الرئيسية مقالات الدكتور عبد الرزاق مقري عثمان سعدي رحمة الله عليه.. الشاوي المعتز بانتسابه للعروبة يترجل

عثمان سعدي رحمة الله عليه.. الشاوي المعتز بانتسابه للعروبة يترجل

كتبه كتب في 30 نوفمبر 2022 - 6:10 م
مشاركة

إنه المجاهد والمناضل الفذ اللموشي الشاوي التبسي الحر الذي لم يغير ولم يبدل حتى توفاه الله وهو سن 92 عاما رحمه الله رحمة واسعة، إنه أحد أستاذتنا الكبار الذين ساهموا في وعينا الوطني وفهمنا لطبيعة الصراع الحضاري القائم في بلدنا.

لقد كان ثمرة من ثمار النهضة الجزائرية الباديسية حيث تخرج من معهد الشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1956، وكان ثوريا بتلك الروح التلقائية التي صاحبته طيلة حياته فالتحق بالثورة التحريرية منذ البداية وكان من طلائع جبهة التحرير الوطني منذ تأسيسها وأمينها الدائم في القاهرة أثناء الكفاح المسلح.

لم يقبل أن يبقى شيءٌ يربطه بالإدارة الاستعمارية بعد المجازر الهمجية الاستعمارية في 8 ماي 1945 فهجر المدرسة الفرنسية. ولحبه للغة القرآن منذ شبابه أخذ الإجازة في الآداب من جامعة القاهرة أثناء الثورة والماجستير عام 1979 في دمشق والدكتوراه من جامعة الجزائر عام 1986.

اشتغل رحمه الله في السلك الدبلوماسي لسنوات طويلة فاشتهر مقامَه في بلدين عربيين مهمين معروفين بدعمهما الكبير للثورة التحريرية هما العراق وسوريا فدوّن في كتابين ولع نخبها بالكفاح الجزائري في 255 قصيدة من العراق أبدع رسمها 107 شاعر وشاعرة عن بطولات وتضحيات أشقائهم الجزائريين، و199 قصيدة من سوريا خلد فيها 64 شاعرا وشاعرة روعة وأمجاد ملحمتنا النوفمبرية العظيمة.

وبعد خروجه من المهام الرسمية واصل كفاحه داخل حزب جبهة التحرير الوطني وفي المجلس الشعبي الواطني فكان عضوا في لجنة التعريب الرسمية مع عدد من الرجال الكبار الذين ندين لهم بالوجهة الإسلامية العربية التي أخذتها الجزائر على مستوى المنظومة التربوية وقانون الأسرة وتعريب التعليم، رغم النقائص الكبيرة في هذه المسارات التي تسببت ولا تزال تتسبب فيها القوى الموالية للاستعمار.

وكم هي كبيرة وتاريخية تلك اللحظة التي حكى لي عنها أحد هؤلاء الأبطال حينما أنهوا ملف التعريب ولم يبق إلا أن يُعرض لاعتماده رسميا فنزل عليهم ضباط ببذلاتهم العسكرية ( يعرفهم جيلنا باسم “ضباط فرنسا”) لمنع عرض الملف حتى أدّت المواجهة إلى التشابك بالأيدي، وكان عثمان سعدي أحد الحاضرين في المشادة التاريخية.

لقد أهله مستواه العلمي لأن يكون دفاعه عن الثوابت الوطنية على أساس أكاديمي، مما زاد في مصداقية آرائه وجعل كتبه مراجع مهمة يعتمد عليها الباحثون، ويستند عليها المناضلون أمثاله من أجل أصالة هذا الوطن ومكانة اللغة العربية فيه، ومن تلك الكتب “قضية التعريب في الجزائر: قضية شعب ضد الهيمنة الفرنكوفونية” – 1990، “معجم الجذور العربية للكلمات الأمازيغية” – 2007، تحقيق كتاب الشيخ البشير الإبراهيمي “التراث الشعبي والشعر الملحون” – 2010، بالإضافة إلى عدد من كتب القصص والشعر والتاريخ.

بعدما خرج عثمان سعدي من مواقع المسؤولية الرسمية واصل نضاله في المجتمع، من خلال الكتاب والمقالة والمحاضرة وحضور المؤتمرات والندوات التي تنظمها الأحزاب والمنظمات المؤمنة بما يؤمن به بشأن الثوابت الوطنية، وكان من أفضل ضيوفنا في فعالياتنا الثقافية والسياسية في حركة مجتمع السلم، وكانت جمعية الدفاع عن اللغة العربية التي أسسها وترأسها هي التي اشتهر بها في ساحات الدفاع عن اللغة العربية.

لقد كان عثمان سعدي من البربر الأقحاح ولكنه آمن بأن اللغة العربية واللغة البربرية شقيقتان تنتميان إلى وعاء لساني واحد وحضارة واحدة، تماما كما كان يعتقد شيخه عبد الحميد بن باديس الصنهاحي الأمازيغي صاحب مقولة “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب” والأبطال الذي فجروا الثورة، عربيهم وأمازيغيهم، بعد أن حددوا الهدف بأن الدولة التي يقاتل الجزائريون من أجلها في سبيل الله جزائرية ديمقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية، وأن الوحدة الإقليمية المنشودة هي “وحدة شمال افريقيا ضمن إطارها الطبيعي العربي الإسلامي”.

لقد كانت خيبة أمل عثمان سعدي كبيرة حين أدرك حجم الاختراق الاستعماري المتصاعد في أجهزة النظام السياسي وبعض هياكله الحزبية والجماهيرية، فصار معارضا صلبا لكل سياسات التفريط الرسمية في حق اللغة العربية ومنها تجميد قانون تعميم استعمال اللغة العربية وتحدّث مسؤولين كبار بلغة المستعمر في المناسبات الرسمية ومع شعبهم، وغير ذلك من السياسات الممنهجة لدى اللوبيات الاستعمارية داخل الدولة وفي المجتمع لاستمرار الوصاية الفرنسية على الجزائر. وقد ناله رحمه الله كثيرا من التضييق والملاحقة من هؤلاء الذين استغلوا الفتن التي أصابت الجزائر لصالحهم إذ صار لهم نفوذ تجبروا به على كثير من الوطنيين الصادقين من مختلف التيارات.

وفقنا الله لحضور الصلاة عليه في مسجد حمزة بدالي ابراهيم ثم مرافقته إلى مثواه الأخير في مربع الشهداء في مقبرة العالية فرأينا نهاية جيل كامل من أمثاله سبقوه إلى رحمة الله فلم نلحظ إلا عددا قليلا ممن بقي منهم، ولم نر حضورا كبيرا للجيل الجديد الذي لم تعمل الجهات الرسمية ووسائل إعلامها على التعريف به وفتح المجال له في الفترات الأخيرة من عمره رحمه الله رحمة واسعة، ولكنه هو اليوم عند العادل الرحمن الرحيم، فأسأل الله تعالى أن يتقبل جهده وجهاده وكفاحه ونضاله وأن يجعل كل ما بذله حسنات جارية له، أما الإسلام والعربية فإنهما محفوظان بحفظ الله تعالى القائل (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) ومما يثلج الصدور بروز أجيال شبابية جديدة متمسكة بأصولها وثوابت وطنها في كل أنحاء البلاد من العرب والأمازيغ ولله الحمد والمنة.

  • كان عثمان سعدي رحمه يستعمل كلمة “البربر”، وهي الكلمة التي كنا نتستعملها جميعا إلى غاية نهاية الثمانينيات قبل أن تتغير وتصبح كلمة أمازيغ هي المعتمدة رسميا ثم شعبيا. ولكن كلمة ” البربر” هي الأكثر رسوخا في كتب التاريخ. احتراما لذكراه، والتزاما بالسنة بأن يدعى المرء بأحب الأسماء إليه ثبّتنا ما كان ينسب نفسه إليه، فشكرا لمن نبهنا.

د. عبد الرزاق مقري          

رئيس حركة مجتمع السلم

تعليق