لقد علمتنا الثورة التحريرية الجزائرية أنه لا يمكن تحقيق النصر على الاحتلال دون وحدة وطنية، جبهة وطنية واحدة، وأفضل طريق للوحدة هو الحوار والمفاوضات، ولكن حين يكون الخلاف حول استراتيجية المقاومة، فلا يؤمن بها أحد الأطراف المعنية، يصبح الحديث عن الوحدة حديثا عبثيا لا يتعلق إلا بالصورة والمشهدية وكسب الموقف وربح الوقت،
وكل اتفاق وحدوي لا يقوم على أساس رفض الاحتلال ومواجهته بالقوة ثم بكل أنواع النضال لا يكتب له النجاح، ومن يتراجع عن اتفاق الوحدة عادة إنما هو الذي لا يؤمن بالمقاومة، أو حينما يبالغ هذا الأخير في تعطيلها، ولكن الوحدة ستتحقق يوما ما ما دام الحق وراءه طالب، ستتحقق بالأمر الواقع في الميدان ثم ينجز وعد الاستقلال … ولو بعد حين.
وفي هذا السياق بدل أن نحرج الفلسطينيين بدعوتهم لوحدة لا يمكن أن تتحقق، مهما كانت المحاولات والإعلانات والنوايا الطيبة، يجب أن نسألهم أولا عن موقفهم من الاحتلال وعن استراتيجية المقاومة المسلحة كأولوية في الكفاح ضد الاحتلال، كما هي تجارب البشر في تصفية الاستعمار، وعلى رأسها التجربة الجزائرية، وفي ذلك كله يجب أن يُسألوا عن سيادتهم على قرارهم.
زارني عزام الأحمد عضو قيادي بارز في حركة فتح، وممثل عباس في الإمضاء عن إعلان الجزائر للم الشمل في مكتبي ذات يوم فلامني على انحيازنا لفصيل واحد من الفصائل الفلسطينية، فأعلمته أن نشأتي وطفولتي كانت فتحاوية، نتغنى بأناشيدها ونتابع نداء صوت فلسطين في الإذاعة الوطنية ” لتحرير فلسطين كل فلسطين” ثم قلت له: ولكن حينما ظهر من تبنّى المقاومة أكثر منكم ودفع الشهداء من الأهل والأولاد ومن أنفسهم صرنا نسندهم بما نستطيع، ونحن نسند كل مقاوم فلسطيني كائنا من كان”. بدأ الأحمد يتحدث – كما هو متوقع – عن بطولات مقاومة فتح وعن سبقها وعن الرصاصة الأولى وما شابه ذلك. ولكن حينما فاجأته بسؤال استنكاري عن مسألة التنسيق الأمني، وبينت له أن التورط في هذا العمل المشين لا يليق بأصحاب الرصاصة الأولى لم يجد شيئا ذا بال يقوله لي.
لا أحد منا كجزائريين يستطيع إخفاء إعجابه بأبي عمار ياسر عرفات وبسبقه وبنضاله وصبره وثباته، ولكن رهانه على المفاوضات عبر مسار أوسلو كان وبالا على القضية الفلسطينية. ولا أحد من جيلنا يستطيع نزع التعلق العاطفي بفتح الرصاصة الأولى ولكن استمرار قادة فتح وقادة منظمة التحرير في زعمهم التمثيل الحصري للشعب الفلسطيني رغم تغير المعطيات على الأرض وفشل رهانهم على المفاوضات لا يستساغ أبدا، والعجيب أنه برغم الإجماع الفلسطيني والعربي والإسلامي على الفشل الذريع لهذه المفاوضات لا تزال قيادة فتح ومنظمة التحرير تراهن عليها، بل إن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لا يتحرج في الإعلان، صراحة وبكل وضوح، بأنه لا يؤمن بالعمل المسلح ضد الاحتلال! في مصادمة تامة للتاريخ وللأعراف السماوية والدولية وللشعب الفلسطيني ذاته، وللساحة الجهادية المتفاعلة في الضفة الغربية.. وليس غزة فقط!
لن يشفع لفتح فضلها السابق كما لم يشفع لمصالي الحاح سبقه في الدعوة للاستقلال، لن يشفع لفتح سبقها ما لم تزينه بما بدأت به فتتخلى عن أوسلو وما يشبهه في نهج المفاوضات العدمية، وإلا فإنها ستخسر كل شيء، بل ربما سيأتي اليوم الذي يتخلى فيه عنها من يدفعها إلى ما هي عليه من سياسات خاطئة، كما كانت نهاية من تورط في التنسيق الأمني مع الاحتلال الفرنسي في زمن ثورتنا المجيدة. إن لنا في التجربة الثورية الجزائرية في ما سردناه في المقال السابق ما يؤكد فكرنا وتوجهنا حقا. إنه لا مكانة للسبق ولا للزعامة التاريخية، ولا حتى للتأييد الدولي حينما يتعلق الأمر بمقاومة الاحتلال، إنما القيادة كل القيادة، والزعامة كل الزعامة لمن يقاوم فعليا على الأرض، وكل من يتآمر على المقاوم، وينسق مع الاحتلال ضده هو خائن مهما كان تاريخه ومرتبته، ومهما كانت مبرراته، وحاشا شرفاء فتح والمنظمة أن يكونوا هكذا.
لا يعلم عزام الأحمد حين التقيته في مكتبي أن ثمة من المجاهدين من أقربائنا وجيراننا في حي العرقوب المجاهد بالمسيلة (مسقط رأس محمد بوضياف رأس مجموعة 22 الذين فجروا الثورة) من قُتل على الأيادي الآثمة لقوات (م . ب) أثناء الثورة، في سجون سلطته بسجن البراردة ومعتقل تامسة، أو في حواجزه الأمنية والعسكرية، فأنا أعلم جيدا ما معنى التنسيق الأمني مع الاحتلال. لقد كنت أسمع عن مأساة ضحايا جيش (م. ب) في شبابي بعد الاستقلال، ومن ذلك مأساة الشاب اليتيم صلاح الدين، وحيد أمه الثكلى قريب، الذي قَتل العملاءُ والده في حاجز نواحي عين الحجل بولاية المسيلة حين كشفوا انتماءه لجبهة التحرير.
وعلى هذه الخلفية لا أؤمن على الإطلاق بأنه يمكن تحقيق الوحدة بين الفلسطينيين ما دام أحد الطرفين يريد تحرير كل فلسطين ويقاتل من أجل ذلك، ويدفع الأثمان غالية، ويسير على نهج ثورتنا النوفمبرية المباركة التي رفضت التنازل عن أي شبر من الجزائر حين عرض ديغول فصل الصحراء عن الجزائر، والطرف الآخر تنازل عن قرابة 80% من بلاده ويريد تحرير الباقي بالمفاوضات مع قوة احتلال لا تعترف أصلا بوجود فلسطين ولا بعودة أهلها إلى ديارهم وتستعمل المفاوضات لمزيد من الاستيطان وتهويد القدس وحصار غزة وقصف المدنيين العزل وتصفية قادة المقاومة وتدمير الإنسان الفلسطيني وتشتيت الأمة العربية. ويزيد هذا الطرف المفاوض في تعميق الخلاف بين الأشقاء بملاحقة المقاومين وتعذيبهم في سجونه، بل وقتلهم.
إن جر حركة حماس وباقي فصائل المقاومة لكي يسيروا على نهج المبادرة العربية ويتنازلوا عن جزء عزيز من أراضيهم وديارهم جريمة لا تغتفر ولا تُمحى من التاريخ. من أراد من العرب أن يسير في ركب التطبيع مع الكيان سواء اعترف هذا الكيان المحتل بالمبادرة العربية أو قبل ذلك فذلك شأنه، وأمره عند الله وأمام التاريخ ومع الشعوب العربية والإسلامية الثابتة الصامدة، ولكن ليس من حقه أن يكون وصيا على أهل الأرض، وليس مقبولا أن يبتزهم ويستغل قلة حيلتهم وفقرهم واحتياجاتهم الأساسية وهوانهم على كبّار العالم فيدفعهم ليعترفوا بالمحتل ويتنازلوا عن حقوقهم. ومن أراد المساهمة في عمل تاريخي شريف عظيم يؤدي إلى الوحدة بين الفلسطينيين عليه أن يستبين أمر الفصائل في شأن إرادة التحرير وموقفهم من المقاومة المسلحة، وأن يسألهم عن سيادتهم على قرارهم أولا.