الرئيسية مقالات أ. فاروق أبوسراج الذهب الأصل الاول : فقه مواكبة التحولات استشراف المآلات(02)

الأصل الاول : فقه مواكبة التحولات استشراف المآلات(02)

كتبه كتب في 13 يونيو 2022 - 12:32 ص
مشاركة

عضو المكتب التنفيذي الوطني د. فاروق طيفور يكتب: نتجدد معا… ننهض معا
شرح الأصول السياسية العشرون

الأصل الاول : فقه مواكبة التحولات استشراف المآلات(02)

للتقدم أسباب ومثابات تتغير من زمن إلى آخر وهو أمر يقتضي إعمال النظر في السنن الإلهية الكونية والتعمق في أسرارها والفرص التي تتيحها و تحويلها في صالحنا ،مما يجعل الوعي بفقه النوازل الذي يُمثل الدّراية المعرفية في مقابل الدّراية السّياسية وإتقان الوعي بمستويات هذه النظرية (الواقع – الأولويات – الموازنات – المآلات – المقاصد – السنن ) أكثر من ضرورة.ينبغي أن تؤسس له مراكز الدراسات ومخازن التفكير وخلايا البحث والتصنيف ومؤسسات تقدير الموقف وليس كل من يصلح للتنظيم والتنفيذ يصلح بالضرورة للتفكير والبحث وتقدير المواقف و المفاضلة بين الخيارات والبدائل المتاحة ،فنحن اليوم بحاجة ماسة إلى تكليف من يقوم هذا المقام ويضطلع بهذا الدور وينبري للمراغمة والمدافعة لتنبيه الغافلين عن التحولات وتحريكم باتجاه اهتبال رياح التغيير والتحضير لها وإعداد النخب والقيادات التي توفر أجواء وبيئة استقبال الموجات التحويلية القادمة بمزيد من اليقظة الإستراتيجية التي تحول حالة الحيرة والذهول إلى مربع التفاعل المباشر مع الكتلة الاجتماعية الحرجة التي تمثل جسرا نحو القيادة والسيادة وتحتضن المشروع والبرنامج مجتمعيا بما لا يتيح ثغرات في جداره يتسلل منها العابثون.

فكيف نتمكن من فهم قواعد و معايير وأدوات فقه مواكبة التحولات واستشراف المآلات؟؟؟ هو سؤال طرحناه في الحلقة السابقة ونحن نشرح الأصل الأول من الأصول التأسيسية السياسية العشرون للفقه السياسي المتجدد الذي يتأسس على مستويين من الفهم والفقه الأساسي الجديد ،مستوى الفقه السياسي الذي يعكس هوية قادة التغيير والإصلاح حيث لا ينبغي أن تدفعنا رغبتنا في استعجال وتسريع أدوات وأساليب التغيير والإصلاح إلى الانحراف عن أصول المشروعية طلبا للشرعية ،فالمرجعية والمنطلقات الفكرية المؤسسة لحركة التغيير والإصلاح والنهضة والتقدم تقتضي التمسك بالمستوى الأول والأساسي في عملية مواكبة التحولات وهو الأدوات المنهجية التي تقترحها النظرية الإسلامية في قراءة الأوضاع والاقتراب من الظاهرة الاجتماعية والسياسية واتخاذ القرارات لمناسبة للتحولات الجديدة ،وهو ما نصطلح عليه بــ  “سداسية  الفقه المرجعي” و يتضمن تعلمية وإدراك وإتقان سبعة أنواع من مهارات وفنون من  ( فقه السنن و المقاصد  وفقه الأولويات والمآلات والموازنات وفقه النوازل) ،هذا المستوى الأول نعتبره تأسيسي لنظرية مواكبة التحولات  ،حيث تبلغ  دراسة هذه الأنواع والحرص على ممارستها درجة قصوى في سلم تراتبية المواكبة والتحيين  بما يتيح للأمة الوصول إلى أهدافها وتجسيد تطلعاتها من خلال كنوز العلم التي زخرت بها ، ويحتاجها  اليوم الجيل الجديد حيث أصبحت المواقف السياسية تتخذ دون الرجوع إلى هذه المصادر التي تغني عن كثير من العثرات التي ترتكبها حركات التغيير والإصلاح في الممارسة .

فتجسيد مضامين هذا المستوى التأسيسي ،سيجنب الأمة بلا شك مطبات وسقطات سياسية هي في غنى عنها ،وبقدر نضال السياسيين الإسلاميين والمفكرين على جبهة الصراع السياسي والفكري العام ،بنفس القدر يجب أن يناضل هؤلاء على تعليم الجيل الجديد هذه الأنواع من الفقه والفكر حتى تتراكم التجربة وتثمر مدارس سياسية جديدة توفر على الأمة سنوات وحقب وصولا إلى تحقيق مشروع التغيير والإصلاح .

أما المستوى الثاني من فنون ومهارات نظرية مواكبة التحولات واستشراف المآلات هو مستوى منفتح على أدوات العصر في قراءة الأوضاع والاقتراب من فهمها بمناهج وأساليب جديدة تتضمن ثلاثية ذهبية تتعلق بــ ( أسس التحليل السياسي و مهارات الاستشراف المستقبلي و معايير الهندسة السياسية ) ،وبتحالف وتعاون المستوى الأول والمستوى الثاني يمكن أن نحيط بنظرية مواكبة التحولات ونوفر للأمة أسلوبية جديدة في التفاعل الايجابي الناجز الذي يحقق التراكم والتكامل والانجاز في نفس الوقت .

ولوضع الجيل الجديد على مسار المستوى الأول والثاني من مهارات وفنون مواكبة التحولات سنختصر لهم في هذه الحلقة والحلقة القادمة المستوى الأول والثاني في شكل معالم هادية ولهم أن يعمقوا الفهم والإحاطة بهذه العلوم والفنون بطريقة ذاتية لان العلم بالتعلم والحلم بالتحلم .

مستوى سداسية الفقه المرجعي لنظرية مواكبة التحولات:

أولا : فقه السنن : فالإنسان يتحرك في الحياة من خلال أفكاره، وحركة الأفكار هي التي تمثل حركة الحياة، لأن حركة الحياة هي صورة ما نفكر به.لذلك كله فإن التغيير الذاتي على مستوى الطبائع والأفكار والقناعات، هو قاعدة التغيير الاجتماعي والسياسي.فقضايا الاجتماع الإنساني لا تتغير وتتحول إلا بشرط التحول الداخلي ـ الذاتي ـ النفسي.فالتعاليم القرآنية واضحة في أن لهذا الكون وحياة الإنسان سنناً وقوانين، هي التي تتحكم في مسيرة الكون، كما أنها هي القوانين المسيرة لحياة الإنسان الفرد والجماعة.

ومن خلال هذا النوع من التفكير نستطيع تنمية نمط التفكير التشابكي، الذي تمليه ضرورات الواقع، فهو وحده القادر على فهم واستيعاب ما يتفاعل في عمقه، لأن الظاهر لا يعكس بالضرورة ما تجيش به الأعماق، وقياس الموجة، لا يتم على السطح، وإنما في القاع.ومن انواع الفكر والفقه السياسي الذي ينبغي على جيل الموجة الثالثة للتحرير الفكري استيعابه وفهمه وتجسيد معطياته وفنونه هو فقه السنن ،حيث تعرف السنن بأنها مجموعة القوانين التي يسير وفقها الوجود كله، وتتحرك بمقتضاها الحياة.وإن الدعوة القرآنية الدائمة إلى استنطاق التاريخ واستقراء الحوادث والأسباب وأخذ العبر والدروس منها، هي إشارة قرآنية واضحة إلى ضرورة استيعاب القوانين والسنن الربانية في مسيرة الأمم والمجتمعات. فالتأمل في أحوال الأمم، هو من أجل اكتشاف السنن الثابتة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان.إذ يقول تبارك وتعالى ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ في الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾.

والسنن في القرآن على نحوين: النحو الأول السنن الحتمية والجزمية، من قبيل سنة الفناء إذ قال تعالى ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾..والنحو الثاني السنن الاختيارية التي هي مرهونة بإرادة الإنسان الفرد والمجتمع من قبيل سنة التغيير والتداول والإيمان والتقوى إذ قال تعالى ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.كما أن سنة الاستخلاف والتمكين في الأرض منوطة بالأيمان والعمل الصالح.و السقوط يبدأ حينما يتخلى المجتمع أو الأمة عن العبادة الحقة ويتجهوا إلى عبادة الأصنام والطواغيت والشهوات. وإذا استفحل الفساد واستشرى الظلم وفسق الناس عن أمر ربهم حق عليهم قول الباري ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.

ولا يكفي معرفة أهمية السنن الإلهية والكونية , بل لابد من تحويل ذلك إلى منهجيات للتعامل معها ،فهمها طريق إلى تسخيرها وإدراكها سبب إلى توظيفها،  ومن هنا يقول حسن البنا -رحمه الله- فيما يشبه الاختزالات العميقة للتجارب البشرية:” لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد “.   ولقد رصد الأستاذ البنا -رحمه الله- في هذه السطور القليلة حشدًا هائلا من القيم العالية والتوجيهات الرائعة التي هي بحق معالم وملامح لفقه السنن الربانية، ويمكن أن تستخرج من كلامه في فقه التعامل مع السنن الربانية هذه الخطوات:

  • عدم المصادمة.
  • المغالبة.
  • الاستخدام.
  • التحويل.
  • الاستعانة ببعض السنن على بعض.
  • ترقب ساعة النصر.

إن استيعاب التحولات وإدراك اتجاهاتها، يتطلب التواصل مع الواقع. وذلك لأن الفكر الذي لا يتواصل مع نبضات واقعه، ويستجيب لمتطلبات الراهن، ويتناغم وحقائق التاريخ والكون، فإن مآله الانزواء والتخلف عن ركب الحضارة والعصر. ففي مناخات التواصل مع العصر، يستطيع فكرنا أن يبلور أجوبته ومواقفه وآماله ومطامحه الحضارية.

ثانيا : فقه المقاصد :حيث يتفق فقهاء المقاصد: أنه في حالة فساد الدولة خصوصاً وما يترتب عليه من اضطراب اجتماعي ،فلا سبيل لإخراج المجتمع من الأزمة والتيه إلا بالعودة إلى منهج  كليات الشريعة، ويسمون هذا العمل «فقه الاستطاعة».والمتأمل في هذا الاتفاق بين فقهاء الأصول المقاصدية : يجد أن هذا الاتفاق ليس نظرية خيالية كما هو الحال مع بعض الأقوال الفقهية الافتراضية ، وإنما هو اتفاق صادر عن أهل الاختصاص المقاصدي وليس كل الفقهاء ، و جاء من رحم التجارب التاريخية «حضارياً وثقافياً واجتماعياً وسياسيا» و صادر عن أصحاب النظر لمن اصطلوا بمحن التاريخ – الاضطرابات السياسية والاجتماعية والمذهبية والطائفية …الخ.

فتفعيل منهج المقاصد يعني تقديم خطاب وحدوي ، تعاوني نهضوي ، يمر عبر أولويات ومبادئ تبدأ من إصلاح التصورات الأساسية – فكرياً  ثم عملياً ، كما أن منهج المقاصد منهج مرن قادر على مواكبة حركة المجتمع، بخلاف النصوص الجزئية فهي أولاً معالجة فردية ثم إنها تعالج وضعاً مستقراً– فهي أقرب إلى المثالية ، بل وحتى عند الاستقرار، فالمثالية يصعب على المجتمع كله أن يصل إليها ، وإنما هي مفتوحة للقادر ؛ ذلك أن الفقه الجماعي غير الفقه الفردي، والفقه عند فساد الأوضاع غير الفقه عند استقرار الأوضاع ، والخلاص الجماعي غير الخلاص الفردي. ويعبر عن المقاصد بالكليات الشرعية الخمس الشهيرة : حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، التي توالت كل الأمم والملل على تقريرها وتثبيتها ،و يعبر عن المقاصد أيضا بالعلل الجزئية للأحكام الفقهية، سواء أكانت تلك العلل أوصافا ظاهرة منضبطة، أم كانت حكما وأسرارا، أم كانت مصالح ومنافع كلية وعامة ، ويلاحظ هذا الاستعمال خصوصا في مباحث تفسير آيات الأحكام وشرح أحاديث الأحكام .‏

إن هدفنا من تفعيل منهج المقاصد وفقهها  هو تحويل هذا المنهج إلى ثقافة عامة ، لأن فقه المقاصد هو خطاب للفطرة الإنسانية ( فطرة  الله التي فطر الناس عليها).و لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف دون حملة استنفار ثقافي فكري تربوي سياسي  يستهدف كافة شرائح المجتمع كل بحسب ثقافته ، ولن يكتب النجاح لهذا الاستنفار إلا إذا رأينا وسمعنا وقرأنا وتحدثنا عبر كل وسائلنا ومنابرنا الإعلامية المتاحة ، صحافة ، تلفاز ، بلوتوث ، وتساب ، نت ، فيس ، ، منتديات ، مدارس ، جامعات ، مساجد ،ويكون الخطاب مبسطا ً حسب المتلقي .

ومن ضمن أهم و أدق ما يمكن أن يضاف هو ضرورية (الاجتماع)، بمعنى أن الشريعة جاءت لحفظ المصالح الاجتماعية، مثل: العدل والمساواة، والحرية، والكرامة الإنسانية، والاجتماع والائتلاف، ومن طريقة الشريعة أنها تقدم مصلحة الاجتماع على بعض المعاني الشرعية المعتبرة، ولأجل تحقيق هذه الضرورية جاء تشريع صلاة الجماعة والجمعة والحج، وتقديم الاجتماع على حاجية إعادة بناء الكعبة كما في الصحيحين.

وهنا تبرز أهمية انفتاح الفقيه على العالم المدني، والفقه على الحقول المعرفية المدنية، باعتبار مصدر خبرة حقيقية في فهم العقل الإنساني من حيث كونه موضوعا للحكم الفقهي يدور معه حيث دار. وهناك مناطق فراغ قديمة في فقهنا هي مجال حيويتنا الفقهية والفكرية. وهناك مناطق فراغ مستجدة تنادينا، فهل نحن على استعداد لفقه مقاصدي عام وحضاري وإنساني؟ لنملأ هذه المناطق بالملائم من أحكام ومبان فقهية؟، ام ان دعوى ان كل شيء تام وناجز ستبقى سائدة وحاكمة علينا؟ 

فنحن نعيش في زمن يعرف فيه العمل السياسي تطورا كبيرا وتزاحما واسعا في الأفكار والمواقف وله انعكاسات هامة ومفصلية في حياة الناس ومستقبل الحركة الإسلامية المعاصرة سيما وهي تباشر عمليات الإصلاح والتغيير في أجواء موبوءة وأوساط متنوعة وتحديات خطيرة ،الخطأ في كل جزء من أجزائها  سيؤدي لا محالة إلى فقدان التوازن بما يحقق مفردات المشروع الشامل للأمة ،دون إهمال لمتطلبات العصر،وخصوصيات كل مصر ، ولا يعني إطلاق هذه الأنواع من الفقه والدعوة إلى الاهتمام بها والتركيز عليها أمرًا قد يُبعدنا عن الأصول أو الكليات، بل إننا بغير مراعاة هذا الفقه نبتعد كثيرًا عن روح الكليات والأصول، وننعزل بعيدًا عن الحياة والأحياء، على اعتبار أن المشرع لم ينزل مضامين الدين  لنعيش بها في الماضي، إنما جاء لنستهدي به لحل مشكلات عصرنا كما استهداه من قبلنا لمشكلات عصرهم.

ثالثا: فقه المآلات

يسود في أوساط الأمة اليوم واقع يطرح عديد الأسئلة حول طبيعة تكوين بعض من يتربع على عرش الفتاوي الفقهية والسياسية ،لان تقدير المخرجات التي تسوق بشكل ملفت في واقع المسلمين وعبر إعلام غير المسلمين  ،يؤول للأسف الشديد إلى نهايات لا تحقق الهدف بل تساهم في إبعاد الجمهور عنه وتقر عين الخصوم ،بسبب عدم تقدير الواقع ومآل الخطاب والفتوى والممارسات البعيدة عن فقه المقاصد ،واعتبار المآلات التي تؤول إليها الأفعال والأقوال والتصرفات أمر مطلوب شرعًا، بل لعله من المقاصد المهمة التي ينبغي مراعاتها؛ لأن إطلاق الأحكام الشرعية والحديث في الشرع دون مراعاة لمآلاته إنما هو نوعٌ من العبث، وأقصر الطرق إلى الضلال المبين،وقد لا يقتصر ذلك على آثار تصيب الآحاد بل تتعدى إلى المجتمع وهو الأمر الذي يتطلب منا أن تقف عنده كثيرا للمساهمة في صياغة عقلية الإنسان الذي يؤثر بدوره مباشرة في فضاء المجتمع الذي سيفرز لا محالة شكل ونمط  الدولة والحكم .

ولقد تنبَّه الإمام الشاطبي لخطورة المآلات، وأهمية اعتبارها، فقال في كلام مفصَّل منضبط: “النظر في مآلات الأفعال مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، سواءٌ كانت الأفعال موافقةً أو مخالِفَةً، وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعلٍ من الأفعال الصادرةِ عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نَظَرِهِ إلى ما يئول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحةٍ فيه تُسْتَجْلَبُ، أو لمفسدةٍ تُدْرَأُ..، ولكنّ له مآلاً على خلاف ما قُصِدَ فيه، وقد يكون غيرَ مشروعٍ لمفسدةٍ تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكنَّ له مآلاً على خلاف ذلك، فإذا أُطْلِقَ القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطْلِق القول في الثاني بعدم المشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدةٍ تساوي أو تزيد، فلا يصحُّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صَعْبُ الْمَوْرِد، إلا أنه عَذْبُ المذاق، مَحْمُودُ الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة”.

ومن شأن الاهتمام بهذا الفقه أن يجعل عندنا نظرة مستقبلية تمنعنا من الإقدام على فعل أو تصرف تفوق مضرَّتُه مصلحته، ويحملنا على أداء فعل أو تصرف ترجح مصلحته على مفسدته. كما أن من شأنه أن يضبط حركة المجتمع، واجتهاد الفقهاء، واختيار الآراء، وترجيح الأقوال، وترشيد التخطيط الإستراتيجي، والتفكير المستقبلي بما يمثل وقاية من الجنوح إفراطًا أو تفريطًا.

 

رابعا: فقه الأولويات

 

فقه الأولويات يبين فقه مراتب الأعمال، وأيها يجب أن يُقَدم، وأيها يجب أن يُؤَخر، ويبين فقه النسب بين الأحكام، أيها واجبٌ وأيها مستحبٌّ، وأيها محرمٌ، أيها يستحق الاهتمام، وأيها لا يستحق، أيها حان وقته، وأيها يمكن تأخير الحديث عنه ليس تقليلاً من شأنه وإنما مراعاة لواجب الوقت، وهكذا.

فما أحوج أمتنا اليوم إلى هذا النوع من الفقه، بعد أن أصبحت تكبِّر الصغير، وتصغر الكبير، وتهوِّن العظيم، وتعظِّم الحقير، وتقدم ما من حقه التأخير، وتؤخر ما من حقه التقديم؛ فاختل فيها فقه مراتب الأعمال والنسب بينها اختلالاً كبيرًا.

ولا يخفى ما للاهتمام به من آثار طيبة على العقيدة والعبادة والدعوة والإصلاح، بل إن له أثرًا لا يُنكر على ترشيد العمل السياسي، وتعزيز الاعتدال والتوازن عند الشباب، وحتى يهتدي بها العاملون في الساحة الإسلامية والمنظِّرون لهم، فيحرصوا على تمييز ما قدَّمه الشرع وما أخَّره، وما شدَّد فيه وما يسَّره، وما عظَّمه الدين وما هوَّن من أمره، لعل في هذا ما يحد من غلو الغالين، وما يقابله من تفريط المفرِّطين، وما يُقرِّب وجهات النظر بين العاملين المخلصين”.لأنه يعالج قضية إختلال النسب واضطراب الموازين من الوجهة الشرعية في تقدير الأمور والأفكار والأعمال وتقديم بعضها على بعض

خامسا : فقه الموازنات

ويُعد فقه الموازنات أو فقه التعارض والترجيح، من العلوم الأساسية الواجب معرفتها على اجيال الموجة الثالثة  والادوات الرئيسية في ممارسة السياسي على السواء لضبط فقه الواقع، لما له من حاجة ماسة في مختلف شؤون الحياة الإنسانية، لذا تجد أن هذا فقه يمارس من قبل الناس جميعاً في حياتهم المعيشية، للترجيح بين مصلحتين، أو بين مفسدتين، أو الموازنة بين المصالح والمفاسد.

وتشتد الضرورة لفقه الموازنات، لتقرير مسائل فقه السياسة الشرعية عند أولي الأمر،فكثيرا مّا تتعارض أمامهم المصلحة والمفسدة، أو المنافع مع بعضها البعض، أوالمفاسد مع بعضها البعض. وعليه جاء هذا العلم، الذي أرسى قواعده علماء الأصول، ليضع أمام المعنيين من الأمراء والقضاة والسياسيين القواعد الضابطة للوصول إلى المصلحة المرجوة عند تعارض الأدلة.

وينقسم فقه الموازنات إلى ثلاثة أصناف: الموازنة بين المصالح، فنوازن بين مصلحة وأخرى حيث نقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والمصلحة الدائمة عن المصلحة المؤقتة.

  • الموازنة بين المفاسد، فنوازن بين مفسدة وأخرى بحيث نقبل المفسدة الأقل ضررا ونترك الأكثر ضررا، ونقر بالمفسدة الجزئية على حساب المفسدة العامة.
  • الموازنة بين المصالح والمفاسد، فإذا كان العمل على جلب المصلحة أكثر نفعا من العمل على درئ المفسدة اخترنا المصلحة على المفسدة والعكس صحيح. يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى: “فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً ” ويقول: “إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما “.

و لكي نستطيع فهم وإدراك فقه الموازنات والعمل به لابد من امتلاكنا لأمرين اثنين: العلم بالشرع و العلم بالواقع، فالأول معناه المعرفة والدراية بأحكام الله الشرعية وما الباعث لحكم ما والمقصد من تشريع ما، وكذا التبصر بأسباب ودوافع هذا الحكم، فهذا سيمكنها من دراية شرع الله بحكمة واعية قاصدة. والعلم الثاني هو معرفة الواقع والظروف الحقيقية للبلد وامتلاك الآليات العلمية والأدوات المنهجية والمعرفية الكفيلة بصناعة وتحليل السياسات العامة ووضع الأهداف وخطط العمل واليات التتبع ومؤشرات التقييم،وهو الأمر الذي يجعل نموذج الإصلاح  يعتمد على الشراكة مع مختلف الفاعلين وليس الهيمنة والتحكم، إصلاح يقدم مصلحة الوطن على مختلف المصالح الحزبية ، إصلاح ينبني على التدرج والتراكم و ليس القطيعة و التحكم…

سادسا : فقه النوازل

إن فقه النوازل مِن أدقِّ مسالك الفقه وأعوَصِها؛ حيث إن الباحث فيه يَطرق موضوعات لم تُطرَق من قبل، ولم يرد فيها عن السلف قولٌ؛ بل هي قضايا مستجدَّة، يغلب على معظمها طابع العصر المُتميِّز بالتعقيد والتشابك، والمتميِّز بابتكار حلول عِلمية لمشكلات متنوعة قديمة وحديثة، واستحداث وسائل جديدة لم تكن تخطر ببال البشر يومًا من الدهر.

ويصبح التّعامل مع النّازلة أمراً محيراً ومدهشاً لعدم وجود النّص الذي يُعالجها، فتدفع النازلة إلى السؤال عن حكم الشّرع فيها بناء على القياس أو الترجيح أو الإجماع.. عندئذ يتقدم العلماء لفهمها وتحليلها من أجل إصدار الحكم الفقهي الذي يتناسب معها، وقد وقع المسلمون في كثير من الحيّرة في بعض النّوازل التي نزلت بهم فلم يهتد العلماء إلى حكم فيها، فكان الخلاف والاختلاف سيد الموقف

فالنازلة هي “معرفة الحوادث التي تحتاج إلى حكم شرعي”. وتلك المعرفة ليست بالهينة ولا بالسهلة، فهي تتطلب من المفتي والحاكم الدّراية بالحّال والأحوال، والعلم بالمدنية ومتطلبات العصر،ويطلق على العلم الذي يُعنى بالنازلة عدة مصطلحات معاصرة:

فقه الواقع: يعنى فقه الحياة التي يعيشها الشخص.

وفقه المقاصد: ومقاصد الشريعة هي مولدة للنوازل، فالنوازل أحكامها تستنبط من مقاصد الشريعة وتعلل بها.

و فقه الأولويّات: يعنى أن النازلة سواء كانت للفرد أو المجتمع فهي أولى بالبحث والاستقصاء وإبراز الحكم من غيرها، فهي من الأولويات في هذا الجانب.

وفقه الموازنات: أي أن من أبرز الوسائل لإيضاح فقه النازلة؛ الموازنة بينها وبين ما يشبهها أو يقاربها.ومنه يمكن القول إن فقه النّوازل هو معالجة إشكالات الرّاهن المعقد المرتبطة بالظواهر الاجتماعية والسّياسية للمجتمع، وتُعد الأمور السّياسية ومنتجاتها أكبر منبت للنّوازل لارتباطها بالمعاش والحركة والوعي والتعقل، وعليه أصبح فقه النّوازل يُمثل الدّراية المعرفية في مقابل الدّراية السّياسية.

هذا المستوى الأول من مهارات وفنون مواكبة التحولات ،فماذا عن المستوى الثاني من نظرية مواكبة التحولات ؟ هو مجال للحديث في الحلقة القادمة .

تعليق