لا شك أن أهم خلل في الجانب السياسي للبلاد هو ما نراه من التحولات والانقلابات المتتالية للأوضاع داخل منظومة الحكم ذاتها. نتابعها جميعا دون أن نفهم مغزاها. ولعدم توفر الشفافية والحق في الوصول إلى المعلومة صار ملايين الجزائريين يتغذّون بخصوصها من منابر اليوتيوب والوسائط الاجتماعية المختلفة التي سيطر عليها نشطاء يقيمون في الخارح يقولون أن مصادرهم من داخل المؤسسة العسكرية ومن مختلف مؤسسات الدولة. وحتى وإن لم نهتم بأخبار هؤلاء فإن القرارات الرسمية بشأن ما يحدث تجعل الحليم حيران.
حينما اهتز عرش الحكم بتأثير الحراك الشعبي فسقطت رؤوس كبيرة وبقي النظام قائما قلنا ذلك أمر طبيعي، من عادة الأنظمة الشمولية أن تضحي ببعض رموزها لتستمر في الوجود. ولكن أن تستمر الرؤوس تتساقط إلى اليوم فإن ذلك دليل على عدم استقرار النظام، وليقل المسؤولون والمساندون لهم والطامعون فيهم والخائفون منهم ما يشاؤون في تبرير هذه الظاهرة الجزائرية الخالصة، إنه عدم الاستقرار السياسي.
ولو نحسب عدد قادة أحزاب الموالاة وعدد الجنرالات وعدد الوزراء وعدد الولاة وعدد مسؤولي المؤسسات الذين سُجنوا أو هرَبوا أو هم تحت الرقابة القضائية لقلنا بأنه لم يكن أحد إذن صالحا في هذه الدولة. ماذا نقول للأجيال عن تاريخنا المعاصر حينما يتداول على قيادة المخابرات الخارجية والداخلية عدة ضباط سامين في وقت قصير، أكثرهم أقيلوا ودخلوا السجن بتهم خطيرة تجعلنا نخاف فعلا على حال دولتنا من النظام الذي يسكنها والسلطة التي تحكمها؟
نكون في فترة ما تحت سلطة ضابط سام يراقبنا ويتجسس علينا وربما يكيد لنا المكائد باسم الوطنية وتحت عنوان حماية الدولة، ثم فجأة يصبح هو المجرم وهو المتآمر على الدولة أو هو الفاسد ويدخل السجن. ولو كانت الحالة عابرة لقلنا إنما الناس بشر ولا بد أن ينحرف بعضهم، ولو كانت المناصب التي وصلوا إليها في المراتب الدنيا، التي لا تتطلب تدقيقا في سِيَرهم وسوابقهم وعلاقاتهم ومستوياتهم، ربنا نقول لا حرج في ذلك إنما هم من عموم الناس الذين فيهم الصالح والطالح.
لا يفارق عقلي خصومةٌ وقعت بيني وبين أحد الأصدقاء حول شخصية وصلت إلى مراتب عليا في الدولة، كان يريد صاحبي أن يقنعني بكل الوسائل، “المقبولة وغير المقبولة”، بأن ذلك المسؤول رجل دولة، نزيه، ومن التيار الوطني الذي يجب أن ندعم أصحابه وتكون لنا علاقة بهم، ثم فجأة يقالُ هذا الرجل من منصبه ويصبح متابعا ويدخل السجن. لست أدري ماذا يقول صاحبي بعد أن سقط صاحبه؟
لا أريد أن أحكم على أيٍّ من هؤلاء المتابَعين، إنما هي ظلمات بعضها فوق بعض، لا يستطيع الغريب عن الدار مثلنا أن يفهم ما في داخلها، أو من صعد من أهلها كيف صعد ومن نزل في ما نزل. ولكن ربما بعد هذه الحادثة سيقف صديقي على حكمة موقفنا بأن لا نقترب بأي حال من الأحوال من صراعات الأجنحة داخل السلطة، فلا نُحسب على أي منها، ولكن نواجهها كلها عند الاقتضاء لمصلحة بلدنا، وحين يُحسن أيٌّ منهم لا نتهيب أن نقول بأنه أحسن في العمل الذي أحسن فيه لا أكثر.
إن موقف الفرجة الذي تعطيه لنا أخبار الصراعات والتعيينات والإقالات، والنزول من أعلى المراتب إلى أكثر السجون عتمة، ومن أعمق غار فيها إلى أعلى شرفات الحكم لا تثير فينا الفضول كما هو حال كثير من النخب الجزائرية، ولكن تجعل قلوبنا تتقزز إلى حد التقيؤ ، وتجعل صدورنا تغلي من الغضب لما آل إليه بلدنا. لا شك أن المؤسسة العسكرية تسير بقاعدة الانضباط ولم نصل بعد إلى الخوف على وحدتها، ولكن ما هو حجم الضرر الذي أصاب أمننا ومصالحنا ما دام العديد ممن كانوا مسؤولين عن الأمن صاروا متهمين بتهديده. إنه لا ينفع أن تتعامل النخب مع المؤسسة العسكرية من منطلق الطمع أو الخوف، فيقول بعضهم لا يوجد مشكل داخل المؤسسة، فمن أخفى داءه قتله.
هذه المؤسسة مؤسستنا جميعا، وقد بينت هذه الأحداث بأن من فيها ليسو بالضرورة أكثر وطنية ممن ليسو فيها. ومن فيها وعلى رأسها بشر يصيبون ويخطئون، ويأكلون الطعام ويتنفسون ويمشون على أديم الأرض كغيرهم من ولد آدم، وهم ليسو فوق المساءلة، وإن بقيت الثغرات مفتوحة إلى هذا الحد وهذا المستوى ومتكررة في الزمن فهم ليسو في مستوى المسؤولية الملقاة عليهم. وهذا الكلام الذي أكتبه هو الكلام الوطني الحق، أقوله وأنا داخل البلد، ولا يوجد غير الله من أعتمد عليه، ولا نريد بذلك تحديا غير أن نقول ما نعتقد أنه حق وأنه مفيد.
وما يحدث في المؤسسة العسكرية يحدث مثله في المؤسسات المدنية، لم تصبح ثمة معايير معلومة يمكن أن نراقب على أساسها السلطات العمومية، يُقال بعضُ المسؤولين، ومنهم من يدخل السجن، ثم فجأة يعودون إلى المسؤوليات المركزية والمحلية العليا، بل إن فيهم من تشيع عنه تهمةُ الفساد حتى نفرح حين يُقال، ثم في مرحلة لاحقة يُعاد إلى منصبه. وهناك من نعرف نزاهتَهم واستقامتهم ولكن يُبعدون إلى الأبد.
ومن عجائب معايير التعيين في المناصب اعتلاء بلاطوهات الفضائيات فرأينا نخبا أظهروا حساسياتهم في الإعلام من الأحزاب، وبعضهم برعوا في التزلف، فصاروا وزراء ومدراء دون أي اطلاع على مستوى الكفاءة والنزاهة لديهم، فرأينا منهم من تسبب في خيبةِ أملِ من عيّنه فأقيل بعد ذلك، ومنهم من لا يزال يتسبب في خيبات الأمل، ويقع في الأخطاء المتتالية، ويظلم الإطارات ويعتدي على الضعفاء، ولا زال ثابتا في منصبه، ربما لا لشيء إلا أنه ثبت على التملق وصارت له “علاقات”!
أما أحزاب الموالاة فلا أقول عنها شيئا لأن قادتها زملاء ولكن أرجو أن يُعبّروا يوما ما علانية عن حجم التهميش وأحيانا الإهانة لبعض إطاراتهم، بما يتحدثون به في لقاءتهم المغلقة. ولكن بغض النظر عن الاحترام الذي يجب عليّ أخلاقيا أن أظهره لهم، وأن نتناصح بيننا بشأنه، حتى نبني بيئة سياسية جادة تحفظ الجزائريين من الكفر بالأحزاب والسياسة والساسة جميعهم، هم في المحصلة ضحايا النظام السياسي كذلك. كم من مرة سمعت قادة جبهة التحرير يقولون نحن لم نحكم أبدا، سمعتها من الأجيال القديمة التي اعتبرت أن الحزب الواحد كان مجرد جهاز، ولا يزال البعض من الأجيال الجديدة يعتبرونه كذلك. وبالرغم من أنني لم أقبل هذه الحجة من كبار قادة جبهة التحرير حين تعرفت عليهم أكثر في المجلس الشعبي الوطني وفي مؤسسة القدس العالمية وفي منظمة الفضاء المغاربي والعديد من المناسبات في الداخل والخارج، وفي مختلف محطات الكفاح المشترك من أجل ثوابت الأمة والوطن، فإنني لا أنكر أبدا فضل بعض كبار هؤلاء علي، حيث لا يُقدر بثمن ما استفدته من خبرتهم، وعقولهم، ومعلوماتهم، ومعاني الوطنية الصادقة التي التمستها فيهم، فهم يذكرونني بوالدي وأعمامي وأخوالي، رحمهم الله جميعا، الذين تشربت من قصص جهادهم ونضالهم، ومن استقامتهم، المعنى الحقيقي للوطنية، ولكن واسفاه! أين ذلك الجيل؟ وأين ذلك الزمن؟
ومما لاحظته في هذا الجيل أنه رغم اعتزازهم بتاريخهم النضالي في جبهة التحرير، فلم يكن لهم نفس حزبي متعصب، وبالرغم من أننا ننتمي لحزب عريق آخر كانوا يروننا امتدادا لهم. وكم تأثرت حينما لمت أحدَهم عن تراجعه عن الاهتمام بمراتب الصدارة في جبهة التحرير كضمان لخطها الوطني الأصيل، حيث قال لي: “يا سي عبد الرزاق احنا تعبنا والمشعل راه في ايديكم”، أي أنه اعتبرني امتدادا له، بسبب الانتماء الوطني المشترك، بالرغم من أني أعارض حزبه سياسيا.
إنه لا يقلقنا أبدا أن تكون جبهة التحرير حزبا سياسيا قويا، ولا أي حزب من الأحزاب الوطنية والإسلامية، فقوتها ضمان لهوية البلد والوفاء لبيان أول نوفمبر. بل لا يقلقنا أن تقوى الأحزاب العلمانية كذلك، فقوتها يدخلها التنافس الديمقراطي ويخرجها من حالة الانغلاق التي تلجأ إليها الأقليات الأيديولوجية عادة. إنما الذي يقلقنا هو ما يقوم به النظام السياسي من عمل منهجي دؤوب لإفساد الأحزاب وإضعافها وابتزازها والتآمر عليها ومحاولة استبدالها بشخصيات وأوعية اجتماعية موالية فارغة وانتهازية.
كنت في يوم من الأيام في ” جنان الميثاق” أيام جلسات الحوار مع الرئيس السابق زروال بين جبلين كبيرين، الشيخ محفوظ نحناح والأستاذ عبد الحميد مهري، أسمع حوارهما الراقي، يُسمِّي الأستاذُ مهري الشيخَ محفوظ “شيخنا” وهو أكبر منه سنا، والشيخ محفوظ، الأستاذ الجامعي ومربي طبقات قيادية متتالية والمفكر المحاضر في كل أنحاء العالم، يقول للأستاذ مهري “أستاذ الجيل”. سمعت في هذا الحوار الأستاذ مهري يقول للشيخ محفوظ: “إن النظام السياسي مخطئ حين يعتقد بأنه يخدم الدولة بعمله على إضعاف الأحزاب”. وقد تحقق استشراف الأستاذ مهري فعلا، لم تجن الدولة بإضعاف الأحزاب إلا الخراب الاقتصادي والاجتماعي والصراعات الثقافية وتكوين المافيا والعصابات.
د. عبد الرزاق مقري
رئيس حركة مجتمع السلم
تعليق