرض علينا الوقوف على أكثر الأسئلة إثارةً للجدل عن مستقبل إسرائيل، وهي التي تأخذ عنوان: معركة البقاء الثانية لهذا الكيان المتهالك.

يرى “روجي غارودي” في كتابه “الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية” بأنَّ الصهيونية التي يدينها في كتابه هذا – دون أيِّ إدانةٍ للعقيدة اليهودية – هي التي يعرِّفها بأنها: مذهبٌ سياسي أوَّلاً،ومذهبٌ قومي ثانيًّا،ومذهبٌ استعماري ثالثًا، فيقول: “أنَّ هذا المشروع السياسي القومي الاستعماري لم يكن بأيِّ حالٍ من الأحوال امتدادًا للعقيدة اليهودية أو لروحانيتها”، ويستند في ذلك إلى قول أبرز الشخصياتاليهودية في أمريكا، وهو الحاخام “إيزاكمايروانيز”: “إننا نرفض رفضًا باتًا أية مبادرةٍ ترمي إلى إنشاء دولةٍ يهودية… إننا نؤكد أنَّ هدف اليهودية ليس هدفًا سياسيًّا ولا قوميًّا، بل هو هدفٌ روحي..”، إذ ليس من حقِّ الحكومة الإسرائيلية التحدُّث باسم اليهود كافَّة.

وظلَّت هذه المعارضة الدينية اليهودية للصهيونية السياسية إلى غاية ما بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، حيث استطاعت الصهيونية الإسرائيلية فرض نفسها كقوةٍ مهيمنة، مستعينةً بانتصار أمريكا فيها، وفرض منطقها على المؤسسات الدولية (هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن)، فجاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181،بتاريخ 29 نوفمبر 1947مبإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة، وهي: دولة عربية (على حوالي 42 بالمائة)، ودولة يهودية (على حوالي 57 بالمائة)، والقدس وبيت لحم وما جاورهما كمقدسات دينية تحت الوصايا الدولية، وفي يوم انسحاب الانتداب البريطاني من فلسطين يوم 15 ماي 1948م تمَّ الإعلان على قيام ما يسمى “إسرائيل”، ودعوة يهود الشتات في العالم إلى الهجرة إليها، وهو ما شكَّل لحظة الانتصار التاريخية النادرة للشعب اليهودي في العصر الحديث فيما سُمِّي “معركة البقاء الأولى”.وبالرَّغم من الخطابِ المفعم بالعنصرية الدينية فيما أعلنَه “بن غوريون” أوَّلُ رئيسِ وزراءٍ إسرائيليٍّ عام 1948م في الأممِ المتَّحدة، عندما تبجَّح بالأسطورة الدينية القبيحة، حين قال: (قد لا تكونُ فلسطينُ لنا بالحقِّ السياسيِّ أو القانونيِّ، ولكنَّها حقٌّ لنا على أساسٍ ديني، فهي الأرضُ التي وعدَنا اللهُ بها، وأعطانا إيَّاها من الفراتِ إلى النيلِ)، فقد تفجَّر صراعٌ محمومٌ بين نزعتين، عبَّرتا عن جوهر الصراع بين “العقيدة اليهودية” المستمدة من تراث الأنبياء، وبين النزعة القومية الصهيونية القائمة على رفض الآخر وتقديس الذات، إلى الدرجة التي اعتقد فيها هؤلاء المتطرِّفون الصهاينة أنَّ إسرائيل هي “بلا منازع، الدليل على تحقُّق التاريخ الإلهي في العالم، فإسرائيل هي محور العالم، وعصبه ومركزه وقلبه”، وهو ما يجعلها فوق القانون الدولي، بعد إضفاء القداسة على سياساتها بالاستناد إلى الأساطير والخرافات الدينية في الماضي والحاضر، ومنها: خرافة الأرض الموعودة، بالاستدلال بنصوصٍ دينية محرَّفة، ومتعسَّفٌ في توظيفها سياسيًّا، كما ورد في (سِفر التكوين: الإصحاح 15) في الخطاب الموجَّه إلى سيِّدنا إبراهيم عليه السلام: “سأعطي نَسلَك هذه الأرض من وادي العريش إلى النهر الكبير، نهر الفرات”، فحسب القراءة المزمِّتة للصهيونية السياسية يقول “موشي ديان” وزير الحرب الصهيوني سنة 1967م: “إذا كنَّا نملك التوراة، ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نملك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة”.وبالرَّغم من كون إسرائيل هي معجزةُ الصهيونية في العصر الحديث، بتأسيس دولةٍ من العدم سنة 1948م، وهي قصةُ نجاحٍ نادرةٍ في تاريخ اليهود، إلاَّ أنَّ سؤالاً جوهريًّا لا يزاليتردَّد صداه في العالم عن مستقبلها، وأنَّ هاجس الشَّكبنهايتها ليس مجرد أمنيةٍ رغائبيةٍلأعدائها، بل هو شعورٌ يضرب بجذوره في عمق الوجدان الصهيوني،بأنهاتسبَح ضدَّ حركة التاريخ وقوانينه،وهو هاجسٌ مركزيٌّ متأصل صهيونيًّامنذ البدايات الأولى لهذا الكيان، فقد كان “ديفيد بن غوريون” يردِّد قوله: “ستسقط إسرائيل بعد أول هزيمةٍ تتلقَّاها”، وهو ما تعيشه إسرائيل الآن في معركة طوفان الأقصى منذ أكثر من 07 أشهر، ولا تريد أن تعترف به، فلا تملك إلا المكابرة بسياسة الهروب نحو الأمام، بعدم إيقاف هذه الحرب المصيرية، وهو ما يؤكد عليه الكاتب الصحفي الإسرائيلي “آري شافيت”، الذي استعرض في كتابه “البيت الثالث” – إشارةً إلى “دولة إسرائيل” الحالية –  كيف أصبح الإسرائيليون: “العدو الأكبر لأنفسهم في العقد الثامن من استقلال الدولة العبرية”، قائلاً: “لن يكون هناك بيتٌ رابع.. إسرائيل هي الفرصة الأخيرة للشَّعب اليهودي”، بعد أن سجَّل العقل الاستراتيجي تراجع الهيمنة الغربية، وبداية النهاية لأمركة العالم بالآحادية القطبية، وبالتالي فقدان أكسجين الحياة لهذا الكيان، وهو ما سيفتح المجال لقوى المقاومة، وقد استعدَّت لهذه المعركة الوجودية، والتي ستنتهي بزوال إسرائيل حتمًا.

لقد أحدثت “معركة طوفان الأقصى” صدمةً في العقيدة العسكرية والأمنية الصهيونية، وهي العقيدة التي يقوم عليها الوجود الإسرائيلي، باعتماده على غرور القوة في حماية الشعب اليهودي داخل هذا الكيان، فإذا بها تزرع الخوف وتبثُّ الرُّعب في قلوب الصهاينة، إذ بلغ عدد النازحين داخل الكيان بغلاف غزة وشمال فلسطين المحتلة إلى نصف مليون مستوطن، بسبب العجز عن حمايتهم، بل دفعتهم إلى مصيدة “الهجرة العكسية”، إذ بلغ عدد اليهود الذين غادروا إسرائيل إلى 900 ألف نهاية عام 2022م، وبلغ إلى نصف مليون منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى يوم 07 أكتوبر 2023م، وهو رقمٌ مخيفٌ جدًّا، مقارنةً بعدد سكان الكيان الصهيوني (أكثر من 09 ملايين نسمة)، وهو ما تخشاه إسرائيل التي استثمرت كثيرًا في هجرة يهود العالم إليها، فإذا بهذا “الطوفان” يمزِّق هذه الصورة الخادعة التي رسمتها عن نفسها، باعتبارها قوةً لا تُقهر، ودولةً لا تُهزم.

 

لقد ارتبط السقوط المروِّع للكيانيْن اليهودييْن في التاريخ بالتفسُّخ والانقسام المجتمعي الحاد، وهو تعيشه إسرائيل اليوم، فقد تعمَّق هذا الانقسام منذ 03 سنوات على خلفية “الانقلاب القضائي” على يد هذه الحكومة اليمينية المتطرِّفة بقيادة “نتنياهو”.                                             وعلى غير المتوقِّع من “معركة طوفان الأقصى” في توحيد الجبهة الداخلية لهذا الكيان الهشِّ، فقد زادت في تعميق هذا الشَّرخ الكبير، على خلفية فشل هذه الحكومة في إدارة الحرب وتحقيق أهدافها، وعلى رأسها: القضاء على المقاومة وتحرير الأسرى لديها بالضغط العسكري، فلا تزال صدمة الهزيمة العسكرية المدوية، والإخفاق الأمني والاستخباراتيالكبير، رغم استدعاء احتياطي من 360 ألف جندي، بالإضافة إلى 170 ألفا من الجنود المباشرين، والدعم الأمريكي والغربي المطلق (فأمريكا لوحدها قدَّمت حوالي 350 طائرة عسكرية من الجسر الجوي، و 50 سفينة حرب من الدعم بالذخيرة الحية)، ومع ذلك فهي عاجزةٌ بعد 07 أشهر من تحقيق أهدافها، بل لا تزال تدفع ثمن هذا الغرور بالقوة والتفوق العسكري المذهل، وقد صدق”بيني غانتس” (عضو مجلس الحرب)عندما قال في ديسمبر 2023م:”إنَّ حرب البقاء الثانية التي نخوضها تكبِّدنا ثمنًا باهظًا ومؤلمًا وصعبًا”، وما اعترف به رئيس الأركان الإسرائيلي “هرتسيهاليفي” عندما قال: “نخوض حربًا مع عدوٍّ قاسٍ، ولهذه الحرب ثمنٌ مؤلمٌ وباهظ”..فإسرائيل تخسر معركة البقاء الثانية، وهي تعيش أزمةً وجوديةً خطيرةً، إذْ تفتقد إلى قيادةٍ ملهمةٍ ومتفقٍ عليها تحظى بالإجماع والكاريزما الجاذبة، وهي تعاني من حالة التفكُّك المدمِّر والانقسام الحاد على خلفية التداعيات متعددة الأبعاد لهذه الحرب المجنونة، وهي تعيش حالة الإخفاق الأمني والعسكري المدوي في تاريخها رغم الدعم الغربي المطلق، وهي تدفع ثمن الحرب على المستوى السياسي والاقتصادي والمجتمعي ما لا يتحمَّله مستقبلها بوقف الحرب، ناهيك عن استمرارها، كما أنها تخسر العالم ديبلوماسيًّا، بسقوط سرديتها التاريخية، وحجم ما ينتظرها من المحاكمات السياسية والشعبية والقضائية العالمية.

تعليق