خلافا لتفاعلات الرأي العام حول مقاصد حركة مجتمع السلم من مناقشة بيان السياسة العامة فإن هدفنا الأول ليس رئيس الحكومة، فما رئيس الحكومة إلا قطعة في منظومة، والمشكلة الحقيقية هي في منظومة الحكم كله. إنه حينما تكون الماكنة كلها متهالكه لا يصبح مهما أن تسأل عن قطعة الغيار التي تبدلها، هل هي صالحة ومناسبة أم لا؟
وفي هذه الحالة كثيرا ما يتكرر تغيير القطع، فلا يدري أحد حينما تُغيّرُ القطعةُ هل كانت هي ذاتها فاسدة فعقّدت حال المنظومة أكثر، أم أنها كانت صالحة فلم ينفع صلاحها الماكنة إذ الماكنة نفسها في حالة مزرية وهي المقصودة بالتغيير وليست القطعة. فلا نريد أن نظلمه أو نظلم من كان صالحا من وزرائه، ولكن في كل الأحوال رئيس الوزراء يتحمل المسؤولية سواء كان مناسبا لهذا المنصب السامي أم لا.
وباعتبار أن البرلمان مسَيطر عليه بنسبة أكثر من 80% من نواب الموالاة الذين يتبعون الحكم، وليس الحكومة، فإننا سنسمع هجوما واسعا على هذه الحكومة ووزرائها من العديد من أعضاء المجموعات البرلمانية الذين تقبع أحزابها فيها ولكن في آخر المطاف سيصوتون لصالح بيان السياسة العامة، وحتى وإن أقدمت المجموعة البرلمانية المعارضة الوحيدة المتمثلة في كتلة حركة مجتمع السلم على تقديم ملتمس الرقابة للإطاحة بالحكومة فإن المشروع ستسقطه الأغلبية الساحقة التي أنتجتها انتخابات قاطعها أغلبية واسعة من الناخبين وشُوهت بإبداع تزويري جديد بيّنا دلائله وبراهينه للمسؤولين بما لا يمكن رده. وسيبقى التصويت الأخير على بيان السياسة العامة موقفا سياسيا فارقا بين أغلبية ستقول نعم لاستمرار الوضع بكل ما يحمله من مخاطر للبلد، وأقلية معارضة شامخة مقاومة ستتحمل مسؤوليتها التاريخية مرة أخرى برفض فرض الأمر الواقع من منطلق الواجب أولا والتاريخ ثانيا، ثم لعل الجزائريين يتذكرون يوما ما!
كان من المنطقي أن نبدأ بتقييم الوضع السياسي في تناولنا الرد على بيان السياسة العامة، ولكن باعتبار أن المنتظر أكثر من الحكومة هو ما يتعلق بالنتائج على الصعيد الاقتصادي سنبدأ بالحديث عن الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وفي المقال المقبل سنتحدث عن الجانب السياسي.
وقبل ذلك لا نبد أن نشيد باحترام الشكل في عرض بيان السياسة العامة على البرلمان، إذ لأول مرة يُحترم الدستور في هذا الشأن، ومهما كانت ضآلة حجم هذا الإنجاز نفرح به، لأن من مآسينا أن حتى المكتسبات الجيدة التي تأتي بها الدساتير والقوانين والمراسيم نحرم منها بعدم تطبيقها، أو بتطبيعها بأشكال منحرفة أو متحيزة تفرغها من محتواها، ورحم الله الشيخ محفوظ رحمه حين قال عن النظام الجزائري: ” يكتبون النصوص بالأيدي ويدوسون عنها بالأرجل” أو قوله “مشكلة الجزائر في اللصوص وليس في النصوص”.
غير أننا نلوم الحكومة عن تبريراتها في المقدمة لتُعذِر نفسها مسبقا عما قد يرفعه النواب من دلائل القصور في أدائها حين تحدثت الوثيقة عن العوائق التي تسبب فيها الغلق أثناء الوباء وآثار الحرب الدائرة في أوكرانيا، ولئن كان الحديث عن أثر الوباء مقبولا، فإن التعذر بالحرب غير مقبول إذ أنتجت وضعا ماليا مريحا للدول المنتجة للطاقة، أعطى النظام السياسي نفَسًا لم يكن يحلم به، وهو فرصة سانحة لتطوير الاقتصاد بحسن استغلال زيادة المداخيل بالعملة الصعبة.
إن تقييم الخطط والسياسات والبرامج يكون سهلا حينما تكون صياغتها بأهداف وعبارات وأرقام قابلة للقياس، وذلك من مسلمات علم التخطيط ومعايير الحكم الراشد، وهو ما لم يكن حاضرا في مخطط عمل الحكومة الذي على أساسه يتم تقديم بيان السياسة العامة وعلى أساسه يتم التقييم، ولكن كان مخطط عمل الحكومة إنشاء وجملا متراكمة تتحدث عن طموحات لا ضابط لها ولا يمكن متابعة مدى إنجازها، وكذلك – على ذات المنوال – جاء بيان السياسة العامة بمثابة وثيقة فضفاضة العبارات، بصياغات عامة يستحيل التأكد من صحتها، وما علينا إلا أن نصدق ما يقال فيها بدون أي قدرة على قياسها. و ما جاء فيها من مؤشرات رقمية فهو إما وعود مستقبلية – كأن الوثيقة هي ذاتها برنامج جديد أو برنامج مكمل كما هو حال الأربعين مشروع قانون التي تقول الحكومة في وثيقتها بأنها ستصدر في المستقبل لمعالجة الخلل – وإما أرقام غير ذات أو غير دقيقة أو غير ذات مصداقية.
ومن جوانب نقص المصداقية في الأرقام كونها لا ترتكز على قاعدة بيانية منشورة ومتعارف عليها كما هو حال الحكومات التي تخضع لمعايير الحكم الراشد في العالم. كيف يمكننا أن نصدق الأرقام التي يتحكم فيها عدد قليل من الأشخاص لا ندري من هم وكيف يبنون أرقامهم وعلى أي أساس. كيف نصدق تلك المؤشرات إذا كانت أرقام الديوان الوطني للإحصاء متجمدة في موقعه الالكتروني لم تتغير منذ سنوات، كحال مؤشر استهلاك العائلات الذي يعود إلى سنة 2011 في حين أن المطلوب حكوميا أن يتجدد كل ثلاثة أشهر، بل كحال المعطيات الاقتصادية والاجتماعية المتوقفة منذ 2006. ولا نريد أن نلوم مسؤولي الديوان الوطني للإحصاء، وإن كانوا يتحملون جزء من المسؤولية، ما دامت الجزائر لا تملك منظومة معلوماتية شفافة وفاعلة وملزمة للمؤسسات العمومية والخاصة. ولا أظن أن الجزائر لا تقدر على الانتقال إلى نظام معلوماتي عصري ينقلنا إلى مستوى الحكومة الالكترونية، فدول أقل إمكانيات منا فعلت ذلك، ولكنها الرغبة في فرض الغموض في الحكم من أجل التحكم ومنع التغيير المهدد لاستمرار الاستبداد والفساد.
حينما فُرض على الجزائر المضي إلى الهوية البيوميترية لأسباب أمنية محلية ودولية فعلت ذلك ونجحت فيه، والذي ينجح في الهوية البيوميترية يستطيع أن ينظم انتخابات إلكترونية، ويستطيع أن يوسع قاعدة البيانات في كل اتجاه. تستطيع الجزائر أن تكون لديها مؤشرات اقتصادية واجتماعية منشورة وشفافة ومحينة في كل وقت فلا نضطر أن نصدق ما يعرضه علينا الإداريون الرسميون فلا نستطيع مراجعته إذ ليس لدينا الوقت وآليات ذلك.
ولو أردنا أن نضرب أمثلة على عدم دقة الأرقام أو التجاوز في تفسيرها، فإننا سنجد على المستوى الأدنى مثالا بسيطا على التدليس والتلفيق في الأرقام التي يسهل كشفها حين تتوفر أدوات التدقيق فيها. ويتعلق الأمر بما جاء في بيان السياسة العامة بأنه تم الإجابة على مائة بالمائة من الأسئلة الشفوية التي طرحها النواب على الحكومة وهو ما يكذبه هؤلاء مطلقا. ولعل هذا التجاوز اللأخلاقي صنعةٌ أخرى لنوع من المسؤولين في الاختصاص يتفنون في القيام بوظائف لا علاقة لها بمهمتهم لإفساد ممثلي الشعب وأحزابهم، بالتطميع تارة وبالتخويف تارة، وقد سبق لنا أن كشفنا ذلك في ندوة صحفية سابقة، وبدل أن يتم التصرف مع هذا النوع من الوجوه الرسمية لحفظ مصداقية الدولة ظهرت وجوه أخرى على شاكلتها في قطاعات وزارية أخرى للأسف الشديد.
وعلى المستوى الأعلى يمكننا أن نتحدث عن المؤشرات الاقتصادية الإيجابية حسب أرقام الحكومة التي لا تتناسب مطلقا مع مستوى المعيشة التي لا تزال آخذة في التدهور، بما لا يمكن إنكاره مطلقا، ولو كان مسموحا في بلادنا بنشاط مؤسسات سبور الآراء واستطلاع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الخاصة لأمكن كشف الحقيقة بسؤال طبقة العمال الذين لا تتجاوز أجورهم 30 و 40 و 50 ألف دينار، بل أكثر من ذلك، كيف هي حياتهم وكيف باتت مرتباتهم لا يبقى منها شيء قبل نهاية شهر، وبالنسبة للبعض قبل نهاية نصف الشهر. أما من كان دخلُهم دون ذلك فهم يكافحون من أجل المعيشة وليس من أجل الحياة الكريمة لهم ولأهلهم وأولادهم. ولفداحة ارتفاع الأسعار التي تلسع الأغلبية الساحقة من المواطنين، لم تستطع الحكومة تخفيض معدل التضخم كثيرا فبقي رسميا يلامس الرقمين، أي قرابة 10%، والمعلوم أن التضخم حين يتجاوز الرقمين على أصحاب القرار أن ينتبهوا بأن مواطنيهم يعيشون العنت، مع أن الرقم المصرح به في بيان السياسة العامة لا يمثل حالة غلاء المعيشة الحقيقية التي يكابدها المواطن.
ولست أدري كيف يبتهج المسؤولون بالتطور الإيجابي للميزان التجاري وميزان المدفوعات ويخفون عن الناس بأن ذلك التحسن لا علاقة له بالنشاط الاقتصادي وإنما سببه التقليص الحاد للواردات وارتفاع أسعار المحروقات، أما انخفاض الواردات فهو تصرف سياسي لا علاقة له بالمنطق الاقتصادي، فهو سبب رئيسي لارتفاع الأسعار بسبب الندرة التي خلقها في الأسواق، وفي ارتفاع كلفة الإنتاج الصناعي والخدمات بنقص المواد الأولية التي يدفع في المحصلة فروقَها المواطنُ من جيبه في مختلف مناحي الحياة.
إنه لا يخفى على مثقف متوسط المعارف بأن إجراء منع الواردات تقوم به الحكومات لحماية ما يماثلها من إنتاج وطني لفترة محددة وليست سياسة مالية شاملة وحادة ودائمة تتعلق ببضائع تمس احتياجات أساسية أو ضرورية لا يوجد ما يشبعها محليا، وقد كانت لي فرص عديدة استمعت فيها لأصحاب مؤسسات صناعية وخدمية في مختلف المجالات وفهمت منهم الأثر السلبي عليهم وعلى زبائنهم لهذه السياسات المانعة للحرية الاقتصادية. ومما يدل على أن هذه الإجراءات سياسية ولا علاقة لها بالتدبير الاقتصادي الحكيم الاحتكارات الجديدة التي بدأت تنشأ من جديد من المحظوظين الذين يُسمح لهم بالاستيراد دون غيرهم.
ومن دلائل عدم تطور التنمية الوطنية تواضع حجم الصادرات الذي لا يزال لم يصل 5 مليار دولار، رغم الوعود العريضة التي أطلقها رئيس الجمهورية نفسه بهذا الشأن منذ وصوله لسدة الحكم قبل ثلاث سنوات، ولا يبدو أن هذا الرقم سيرتفع كثيرا عند نهاية عهدته، أي بعد سنتين تقريبا، ولقد بات واضحا بأننا في سنة 2024 سنبقى كما نحن تحت رحمة مداخيل المحروقات.
إن المعلوم في علم الاقتصاد وفي التجارب الحكومية في العالم أن أجل نجاح التنمية وبداية تحقيق الإقلاع الاقتصادي الداخلي والتوجه إلى الأسواق العالمية هو خمس سنوات، إذا توفرت الإمكانيات وكان الحكم راشدا. وقد رأينا ذلك يتحقق في العالم الإسلامي في التجربة الماليزية والاندنوسية والتركية، ففي تركيا مثلا التي كانت سنة 1999 في حالة إفلاس انتقلت صادراتها في نهاية العهدة الأولى لحزب العدالة والتنمية بين 2002 – 2007 من 30 مليار دولار إلى 130 مليار دورلار.
إن النظام السياسي في الجزائر لم يفهم بعد بأن مصير التنمية وأمن البلد ومستقبل الأجيال مرتبط بالمؤسسة الاقتصادية التي توفر الشغل، وتنتج البضائع والسلع بما يؤدي لخفض الأسعار ونسب التضخم، وتصنع ارتفاع معدل النمو، وترفع معدل الناتج المحلي الإجمالي ( مؤشر غناء الدولة) ومعدل نصيب الفرد منه ( رفاه الأفراد)، وترفع مستوى الصادرات خارج المحروقات، وتديم استقرار الميزان التجاري وميزان المدفوعات بشكل إيجابي وآمن.
ولعدم ثقة نظام الحكم في نفسه لم يرسم لنا حلما قابلا للقياس – كما فعلت حركة مجتمع السلم في برنامجها – يعلن فيه للرأي العام ما هو الحيز الزمني الذي تستطيع الجزائر أن تحقق فيه الأمن الغذائي وتصل المراتب التنافسبة المتقدة اقليميا ودوليا في الصناعة والخدمات، على أساس علمي تتكامل فيه الجامعات وابتكاراتها مع المؤسسات وحسن إدارتها، ومتى تستطيع الجزائر التحرر من التبعية للمحروقات، وتصبح بضائعنا تجوب أسواق العالم، ونحن نصبح بلدا قويا مهابا يصنع أسلحته بنفسه فلا تؤثر فيه سلبا التحولات الإقليمية والدولية بل يؤثر فيها هو بحكمته ومكنته. لا نجد شيئا من هذا، فالقيادة الجزائرية لم ترسم حلما نندفع جميعا إلى تحقيقه، حكومة بعد حكومة، عهدة بعد عهد، حتى وإن تداولت الأحزاب على الحكم.
إن المجهودات الكبيرة التي يبذلها النظام السياسي لتوسيع شبكة المؤسسات ومحاولاته تحسين البيئة القانونية للأعمال لن تُرى ثمارُها إلا بتحقيق الحرية الاقتصادية الضامنة لفاعلية المؤسسات وجودة أدائها وسلعها على أساس التنافسية وعدالة الفرص. ولا يمكن تحقيق ذلك بدون القدرة على الرقابة على الشأن العام. لا يزال الغلق هو سيد الموقف في الجزائر في كل المجالات ومنها أساسا المجال الاقتصادي، لا يزال الفساد يفسد بيئة الأعمال كذلك السرطان الذي يتمدد في الجسم فتقتل الخلايا الفاسدة الخلاية السليمة حتى تقضي على الكيان كله. لا يزال التاجر والصناعي المتعفف عن الحرام يجد صعوبات كبيرة لنمو عمله رغم الكفاءة والتجربة، ولا يزال من يُشكُّ في ولائه للسلطة القائمة، أو ربما لشخص أو أشخاص في السلطة، تُعرقَل أعمالُه بكل الوسائل، ولا تزال ذهنية تشكيل العصب المالية في محيط السلطة الحاكمة بالمحسوبية والقرارات الفوقية وسيلة من وسائل الحكم والتحكم، وما نسمعه من أخبار في هذا الصدد مرعبة ومخيفة. وأمام هذا الوضع بتنا نرى حلمنا يتبخر بشأن استرجاع الأموال المنهوبة التي كانت محورا أساسيا في الحملة الانتخابية لرئيس الجمهورية إذ بعد ثلاث سنوات من حكمه لم نسمع خبرا ذا بال يسعدنا برجوع أموالنا التي نهبها ” السرّاقون”. وما تم التصريح به في بيان السياسة العامة في هذا الشأن محبط حقا فهو يتحدث عن تنفيذ 49 إنابة قضائية دولية من 219 إنابة ولكن لم يخبرنا عن نتيجة هذه الإنابات وما تم تحصيله، كما لا يزال يراودنا الخوف من أن يتم التفريط في الثروة المنهوبة من خلال الصلح الجزائي مع بارونات الفساد الذي تم تشريعه في قانون المالية 2022 الذي عارضناه لغموضه وعدم جدواه ولتشجيعه تكوين عصابات جديدة. إن هذا السكون المطبق عن هذا الصلح المزعوم يمنع استعمال حق الرقابة عليه من النواب والسياسيين ووسائل الإعلام، ويدخل الريب في أبعاده وحقيقته.
إنه لو لا الصدور العامرة باليقين والتجربة القائمة على فهم السنن لأصابنا اليأس. إن ثقتنا في الله سبحانه كبيرة بأنه يمهل ولا يهمل، وفي الشعب الجزائري بأنه سيصبر لعل القوم يعقلون، ولكن غضبته لن تتأخر حين تتراكم أسباب ذلك مرة أخرى، وسيقول ذات يوم مجددا إن لم يقع التغيير الحقيقي “كليتو البلاد يا سراقين”، ولن تسلم الجرة في كل مرة!
ثم إنه من المؤسف حقا أن تُستعمل هذه النعمة الربانية في كل مرة لإنقاذ السلطة بدل إنقاذ البلاد. لقد أطلق رئيس الجمهورية مشروعا كبيرا للم الشمل سمعنا منه بأنه يريده من أجل العمل المشترك لحل مشكلة التحويلات الاجتماعية وإعادة النظر في سياسة الدعم لكي تكون موجهة لمستحقيها، وقدمنا له رأينا بأن الحل الحقيقي هو توسع دائرة المؤسسات الاقتصادية نوعا وكما، وتناقشنا معا نقاشا إيجابيا بخصوص القطاع الموازي وقدمنا رأينا بأن الحل لا يقتصر على التدابير المالية الجزئية لتشجيع أرباب المال على إدخال أموالهم الدائرة الاقتصادية الحقيقية، ولا حتى في الصيرفة الإسلامية ( على نحو ما جاء كذلك في بيان السياسة العامة) وإنما يكمن ذلك في الحكم الراشد الذي يحفظ رجال الأعمال من جشع المسؤولين فيضطرون للتخفي وعدم الرغبة في تطوير أعمالهم حتى لا تفرض عليهم الشراكات قصريا مع أصحاب النفوذ وذويهم. كما يكمن كذلك في التوافق الوطني القائم على الحرية والديموقراطية بما يضمن الاستقرار وثقة المواطنين، وفي مختلف الإصلاحات البنكية وفي قطاع الضرائب والجمارك وسلط الرقابة التقنية والتكوين وتطوير الموارد البشرية، فإن تحقق ذلك ستصب على البلد الاستثمارات والموارد المالية من الداخل والخارج بلا حدود، ويصبح الجزائري يوفر احتياجاته كريما بعرق جبينه وعمل يده، فتوجّه مداخيل المحروقات عندئذ إلى التعليم والصحة والهياكل القاعدية، ولا يصبح مع مرور الزمن ملف الدعم الاجتماعي ملفا ثقيلا يتعلق به مصير البلد.
ولكن للأسف الشديد ما أن ارتفعت أسعار المحروقات طوي الحديث عن لم الشمل وعن ملف الدعم الاجتماعي، ورجع الخطاب الرسمي إلى أنغام الشعبوية المدمرة للاقتصاد الوطني في أمد متوسط وقد يكون قريبا إذا انهارت أسعار المحروقات لسبب من الأسباب الخارجية.
ومن أغرب ما سمعته في حياتي في الخطاب الشعبوي الرسمي، بما يتناقض كلية مع أبجيات الاقتصاد قول القائل ” أننا سنزيد في أجور العمال ما دامت أسعار المحروقات زادت”، والسؤال الكبير المطروح: وإذا تراجعت أسعار المحروقات، هل سيتم تخفيض الأجور؟ ومن أخطر أنواع الشعبوية الأخرى طريقة التعامل مع منحة البطالة إذ تُعطى المنحة دون أفق للتشغيل، خلافا لمختلف التجارب الدولية الناجحة، إذ يسجل في قوائم المستفيدين بشكل مؤقت المسجلين في قوائم طالبي الشغل. أما عندنا فإنه يعطى للبطال منحة ترتفع أكثر عند ارتفاع أسعار البترول دون أي مسؤولية على مستقبل استقرار البلاد، إذ ما الذي يهدئ هؤلاء الجزائريبن المغرر بهم إذا ما عجزت الدولة على الالتزام بهذه المنحة في أفق منظور. وبالرغم من أن سلبيات هذا الإجراء لم تتأخر في الظهور من حيث ساهم في تضخيم القطاع الموازي إذ بات كثير من العمال يطلبون من أرباب المؤسسات التي يشتغلون فيها أن يتوقفوا عن تأمينهم في الضمان الاجتماعي لكي يتمكنوا من الحصول على منحة البطالة، كما أن كثيرا منهم فقدوا الحماسة للتكوين المهني.
لست أدري كيف يجرؤ المسؤولون على هذه السياسة الشعبوية الخطيرة، هل تصل فتنة السلطة والاستمرار فيها إلى أن يصبح الناس لا يبصرون. إنه من العيب ومن المؤسف جدا أن يتم ستغلال فرصة ارتفاع أسعار المحروقات من أجل السلطة بدل استعمالها لخدمة الاقتصاد الوطني.
كان الأولى، والأكثر وطنية، أن تستعمل المداخيل الجديدة من ارتفاع أسعار المحروقات لتوفير الإمكانيات المؤدية لتحسين المزج الطاقوي في بلادنا عن طريق النجاح في الاستثمار في الطاقات المتجددة التي لم يخبرنا بيان السياسة العامة عن أي نتيجة مرضية بشأنها، وبالتوجه للطاقة النووية السلمية، ولكي نطور السياسات ونملك الوسائل لتحقيق الفعالية الطاقوية في مجال العمران والنقل والصناعة وغير ذلك، حتى نخفف من التبعية للمحروقات وربما نترك شيئا منها للأجيال المستقبلية إن لم تنفذ منا في آجال متوسطة كما يخيفنا به المسؤولون الحكوميون بين الحين والحين دون أن يفعلوا شيئا لتأخير ذلك. كما يمكننا استغلال المداخيل الجديدة لحسن استكشاف واستغلال الخيرات الأخرى التي أشار إلى بعضها بيان السياسة العامة، مع ذكرٍ بائسٍ في طريقة استغلال أحد منها، وهي الذهب، بما يجعلنا نطرح ألف سؤال، عن تاريخ ومستقبل هذا المعدن النفيس الذي تتمتع بلادنا بثالث احتياطي منه في أفريقيا حسب تقرير مجلس الذهب العالمي. وبالرغم من عدم ثقتنا في الصرامة في تطبيق القوانين، فإننا نؤكد بأن التأخر في إصدار قانون المناجم أمر غير مفهوم ولا مقبول، ولعل وجوده يوفر للمقاومين من أجل حفظ ثروة البلد ما يساعدهم على الرقابة على الشأن العام في هذا المجال.
غير أن الاستغلال الأمثل والأفضل الذي يتيحه ارتفاع أسعار المحروقات هو تنمية شبكة المؤسسات الاقتصادية الجزائرية، كما ونوعا، وذلك بتوفير السيولة لتمويل المشاريع التنموية، ولا يكون ذلك أبدا عن طريق القطاع العام من أجل مزيد من التحكم كما تتوجه إليه الدولة وكأن المسؤولين يحنون إلى زمن الاشتراكية الستالينية التي جعلت البلد يجشو على ركبتيه، ويظهر ذلك التوجه من خلال العديد من الإجراءات والقرارات، منها اختي
ار إعادة هيكلة القطاع العمومي، حسب ما جاء في بيان السياسة العامة، من خلال شركة عمومية لإنتاج العربات وتركيبها تضم 40 مؤسسة، ضمن سياسات غامضة بشأن عام بخصوص مشكلة تركيب وصناعة السيارة في الجزائر، التي غرقت في صياغة دفتر شروط وكأن الأمر يتعلق بصناعة صاروخ عابر للقارات، بما جعل الجزائري متوسط الحال يكاد ييأس من امتلاك سيارته، ومن كانت عنده سيارة قديمة شد عليها بالنواجذ للغلاء الفاحش في سوق السيارات، الراكد أصلا. وفي كل الأحوال لا يزال القطاع الصناعي كله متواضعا تدل عليه مؤشرات نموه، كما يدل عدم استغلال المناطق الصناعية التي لا يوجد منها سوى 694 منطقة، وكثير منها غير مستغل وفق ما صرح به بيان السياسة العامة أنه تم استرجاع منها 1500 هكتار.
إنما تكون الطفرة الاقتصادية من خلال القطاع الخاص على أساس نظام متجدد على المستوى البنكي والنظام المالي والجمركي وعلى مستوى الضرائب، ومراقبة الإنجاز والجودة بعيدا عن الفساد الذي لا تقهره إلا الشفافية والتنافس الحر. ومن أراد أن يتأكد فلينظر إلى اقتصادات الدول الصاعدة هل صنعت طفرتها بغير القطاع الخاص؟ ونح في كل الأحوال إلى نرى في برنامجنا أن يبقى القطاع العام يستغل في القطاعات الاستراتيجية وفي القطاعات غير المرحبة كثيرا ذات الاحتياج الاجتماعي إلى أن تثمن، ويكون الرهان الأكبر في تحريك الاقتصاد على القطاع الخاص في كل المجالات الأخرى، ويضاف إلى القطاعين القطاع التكافلي المعبر عن انتمائنا الثقافي والمحقق للتضامن وتوسيع توزيع الثروة على المواطنين.
لعل النظام السياسي مهوس بالتجربة الاشتراكية الصينية، كما هو ملاحظ في تصرفاته السياسية ( كما سنبينه لاحقا أثناء حديثنا عن الشق السياسي)، فإن كان الحنين إلى الاشتراكية والأحادية يقود إلى التجربة الصينية فعلي المسؤولين أن يعلموا أن الصين ليس بلدا مغلقا كما يعتقده الكثير ، فهو ليس كما كان في عهد ماوتسي تونغ. صين اليوم دولة تقوم على الحزب الواحد حقيقة ولكن نظامه نظام مدني يُصنع رؤساؤه من خلال التنافس أو التوافق بين المدنيين لا غير، وتتبع لجنة الشؤون العسكرية المكتب السياسي ابتداء وآخرا، والتدافع بين الآراء والتوجهات والمصالح داخل الحزب كبير وليست الأمور في يد مركز قوة واحد مسيطر إلى الأبد، ولم تتطور الصين حتى غيرت نفسها من الداخل انطلاقا من النصف الثاني من السبعينات بيد رجال إصلاحيين انفتحوا على العالم وشجعوا القطاع الخاص إلى أبعد حدود واعتمدوا على التطور العلمي والإبداع الإداري حتى صارت الصين أكبر قوة اقتصادية تخدم الفكرة الرأسمالية العالمية، وقد عبر القائم بالأعمال الصيني عن السبيل الذي اتبعته الصين لتصبح قوة دولية في حفل بمناسبة ذكرى إنشاء جمهورية الصين الشعبية في سفارتها بالجزائر في ثلاث كلمات: “التجديد، ثم الغنى، ثم القوة” أي أن الصين لم تتطور حتى تجددت، أما أصحابنا فإنهم يريدون أن تتطور الجزائر دون أن تتجدد. ولست هنا بصدد التسويق للتجربة الصينية، فإنما نستفيد من تجاربها الإيجابية المدهشة ولكن لنا عليها مؤاخذات أساسية ليس المجال للحديث عنها. ولنا نموذجنا الخاص الذي يستند إلى تجربة صنعت حضارة عالمية عظيمة، وكل مآسي المنظومة الرأسمالية الحالية تدل على أهلية مشروعنا الحضاري من جديد، بشكل متجدد يستفيد من كل التجارب البشرية.
إن الجزائر بعيدة عن النموذج الصيني، وبعيدة كل البعد عن النماذج الناجخة العالمية القائمة، والحديث عن الانضمام إلى مجموعة البريكس مزحة كنت قد علقت عنها منذ سمعت عنها في وسائل الإعلام، فلا الناتج المحلي الخام يسمح لها بذلك، ولا المعايير العلمية والإدارية والقانونية والهيكلية وحجم الأسواق والمساهمة في التجارة العالمية تسمح لها بذلك. وأنا تعجبت حقيقة من هذا الطموح ونحن من أكثر الدول تخلفا في مجال الأنترنت سواء من حيث التدفق أو الهياكل أو النظم أو الكفاءة، أو حتى الثقافة، كيف نطمح لذلك والتجارة في العالم كلها بالدفع الالكتروني ونحن لا زلنا في مستويات متخلفة جدا، عبرت عنها وثيقة بيان السياسة العامة ذاتها التي تتحدث عن تعميم استلام 40 ألف تاجر لأجهزة الدفع في مقابل وجود مليون ونصف تاجر متحصل على سجل الكتروني ومليونين ومائتي ألف مسجل أي نسبة لا تتجاوز 2.6 %. ويدل على حالنا كذلك، بشكل مذل، ما حققه جيراننا في العالم العربي القريب والبعيد في هذا الشأن. إن مكاننا في مجموعة البركس الذي يمكن أن يقبل لأسباب جيوستراتيجية أولا قبل الاقتصاد هو العضو الملاحظ، وقد يكون ذلك مفيدا لكي نجلس في الأطراف نلاحظ كيف تتطور الأمم لعلنا نحاكيهم.
وإن مما يدل على الابتعاد عن معايير الحكم الراشد، والاعتماد على سياسة التحكم المانعة للإبداع الاتجاه أكثر فأكثر للمركزية المفرطة والتسيير الإداري للاقتصاد وتغييب السلطة التنفيذية لكل السلط وعدم وجود أي سبيل من سبل التحكيم العصري، فسلطات الولاة تتضخم أكثر فأكثر، وكثير من هؤلاء عاجز على اتخاذ القرارات لصالح التنمية خوفا من تهمة الفساد، أو القرارات المضرة بالتنمية لقلة الكفاءة أو النزاهة، وفي المقابل بلديات عاجزة أو تابعة أو غير ذات كفاءة، ومن كانت له الإرادة والمهارة للعمل والمبادرة لا تتوفر له الصلاحيات لذلك، ولا يبدو أنه توجد نية لإصدار قانون البلدية والولاية المؤجل دائما كما هو مذكور في بيان السياسة العامة، والخوف أنه حين يأتي يأتي لتكبيل المجالس لا لتحريرها كما هو حال النصوص التي انتُظِرت لتوفّر الحرية والحقوق والعدالة فكانت كلها لصالح السلطة التنفيذية لمزيد من الغلق والتحكم.
…. يتبع
٢ – بيان السياسة العامة: الغلق ومؤشرات اللاستقرار