الوفاء للأفكار من شيم الكبار ، أما الصغار فخيانتهم لأفكارهم مجرد وجهة نظر ، ورؤية يجدون لها ألف مبرر ، الخيانة تبدأ بمجرد أن تصبح فكرة ، ثم حديث ينتقل في مجالس الناس دون عقدة أو خوف ، لأن مجرد القبول بها يجعلها تنتقل من النظرية إلى التطبيق ، ومن العقل إلى الواقع حينها فقط سيجد لها صاحبها ألف مبرر ، ولذلك كان أصغر الناس عقلا وأهونهم قلبا من يمارس التقية في حديثه ومجالسه ، لأن مجرد الخجل من عرض الأفكار دلالة على الجاهزية لخيانتها .
في قانون الأفكار يقول مالك بن نبي “ المجتمع الإسلامي يدفع اليوم ضريبة خيانته لنماذجه الأساسية فالأفكار حتى تلك التي نستوردها ترد على من يخونها وتنتقم منه ، فالأفكار التي تتعرض للخيانة تنتقم لنفسها ولو بعد حين .
للأفكار حساسية مفرطة تجاه الخيانة ، فهي لا تتحملها وترد على خائنها ولو بعد حين ، إنها تشمئز من أصحاب المواقف الهشة والمصالح الذاتية ، ومن يجعل من المبادئ زادا للوصول ، ومن المواقف طريقا للمواقع
الاسلام بدأ بفكرة وغربة وقاوم سيد الخلق من أجل فكرته حتى أصبحت الغربة منهج حياة ، وفكرة يعتبر الجهر بها من العبادات ، ويعد التناقض بينها وبين سلوك صاحبها نفاقا مذموما ، ونحن إذا نتحدث عن الفكرة انما نقصد بها الفكرة السليمة الأصيلة النقية من كل شائبة ، يجب أن نشدد في حدود التعاطي معها ، فكم من مسكين رضع فكرا أصيلا ، واجتهد أن يقحم نفسه في دوائر لا تؤمن بفكره محاولا كتم فكره ومسايرة من حوله حتى خان فكرته من حيث يريد الانتصار لها ، وفقد نفسه من حيث يريد التمكين لها ،
الأفكار تزهر حين تسيطر على كيان حاملها ، فتأخذ عنه نومه ، وتملأ جوارحه وقلبه لتصل به حد التضحية بالجهد والوقت والمال في سبيلها ، وتذبل حين لا تسقى من جوارح حاملها ، وتموت حين تنشط الجوارح بما يعاكسها تموت غربة وغيضا ، فتمتص من صاحبها كل بريق وتوهج فيفقد الجاذبية والتأثير فيمن حوله حتى يفقد نفسه وسعادته ، فكم من خائن لأفكاره تربع على ما يريد من منصب ، ولكنه فقد طعم الحياة ولذة المنافحة والمصابرة والمكابدة .
لا يجتمع الإيمان وحب الدنيا في قلب مؤمن ، ولذلك كانت السعادة الحقيقية في التطابق بين النفس والجسد ، في ترجمة الأفكار الى الممارسة في مرضاة الله ، تلك هي النفس المطمئنة التي كتب الله لها الرضا في الدارين .
حين يخجل شخص ما في عرض أفكاره واظهار انتمائه فقد دخلت رجلاه في وحل التنازلات ، وبدا شيئا فشيئا يتنازل عن أفكاره ويسكت عن الحق وتكون المصيبة أكبر حين يكون التنازل مجانيا ، لا عقوبة فيه ولا ثواب ، وإنما تزلفا لا خير فيه ومساندة لا معنى لها تجعله يفقد الدين جوهره وهدفه والأمة خيرتها ورسالتها فالدين النصيحة ولا خير في قوم لا يتناصحون ، وكنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر .
ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل حين أدخلوا عليه عمه ليقنعه بالقول بخلق القرآن فقال : “يا عم إذا أجاب العالم تقية, والجاهل يجهل, فمتي يتبين الحق” ولذلك كتب الله له أن تتعطل الأسواق في جنازته ، ويتزاحم الناس في وداعه وتغسيله وتتعطل مصالح الناس في وفاته ، ويجتمع عليه الناس من كل صوب وحدب حتى قال عبد الوهاب الوراق: “ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية, ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع علي جنازة أحمد بن حنبل”.
خيانة الأفكار تكون أكثر جبنا حين تكون في وسط لا إكراه فيه ولا تسلط ولا عدوان ، حين يخون الانسان أفكاره لمجرد شهوة خفية أو متاع زائل أو عرض من الدنيا قليل ، والانتصار لها في زمن الابتلاء يصبح اكثر صدقا وحياة ولذلك كان سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه ورجل قال كلمة حق في وجه سلطان جائر ، وكانت الشهادة في سبيل الله أتم ما يعرف الانسان بحقيقة الحياة والرزق ، فلا يموت الانسان حتى ينتهي رزقه الذي قد يتنازل عن بعض أفكاره من أجل إكثاره ، وذلك كتب الله الحياة للشهداء ودلل عليها بالرزق فقال تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، وكان سيدنا ابراهيم عليه السلام رمزا للوفاء فقد قدم طعامه للضيفان وجسمه للنيران وابنه للقربان فمدحه الرحمان فقال وابراهيم الذي وفى ، وكان الشيخ نحناح رحمه الله تعالى أحد حبات سلسلة طويلة ممتدة متصلة في الوفاء فقد خرج من الدنيا بسيطا زاهدا عفيفا وهو الذي كان المسؤولون يقفون على مكتبه طوابيرا ، ولكنه عاش لفكرة ومات من اجلها فكتب الله له القبول في قلوب الخلق فتزاحموا على جنازته أفواجا أفواجا ، وتصدق بعرضه في حياته فسلم الله عرضه بعد موته فما تجرأ عليه أحد ، تلك رسالة الوفاء تقول أنه من أعظم الكرامة الدوام على الاستقامة ومن أعظم الاستقامة الثبات على الحق ، والفكرة السامية هي التي تقتات من قلب صاحبها ويورثها الى غيره قبل أن يخرج من الدنيا لا مبدلا ومغيرا