شرح الأصول السياسية العشرون الأصل الثاني : المقاومة السياسية المدنية والقابلية للاستبداد (02)

كتبه كتب في 11 يوليو 2022 - 1:40 م
نص الأصل الثاني : التطبيق الذكي لنظرية اغتنام الفرص ورفض ثقافة الكرسي الشاغر ،والكرسي الشاغر هنا لا يعني بالضرورة قبول عروض الأنظمة مهما كانت تكلفتها،بل نقصد عدم إعطاء فرصة للتغييب والتهميش،ومالايمكن ضمانه بالوسيلة السياسية قد يكون متاحا بفضاء مجتمعي ،وقد يسع الفرد مالا يسع الجماعة، فالسياسة هي فن وفقه الممكن وليست إرادة تحقيق الكل أو اللاشيئ،فهي تراكمية الإنجاز لايتحقق فيها النصر بالضربة القاضية بل بالنقاط في كل جولة ،وصولة الحق التي نملكها ونتقنها لا تغني عن ضرورة قطع مسيرة التغيير خطوة خطوة فالقفز العالي على الحقائق قد يقود الى الرجوع الى نقطة الانطلاق أو يرمي في اتجاه الفراغ والمجهول .
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الفرصة السياسية والدهاء السياسي لإدارة الصراع واهتبال لحظات الانتقال من اجل التقدم في مشروع التغيير والإصلاح ،وهو باب يفتح أمام رجل السياسة فضاءات جديدة للممارسة السياسية الذكية التي يشعر فيها بالحركية اليومية التي لا تنقطع والتفاعلات اللحظية التي لا تتوقف والمتعة الفكرية التي لا تنته ،وهو ما يتطلب تفريع الخلايا العملية لليقظة الإستراتيجية لفحص الفرص المتاحة في البيئة الداخلية والخارجية وعدم تضييعها وتثمين كل جهد يدخل في مسار تحقيق الأهداف وربطه بالرؤية الموسعة لمشروع التغيير وربط حلقات الانجاز بما يحقق التغذية الدائمة لأنصار الفكرة بأنهم يتقدمون وينجزون بشهادتهم اليومية على الناس بما لا يقبل تهميشهم عن الأحداث أو تغييبهم عن صناعتها ،وهو ما يمكن أن نطلق عليه المقاومة السياسية المدنية التي تستثمر في كل أدوات التغيير والإصلاح محليا ومركزيا وتتعاون مع كل من يريد التغيير المدني ويرفض القابلية للتهميش أو التغييب أو الانسحابية من المشهد بسبب صعوبة العمل والممارسة أو عدم جدواها في مقابل آلة النظام السياسي التي تجرف أمامها كل انجاز وتصنع اليأس والإحباط في نفوس المناضلين وتخييرهم بين الخضوع أو الانسحاب .
وهي ظاهرة تتجدد في كل العصور على اعتبار أن شكل الصراع على الدوام جزء أصيل من طبيعة الوجود الإنساني على الأرض، إذ لا يمكن فصل اختلاف الآراء وتباين الرؤى وتعدد الغايات والأهداف عن سيكولوجية الإنسان ومستوياته الإدراكية الطبيعية والتي يمكن وصفها (بالرشد) كما جاء في القرآن الكريم، ومن هنا فان أسس الصراع وغاياته تبقى خاضعة للقواعد الايجابية والسلبية منها، وما قتل قابيل لأخيه هابيل في بداية الوجود الإنساني على الأرض إلا دليلا على الفهم السلبي للصراع في حين كان رفض هابيل لبسط اليد لقتال أخيه شكلا سلميا من أشكال المقاومة وهي صورة للعقل الرشيد في إدارة عملية الصراع بما يتناسب وظروف الحدث التاريخي، باعتبار أن العقل الرشيد هو الأقدر على تحقيق معيارية الصراع وطبيعة المقاومة،لكن القيمة الحقيقية لقواعد الصراع تخضع للمعيارية الإلهية ذاتها في تحديد النفسية الفكرية والاجتماعية للأفراد والمجتمعات. كما في قوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله اتقاكم)فالتقوى كمعيارية إلهية تتجاوز القيم الآنية للوجود الإنساني، كما أنها لا تخضع للرغبات والأهواء، باعتبار أنها ستمثل محاولة لاستنهاض الوعي الجمعي بقيمة التقوى حتى في حالة الصراع والمقاومة، أما عدم إدراك قيمة هذه المعيارية فانه يمثل الجانب السلبي في حركة الوجود مقابل التقوى.
من هنا فان المقاومة كفعل إصلاحي تنطلق من الحاجة الفعلية للتغيير الذي بدونه سيفقد المجتمع قدرته على الاستمرار، غير أن الوعي بحقيقة المقاومة كفعل إصلاحي يحتاج إلى تفسير عقلاني لحركة المقاومة من النواحي التاريخية والعقائدية والسوسيولوجية، للتأسيس لعقيدة تأصيلية تنبثق من مدارك الحكم الشرعي لفعل المقاومة من جانب، ولتأثيراتها في تحقيق النصر من جانب آخر.
وإذا كان مالك بن نبي، قد عاش أرقا كبيرا جعله لا يقنع بالمبررات الظاهرية التي قدمت لتفسير معضلة الاستعمار والمشكلة الحضارية ، فراح يوغل في غياهبها ويحلل علاقاتها السببية للوصول إلى مكمن الداء الحقيقي، مستقرئا حال الأمة عبر مراحلها التاريخية، ليصل في نهاية المطاف إلى استكشاف داء “القابلية للإستعمار” (La colonisabilite) الذي ينطبع في المخيال الجمعي للشعوب المستعمرَة ويؤدي بها إلى الخنوع والقبوع والوقوع فريسة سهلة المنال في يد جلادها، ففي كتابه “شروط النهضة” ذكر مالك بن نبي تأصيلا بديعا ينم عن دقة نظر وعمق في الفكر، إذ أبرز الدور الخفي للمستعمِر في إعادة التهيئة النفسية للشعوب المستعمَرة، تهيئةٌ تولد في نفوس أفرادها روحا جديدة تطبعها سمة الرضوخ والإتكالية والجبن وتكلس العقل والإرادة، حيث تحدث بن نبي عما يسميه “مُعَامِلَيْنِ Coefficients” فعلا فعلهما في الإنسان المستعمَر هما: (المعامل الاستعماري) و(معامل القابلية للاستعمار). ويعرف “المعامل الاستعماري انه ” عامل خارجي يفرض على الكائن المغلوب على أمره الذي يسميه المستعمِر “الأهلي” نموذجا محددا من الحياة والفكر والحركة، وحين يكتمل خلق هذا النموذج يظهر من باطن الفرد “معامل القابلية للاستعمار” وهو معامل يجعل الفرد يستبطن مفاهيم المستعمِر عنه ويقبل بالحدود التي رسمها لشخصيته هذا المستعمِر، وليس هذا فحسب بل يصبح يدافع عنها ويكافح ضد إزالتها.. فعامل القابلية للاستعمار كما يشرحه مالك بن نبي هنا هو العامل الداخلي المستجيب للعامل الخارجي، إنه رضوخ داخلي عميق لعامل الاستعمار يُرَسِّخُ الاستعمار ويجعل التخلص منه مستحيلا.
ولهذا فهو يقول في سياق ذي صلة: “هذه الملاحظة الإجتماعية تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذل الاستعمار والتي تمكّن له في أرضها، وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذُل مستعمِر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهلها للاستعمار. ربما يكون تركيز مالك على هذا المصطلح، لأن كثيرا من المسلمين يحاولون تعليق تخلفهم وضعفهم وقلة حيلتهم على الإستعمار، فأراد أن يرجع المشكلة إلى أصولها المغيّبة عن الذهن، ويردها إلى سببها الأول وهو القابلية للاستعمار، أي إلى الخسائر التي ألحقناها بأنفسنا قبل أن نتحدث عن الخسائر التي ألحقها بنا الآخرون، مطابقة لقوله تعالى: “قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ “(آل عمران: 165).
بن نبي من خلال هذا التفسير يبعث لنا برسالة مزدوجة، مضمونها أن مناعة المجتمعات، وقدرتها علي تجاوز التخلف من داخلها هما خط الدفاع الأول أمام الاختراق الخارجي، وإن لم يغفل دور الآخر (المستعمر) في تكريس سياسات الوهن في المجتمعات، ودفعها للتكيف. وهكذا جرى لنا نحن اليوم ونحن نباشر عملية المقاومة السياسية المدنية حيث أصبحت الأنظمة تجتهد وتتفنن في غرس فكرة القابلية للاستبداد و للانسحاب والتغييب والتهميش عن الفعل السياسي الايجابي وهو ما يتطلب منا صمود أكثر و قدرة ذكية على تنويع أساليب العمل وفق برنامج الأمل في المستقبل والتغيير فمسيرة التغيير والإصلاح دونها مقتضيات حددها الإمام حسن البنا في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس في قوله : ﺇﻥ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺍﻷﻣﻢ ﻭﺗﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﻭﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻵﻣﺎﻝ ﻭﻣﻨﺎﺻﺮﺓ المبادئ ﺗﺤﺘﺎﺝ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﺔ التي ﺗﺤﺎﻭﻝ ﻫﺬﺍ ﺃﻭﻣﻦ ﺍﻟﻔﺌﺔ التي ﺗﺪﻋﻮ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﻞ ﺇﻟﻰ ﻗﻮﺓ ﻧﻔﺴﻴﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺗﺘﻤﺜﻞ ﻓﻰ ﻋﺪﺓ أمور :ﺇﺭﺍﺩﺓ ﻗﻮﻳﺔ ﻻ ﻳﺘﻄﺮﻕ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺿﻌﻒ،وﻭﻓﺎﺀ ﺛﺎﺑﺖ ﻻﻳﻌﺪﻭ ﻋﻠﻴﻪ ﺗﻠﻮﻥ ﻭﻻ ﻏﺪﺭ،وﺗﻀﺤﻴﺔ ﻋﺰﻳﺰﺓ ﻻ ﻳﺤﻮﻝ ﺩﻭﻧﻬﺎ ﻃﻤﻊ ﻭﻻ ﺑﺨﻞ،وﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻤﺒﺪﺃ ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﻪ ﻭﺗﻘﺪﻳﺮ ﻟﻪ ﻳﻌﺼﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻄﺄ ﻓﻴﻪ ، ﻭﺍﻹﻧﺤﺮﺍﻑ ﻋﻨﻪ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻭﻣﺔ ﻋﻠﻴﻪ ، ﻭﺍﻟﺨﺪﻳﻌﺔ ﺑﻐﻴﺮﻩ.ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺭﻛﺎﻥ ﺍﻷﻭﻟﻴﺔ التي ﻫﻰ ﻣﻦ ﺧﺼﻮﺹ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱ ﻭﺣﺪﻫﺎ ، ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﺍﻟﻬﺎﺋﻠﺔ ﺗﺒﻨﻰ المبادئ ﻭﺗﺘﺮﺑﻰ ﺍﻷﻣﻢ ﺍﻟﻨﺎﻫﻀﺔ ﻭﺗﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﺍﻟﻔﺘﻴﺔ ﻭﺗﺘﺠﺪﺩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻓﻴﻤﻦ ﺣﺮﻣﻮﺍ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺯﻣﻨﺎ ﻃﻮﻳﻼ،ﻭﻛﻞ ﺷﻌﺐ ﻓﻘﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻷﺭﺑﻌﺔ ، ﺃﻭ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﻞ ﻓﻘﺪﻫﺎ ﻗاﺩة ﻭﺩﻋﺎﺓ ﺍﻹﺻﻼﺡ ﻓﻴﻪ ، ﻓﻬﻮ ﺷﻌﺐ ﻋﺎﺑﺚ ﻣﺴﻜﻴﻦ، ﻻﻳﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ ﻭﻻ ﻳﺤﻘﻖ ﺃﻣﻼ ﻭﺣﺴﺒﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺶ في ﺟﻮ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻼﻡ ﻭﺍﻟﻈﻨﻮﻥ ﻭﺍﻷﻭﻫﺎﻡ : (إﻥ ﺍﻟﻈﻦ ﻻﻳﻐﻨﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﺷﻴﺌﺎ .(
فالقابلية للانسحاب والتهميش والتغييب هي أخت القابلية للاستعمار وشقيقة القابلية للاستبداد والاستحمار ،والقابلية للتفسير التآمري الذي أصبح يطغى على خطابنا السياسي والإعلامي مع كل لحظة انتقال وإذا كانت فترات التعايش مع الأنظمة الاستبدادية، وتراكم خبرات التبعية للغرب، والاستسلام للقدر والغيبي للهزائم، وتفسيرها بأنها عقاب إلهي، قد هيأت البيئة للتفكير التآمري، فإن المرحلة التي نعايشها اليوم أضافت لها من العوامل الجديدة ما يجعل خطاب المؤامرة أكثر تجذرا، وأوسع توظيفا.فالعقل العربي تسكنه هواجس ومعتقدات حول أنه مستهدف، ومخترق، ومحاصر من الآخر، وأن هناك قوي خفية في العالم تتآمر عليه، وترغب في تغيير هويته، وتدميرها مع الإقرار بوجود مخططات واستراتيجيات مصممة لهذا الغرض .لكن تعليق عوامل كبوتنا وشروط نهضتا علي الآخر، أكثر من الاعتراف بعيوب الذات، دون الأخذ بمسببات القوة والضعف التي تتحكم في التفاعلات بين الدول والمجتمعات.
إن العقل الذي نريد المساهمة في صياغته لمقابلة التحديات الجديدة و أمام مشروع التغيير والإصلاح يحتاج منا إلى برنامج متكامل لمواجهة فكر وثقافة القابلية للانسحاب والتهميش والتغييب وصولا إلى تكريس طبائع العلمانية والاستبداد في السلوك الجمعي للشعوب والنخب على السواء ،واقتحام الأبواب المغلقة دون تكسير أزرارها أو تحطيم أطرها أو هدم أعمدتها هو الفن الذي ينبغي أن تنشأ عليه ناشئة فتيان الأمة وشبابها ليكون مردودهم ونتاجهم النضالي أفضل مما نحن عليه اليوم . على اعتبار انه من أصعب المهام أن يطلب منك إزالة عمارة دون أن تخرج سكانها، ودون أن تسقط فوق رؤوسهم فتهشمها منتزعة أرواحهم، بل وتجعل الناس سعداء بعملية الهدم، ثم تبني للسكان عمارة أفضل.
كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة؟!البعض قد لا يشغله هذا السؤال، مقترحاً التضحية بهذا الجيل من سكان العمارة مقابل أن الجيل التالي الذي سيولد تحت الركام سيحظى بمستقبل أفضل في عمارة يشهد بها العالم.آخرون سيضحون بنصف العدد أو ربعه أو ثلثه بحسب حكمتهم وإبداعهم، وآخرون يعتبرون أن عملية البناء ليست وسيلة لتحقيق المستقبل فحسب؛ بل فيها تكمن فلسفة المستقبل القادم، ومن ثم يجب أن تتجسد في عملية الهدم والبناء قيم المستقبل، لذلك فالتحدي أمامنا في أن تتم العملية بدون خسائر في الأرواح أو المعنويات، بل ويتشارك فيها سكان العمارة أنفسهم.
فمشروع التغيير يحتاج إلى منظومة أفكار تحدد بوصلته وترشده إلى معايير الصواب والخطأ في الحركة، منظومة أساسية تساهم في ترجيح المسارات، وتحديد الأولويات، وصياغة الخطاب، وعقد التحالفات.فمن يحملون مشروع “المجتمع القوي” يأملون أن تكون محصلة سعيهم في مشروع التغيير هي “مجتمع قوي” لديه من النظم الفعالة بداخله ما يمكنه من إدارة شؤونه، ولديه القدرة على دعم كل ما يقوي هذا المجتمع، والتصدي لكل ما من شأنه إضعافه، لذلك لا يدور تفكير المناضل السلمي فقط حول أثر أنشطته على النظام الفاسد الذي يريد تغييره، ولكن حول أثر أنشطته المستمرة على تربة المجتمع وخصوبتها، فرغم أن المناضل يسعى لإيقاف الظلم واستعادة الحقوق وإسدال الستار على عصر الديكتاتورية؛ إلا أن عينه مركزة في كل خطوة يخطوها على تأثير النضالية على مشروع “بناء مجتمع قوي”، لأنه قد يكتشف أنه شريك للسلطة في معركتها.فرغم أن الظاهر أنهما يتصارعان، لكنهما أثناء صراعهما يطآن بأقدامهما المجتمع في هذا الصراع، فهو شريك في تجريف تربة المجتمع، وذلك بسبب تمكن السلطة من أسره ذهنياً ليفكر بمنطقها!! وفق نظرية القبلية للاستبداد أما الخضوع أو الانسحاب.
إن مؤشر الصواب والخطأ لدى السلطة هو مصلحة السلطة، أما مؤشر صواب أو خطأ النضالية التي تحمل مشروع “المجتمع القوي” هو الأثر العام للسلوك المقاوم على المجتمع.. هل يزيد من قدراته أم يضعفه؟!، هل يجعله أكثر تماسكاً أم تفتتاً؟!، هل ينتصر للقيم العامة التي يراد غرسها في المجتمع، أم لقيم حزبية خاصة؟!، هل يحرر المجتمع أم يسيطر عليه؟، فمواجهة السلطة يتم عبر منظومة المجتمع القوي، لأنك قد تواجه السلطة بنفس قيم مشروع السلطة ومنطلقاته، حينها يجب أن يثور التساؤل عن جدوى المشروع المناضل!!!
ولهذا السبب كان المنطلق من رؤية “المجتمع القوي” يصمم مساره بفن وإبداع، فهو يسير على حقل ألغام يمكن أن يدمر كل المجتمع إن لم يتبين مواضع أقدامه. ومن هنا كانت عبقرية تصميم المسار المناسب، الذي يجتهد في الإجابة عن كيفية تحويل معارك التغيير إلى إضافة لرصيد المجتمع، وهو ليس مساراً يُستنسخ برداءة من كتاب هنا أوهناك، فلكل مجتمع مواطن قوة وضعف، وملفات قابلة للاشتعال تختلف من مجتمع لآخر.
ومن هذا المنطلق الذي يوفر فرصا كبيرة لامتلاك المجتمع بكل قواه الحية عناصر القوى في كل مجالات الحياة التي نرغب في تغييرها وهي لبنات أساسية في إستراتيجية المقاومة السياسية المدنية ،فلا مكان لثقافة الكرسي الشاغر ،فكل مكان يجب أن يشغله مناضلوا التغيير السلمي الجاد والمنسجم في إطار رؤية متكاملة ، تجعل منه منصة لصناعة الفرق في الكفاءة والفاعلية والتأثير ،ونحن هنا عندما نتحدث عن رفض ثقافة الكرسي الشاغر هذا لا يعني قبول الرشاوى السياسية التي تشوه مسيرة عملية التغيير وتصنع الزبونية السياسية وتزيد في طوابير الإطارات المكستمة التي تنتظر الدور للترقية الشخصية ،فهذا في الحقيقة جزء من إستراتيجية صناعة القابلية للاستبداد ،بل نقصد معنى سياسي عميق في الممارسة العامة ونحن في جبهة التدافع والتنافس السياسي ، الذي يستخدم كل أساليب التأثير في الحياة العامة وما لا يمكن تحقيقه باسم الرمزية السياسية يمكن تحقيق جزء منه في سياق ثقافة مبنية على قاعدة (يسع الفرد ما لا يسع الجماعة ) وهي قاعدة يمكن تفريعها إلى منصات وتعميمها على عتبات متجددة لصناعة التغيير والإصلاح في سياق ماهو سياسي وماهو استراتيجي وماهو حضاري ،وهو ما سنعود إليه الحلقة القادمة .

تعليق