الرئيسية مقالات الدكتور عبد الرزاق مقري بعد عودة ماكرون إلى بلاده: العلاقات الجزائرية الفرنسية، ما الحل؟

بعد عودة ماكرون إلى بلاده: العلاقات الجزائرية الفرنسية، ما الحل؟

كتبه كتب في 27 أغسطس 2022 - 6:56 م
مشاركة
إن علاقة الجزائر بفرنسا بكل تناقضاتها الظاهرية ومخفياتها العميقة تمتد لستين سنة، ورغم قدمها منذ الاستقلال لم يحدث أن استفادت الجزائر من هذه العلاقة أبدا، ولن يتغير شيء لصالح الجزائر بعد زيارة ماكرون وسيبقى الأمر كما هو ما لم يحدث تغيير جذري في العلاقات الجزائرية الفرنسية:
– على الصعيد الاقتصادي بقيت الجزائر بقرا حلوبا لصالح فرنسا تتمتع مؤسساتها الاقتصادية بامتيازات لا تأخذها مؤسسات دول أخرى دون أن يساهم ذلك في تطور الاقتصاد الجزائري أو نقل التكنولوجيا أو المهارات الإدارية أو الكفاءات الخدمية أو دخول الأسواق العالمية. وحينما توفرت سيولة مالية ضخمة في زمن بوتفليقة بسبب الضخ اللامحدود للخيرات الطاقوية المخبوءة تحت الأرض استُعمل جزء كبير من تلك الكتلة المالية العظيمة لإنقاذ مؤسسات اقتصادية فرنسية مفلسة، ولدعم الإنتاج الفلاحي والصناعي الفرنسي والمؤسسات الخدمية الفرنسية. ثم انتهت البحبوحة المالية والجزائر مفلسة قد ذاب صندوقها لضبط الموارد وانكمش احتياط الصرف، ولو لا المقاومة الوطنية والإسلامية وحجم الخيرات التي منحها الله للبلاد لكان مصيرنا شبه مصير بعض الدول الافريقية المفلسة جنوب الصحراء التي باع حكامها بلدانهم للراشي الفرنسي.
– على صعيد الإدارة والتسيير بقيت الإدارة الجزائرية مسكونة بداء البيروقراطية الفرنسية الثقيلة الرديئة التي تعمل فرنسا ذاتها على التخلص منها بلا جدوى لتلتحق بأنماط الإدارة الانجلوسكسونية واليابانية والصينيه المتنافسة على الشفافية والكفاءة، وبقي كثير من الإداريين الجزائريين معقدين في تعاملاتهم مع أنفسهم ومع الجمهور بثقافة التعالي الفرنسية الفارغة، والتقعّر اللغوي المفرنس المتخلف، والرداءة اللاتينية الغائرة في التقهقر والرجعية التي زادتها رواسب العقلية الاشتراكية سوء وفشلا.
– على الصعيد الثقافي ظلت الثقافة الفرنسية تنافس الثقافة العربية الأصيلة وتلغي الثقافة الأمازيغية العريقة، تهيمن لغتها على الشوارع ولافتات المحلات، ولا يشعر المسؤولون الرديؤون وعديمو التثقف بأنهم مسؤولون إلا حينما يتخاطبون بلغة المستعمر، ولا تشعر الأقلية الجزائرية المستلبة حضاريا بالوجود في الكون إلا بمخاطبة أفرادها، بعضهم بعضا، ومخاطبة أولادهم، بلغة فرنسية ركيكة، فقيرة في عدد الكلمات المستعملة وهشّة في بنائها ومعانيها. وبات هذا الوضع النفسي والاجتماعي يتسبب في اهتزاز مستدام لاستقرار البلاد، وصراع عدمي على الهوية، وخلق تيارات من الجزائريين موسومة ب”القابلية للاستعمار”، وطوابير من البشر عميلة مستعدة لخدمة ثقافة ومصالح الأجنبي على حساب ثقافة ومصالح البلد.
– على مستوى التعليم بقي النمط الفرنسي والمناهج الفرنسية المنقولة تتسبب في تدمير المنظومة التربوية والمسارات التعليمية الجزائرية حتى باتت المدرسة فارغة من محتواها تعمل شبكات المدارس الخاصة التابعة للمناهج التعليمية الفرنسية حرفيا على أن تحل محلها، دون أي مراعاة لواقع التعليم الفرنسي التعيس في فرنسا ذاتها، والذي بات يتجه للمناهج العالمية الأخرى. وأدى التردد في الاستراتيجية اللغوية، ومنع الاستفادة من اللغات غير اللغة الفرنسية، والفشل المزمن للانتقال للغة الإنجليزية بفعل مكائد اللوبيات الفرنسية، وفشل التعريب لصالح الرجوع المتدرج للغة الفرنسية في العديد من المواد وخصوصا في المستوى الجامعي إلى انخطاط مستوى الجامعات الجزائرية وبقائها في أدنى مراتب المستويات الجامعية في العالم.
– على مستوى السياسة الخارجية واستراتيجيات العلاقات الدولية، بقيت فرنسا خصما أصيلا ودائما للمصالح الجزائرية وخياراتنا في الساحة الدولية، لا يبالي الحكام الفرنسيون في مواقفهم العنصرية مع الجالية الجزائرية بالدولة الجزائرية ومسؤوليتها تجاه مواطنيها في الخارج، ومن ذلك مسألة التأشيرات والخطاب التحريضي للسياسيين بمناسبة أي انتخابات. ولا يهمها في سياسات “الاسلاموفوبيا” وقرارات التضييق على الشعائر الإسلامية، كقضية الخمار والتصريحات المهينة للمسلمين على سبيل المثال، ما يحس به الشعب الجزائري المسلم الذي يزعم رؤساء فرنسا أنهم يريدون صداقته. ولا يكترث المسؤولون الفرنسيون مطلقا بردود الأفعال الرسمية الجزائرية تجاه رعايتهم ودعمهم للقوى الانفصالية الإرهابية المقيمة في فرنسا، ولا يتوقفون أبدا عن زعزعة الاستقرار المغاربي بتدخلهم بين الأشقاء وبريادتهم السياسية المكشوفة الداعمة للتوجهات التغريبية الاستعمارية وlلصـ@ـيونية للنظام المغربي على حساب الجزائر. علاوة على المحاولات الفاشلة، إلى الآن، لجر الجزائر إلى ركب التطـ.بيع والتبعية للمعسكر الغربي الغاشم.
إنه لا أحد من المسؤولين في الدولة الجزائرية، ولا المستلبين ثقافيا وحضاريا في المجتمع الجزائري يستطيع أن ينكر ما ذكرته في هذا المقال، ولكنها “القابلية للاستعمار” كما يقول مالك بن نبي رحمه الله، وعقد النقص والنفسيات المنهارة لدى هؤلاء، والحرص على السلطة والمصالح الشخصية!
ومن أعظم الجرائم التي تسبب فيها أصحاب القرار الفرنسيون، مثلهم مثل القوى الاستعمارية الغربية بل أكثر منها، دعمهم للوبياتهم وللتابعين لهم أو المتأثرين بهم بسبب رجاء الدعم أو الخوف على الكرسي داخل النظام السياسي ذاته، والمحاربة في السر والعلن للقوى الوطنية الجزائرية ذات السيادة في ثقافتها وقرارها، بما جعل الرداءة تتسع وتستقر في ظل الاستبداد المانع للحريات المنشئة للإبداع، فباتت تلك الرداءة تفعل فعلها في تأخر الجزائر وتقهقرها بإرادة جزائرية داخلية.
وعليه لن تتخلص الجزائر من القيد الفرنسي المانع للنهضة والتطور إلا حينما تتحرر الإرادة الشعبية من سياسات التحكم التي تفرضها القوى الفاعلة في النظام السياسي على الشخصيات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لتكون تابعة عديمة الإرادة والفاعلية. كما لا يمكن أن يقع التغيير الذي يقضي على اللوبيات الفرنسية المظلمة الخفاشية التي تديم التبعية إلا حينما تتحق السيادة الشعبية بالانتخابات الحرة والنزيهة، هذه الانتخابات التي لا يزال يؤثر فيها، إلى اليوم، الإرادات السلطوية الخفية والعلنية، الفوقية والتحتية، والقبلية والأثنائية والبعدية. ولا أمل في بناء سياسة خارجية جزائرية مستقلة كلية عن “العقدة الفرنسية” مبنية على الندية، فعليا وليس ادعاء، وقاعدة الربح للجميع مع كل الأمم، إلا بظهور طبقة قيادية من المسؤولين الجزائريين، واثقين في أنفسهم معتزين بهويتهم، أصحاب رؤى ونزاهة وكفاءة، لا يخافون إلا من الله، ويستقوون به سبحانه وبمواطنيهم، يضعون انفسهم تحت الرقابة الشعبية بصدق في كل ما يقومون به دون تدليس ولا تحايل. وإن ذلك لآت … يرونه بعيدا ونراه قريبا.
د. عبد الرزاق مقري

تعليق