ليست الأفراح الظاهرية والحفلات المتكلفة هي المهمة في تصرفات الإنسان حين يكون في حالة الانتقال بين عامين من عمره، كما أن اللامبالاة العاجزة والانعزال الكئيب تجاه توالي الأعوام هو لا شك صفة الإنسان السلبي الذي لا يستفيد من الوقت ولا يؤثر في الحياة.
إن الكياسة في تصرفات الإنسان، وهو يلحظ ساعات الزمن تُجهز على عام يحتضر لتصنع عاما جديدا أن يحصي أعماله وخيباته في العام المنتهي، فيفرح بما أنجزه من خير وبر وما حققه من مصالح لنفسه وأهله وبلده وأمته، ويندم عما أقترفه من معاصي، ويحزن لما ارتكبه من أخطاء ويأسف عما فاته من مكاسب وما ضيعه من فرص. يحاول أن يقيّم أوضاع بلده، وما زاد فيه وما نقص، على معايير علمية واقعية، بعيدا عن النشرات الرسمية والخطابات الشعبوية، فيهلل لكل صالح جميل، يثمنه وينظر كيف يحفظه ويطوره، ويجزع ويغضب عن كل ما يسيئ للوطن، في حاضره ومستقبله، ويستعد لإنكار ذلك المنكر، بقدر استطاعته، لوجهه تعالى أولا، ثم مروءة ورجولة وغيرة وطنية، ثم حمية ضد ذوي الفساد والجاهلية. كما يرمي ببصره إلى آفاق الأوضاع الإقليمية والدولية، وكيف هو حال الأمم، نزولا وصعودا، وما هو تأثير الأحداث الكبرى في السنة الحالية على مشهد السنة المقبلة، وما هو حظ بلده وأمته في الهوامش التي يفتحها التدافع الدولي.
ثم يسأل نفسه، هل يمكن لي أن أساهم في تلك التحولات لصالح الحق وضد الباطل، لنصرة الإسلام والمسلمين، ولو بالفهم وبالنية، أو بالموقف أو الفعل المقدور عليه، معتقدا بأن ثمة قضية لا تُعدمُ طريقة لخدمتها، في كل الأحوال، هي القضية الفلسطينية التي تُنصر نصرا عظيما بتراكم الأعمال الصغيرة من دعم بالقول الثابت، وبالمساهمة المالية الدائمة، والمشاركة في المناشط الناصرة، والدعاء والاستنصار بالله لها.
وبعد التقييم، ينظر الإنسان الفعّال، المهتم بتوالي الليل والنهار، وتتالي الأعوام وتعاقب الأزمان إلى السنة التي تولد بعزيمة جديدة صارمة لاستدراك ما فات وتحقيق ما يبغي وما يريد من الأعمال الصالحة ذات النفع الخاص والعام، له ولذويه، ولأبناء بلده، وللمسلمين والناس أجمعين، متوكلا على الله موقنا بعونه، متسلحا بما يملك من خبرات وقدرات، قد أحصى عيوبه ونقاط ضعفه فقرر علاجها وإزالتها، وقد درس محيطه وما فيه مما يضره في نفسه وأهدافه، من عدم اليقين الذي هو ميزة العصر الحديث، وعدم العدل والإنصاف في كل أنواع المنافسة الذي هو صفة الوقت الراهن، وصعوبة الكسب الشخصي وتعقد دروب الإصلاح والتغيير الجماعي الذي هو خصيصة الزمن الراهن، وكثرة المظالم وانتشار الشرور والفساد في كل مناحي الحياة.
غير أن ذلك الإنسان الفاعل قد رأى في نهاية السنة ما لم يره المتشائمون من فرص كبيرة تقابل تلك المخاطر، منها فرص رفع الكفاءة والمهارات في مختلف المجالات، وتطور التكنولوجيا ووسائل الاتصال وسهولة الوصول إلى المعارف وتعلم اللغات، وتنوع أنماط الرزق الحلال وبروز أشكال جديدة من الاستثمارات، وتطور بديع في بناء المؤسسات وأنماط متجددة لبناء المشاريع والمؤسسات والقيادة والإدارة لا تتحكم فيها قوى الشر والبغي مهما فعلت، متهللا بالوعي المتصاعد للشعوب ضد الظلم والاستبداد، والنماذج العديدة لمصارع الظالمين، وعجز الحكام المتسلطين على ضمان سعادة شعوبهم، وخوفهم الدائم على كراسيهم رغم قوة جبروتهم، مستفيدا من النماذج الناجحة في النضال السياسي والإصلاح الاجتماعي والحكم الرشيد، في بلاد المسلمين وغير المسلمين، منشرح الصدر بتراجع قوى الاستكبار الغربي أمام صعود الأقطاب الدولية والإقليمية، عامر القلب بالفأل الجميل لمستقبل الأمة الإسلامية، الصامدة وحدها في وجه الانحرافات الأخلاقية العالمية المدمرة للفطرة الإنسانية المؤذنة بأفول الحضارة الغربية المادية، وبالظن الحسن بمستقبل زاهر للقضية الفلسطينية أمام الأزمات الرهيبة للاحتلال الصهيوني في داخل مجتمعه وفي المعركة النفسية والديمغرافية والعسكرية في مواجهة قوى المقاومة المنجزة.
وبعد النظر والدراسة يتجه ذو العزيمة إلى تغيير حاله و العمل على تغيير محيطه بخطط، تجمع بين الصرامة والمرونة، عبر رسم مشهد مستقبلي لما يريد أن يكون عليه في نهاية السنة الجديدة، على أساس مشاريع عملية وأهداف قابلة للقياس يستميت في تنفيذها، أكثر الأحيان نَشِطا، وتارة أقل نشاطا وبعض الأحيان خاملا، ولكن دون انقطاع عن العمل أبدا وفق القاعدة النبوية: ” أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل” فلا يسمح بتوقف السير ولو اضطرته الظروف إلى فتور لا يخرج من الطاعة، أو تريث لا يقتل العمل، على سنة المصطفى في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (( إنَّ لكلِّ عملٍ شِرَّةٌ ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ ، فمن كانت شِرَّتُه إلى سنَّتي فقد أفلح ، ومن كانت فَتْرَتُه إلى غيرِ ذلك فقد هلكَ)).
وأحسن الخطط ما وُزعت أهدافها على محورين كبيرين يتفرعان على فروع أخرى أساسية. أما المحوران فهما ما يتعلق بالرؤية الشخصية وأهداف التطوير الذاتي، وما يتعلق بالشأن العام وخدمة الغير.
يندرج تحت المحور الأول خمسة مجالات أساسية في حياة الإنسان: الروح والعقل والصحة والمهنة والحياة الاجتماعية.
يقتصر أغلب الناس عادة في التخطيط السنوي على المجال المهني والمداخيل المادية، وهو لا شك أمر مهم ومؤثر في مصير الإنسان يتطلب التفكير المستمر والتخطيط المحكم والمبادرة الشجاعة واقتحام الفرص وإتقان العمل ليأتي كل عام بمزيد من التوفيق والربح للجميع، له ولمؤسسته وشركائه وزملائه، وبمزيد من الدخول التي تضمن كرامة العيش للنفس والأهل والإنفاق على الطموح وسبل الخير والمحتاجين للعون. غير أن الحياة المادية وحدها لا تجلب السعادة، بل قد تكون وبالا على اللاهث وراءها دون توازن مع المتطلبات الأخرى.
إن النجاح الحقيقي هو تطويع النفس لتجنب ما نهى الله عنه والقيام بما أمر به، والفوز المطلق إنما هو الفوز بالجنة ورضوان الله العزيز الحكيم، فمن أعظم النصوص التي ترتبط بوقفة التأمل بين عامين ما يتعلق بالحالة الإيمانية والاستقامة السلوكية، ومن ذلك ما ورد في الحديثين الجليلين الصحيحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ : شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك.)) وقوله: ((لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ)).
فلا معنى للانتباه إلى نهاية سنة وإقبال أخرى ما لم يكن فيه محاسبة للنفس على هفواتها وإلزامها التوبة النصوح والعزم على عدم الرجوع إلى ما يفسد الدين ويجلب غضب الديان، ورسم برنامج تطوع النفس للالتزام بالأركان والواجبات على أحسن وجه، وعلى رأسها سلامة القلب وإقامة الصلاة، ثم المسارعة إلى النوافل قدر الإمكان، حتى تصبح الطاعة عادة سلسة في الحياة يأنس بها القلب وتلين لها الجوارح.
ومن أسباب ارتقاء الإنسان وصلاح دينه ودنياه ازدياده في العلم، في ما يتعلق بحسن عبادته وفهمه لدينه وما يتصل باختصاصه ومجال عمله أو وظيفته، ثم ما يتعلق بالمعارف والمهارات التي تساعده في النجاح في ما أهمه في حياته في العمل التطوعي ومختلف دروب البر والخير لخدمة أهله وبلده وأمته، ثم في كل ما يزيده فهما وحكمة وإدراكا لما يحدث حوله حتى تكون أحكامه عادلة، ومواقفه فاعلة، وأعماله محكمة. ويكون التحصيل العلمي من خلال التعلم المنهجي الأكاديمي الذي لا سن له، ومن خلال المطالعة الدائمة والتعلم المستمر، في كل أطوار العمر بجميع الأشكال المُحصِّلة. وما يجعل العلم يرسخ في الذهن ويتحول إلى حقيقة ماثلة، تحويله إلى سلوك عملي، ثم دفع زكاته بالتعليم والتدريس والكتابة والتأليف والمحاورة النافعة مع أهل الفكر والعلم. فمن انتبه في آخر السنة إلى ضياع العمر دون زيادة العلم فليجعل لنفسه برنامجا تعليميا يرفع به مكانته وينمي به قدراته ويتميز به عن الأقران، وصدق الله العظيم إذ يقول: (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون))، وفي قوله: (( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)).
ولا يمكن للإنسان أن يحقق شيئا كثيرا، في الغالب، من النجاح في شؤونه المهنية، أو في حياته الدينية، أو في مدارجه العلمية، ما لم يكن سليم الجسم، خاليا من الأمراض المقعدة أو المعطلة أو المؤذية. ومن العجائب أن المرء لا يشعر بأهمية الصحة في إنجاز مهامه وتحقيق أمانيه إلا حينما تحيط به الأمراض وتفتك به الأسقام. إنه لم يعد أحد يجهل، بسبب انتشار الثقافة الصحية، كيف يحافظ الإنسان على صحته ويضمن رشاقة جسمه ويطيل أمد قوته، من خلال الرباعية الذهبية المعلومة لدى الجميع، الأكل الصحي الخالي من المواد الضارة والقائم على التوازن الغذائي وعدم الإسراف، والحركة الدائمة للجسم من خلال الرياضة التلقائية المرتبطة بطبيعة العمل ونمط الحياة أو الرياضة المبرمجة وعلى رأسها المشي و العدْو، والتحكم في ضغوطات العمل والقلق والانفعال ومختلف الهزات والأزمات النفسية، مع الوقاية من الأمراض بالفحوصات الدورية واستكشاف الأسقام قبل استفحالها ومعالجتها بجدية واهتمام. فمن كان مريضا في آخر السنة فليداوي نفسه، ومن كان معافا فليقوي قدراته البدنية وليتحتط لأمراض الخمول ببرنامج يحفظ به صحته على نحو ما ذكرناه يشرع فيه فورا في الأسبوع الأول من السنة الجديدة.
إن الحياة لا معنى لها ولو كان المرء ميسورا في ماله نشيطا في عباداته سليما في جسمه، إن كانت أحواله العائلية مأزومة ووشائجه الإجتماعية ممزقة. لا يكون قد أدى واجبه ذلك الذي قيّم ما مضى وخطط لما يأتي إن لم يصارح نفسه بخصوص علاقاته بغيره، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (( خيركم خيركم لأهله)) وإذ يقول: (( الدين المعاملة)) وفي قوله: (( خير الناس أنفعهم للناس))، والنصوص في ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى يجمعها قول رسول الله في حجة الوداع: (( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه))، بل إن الله يغفر يوم القيامة ما بينه وبين العبد ولا يغفر للعبد ما عليه من حقوق للعباد، إلا بالصفح، أو أن يأخذوها منه في الدنيا أو يوم الحساب. فلا يكون الإنسان قد عبَر بين عامين بسلام ما لم ينظر إلى حاله مع والديه وزوجته وأولاده وأرحامه وجيرانه وأصحابه ورفاقه، وكل من لهم عليه حق بنص شرعي أو عقد أو ميثاق، فيعالج على الفور ما يمكن معالجته ويخطط لإصلاح ما بينه وبين غيره بعزم وصدق حتى تكون بيئته الاجتماعية سليمة مستقرة هانئة نامية نافعة له ولغيره.
أما المحور الثاني المتعلق بدور الإنسان في الشأن العام وخدمة الغير فهي تبدأ بمراجعة الغايات الكبرى التي يعيش لأجلها، وما هي مكانة بلده وأمته في قلبه وفي حياته، وهل هو كائن يعيش لنفسه، لا يهمه ما يحدث حوله، غير واع بتأثير التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاقليمية والدولية على مستقبله ومستقبل أهله وأولاده. فإن شعر بهذا التقصير المشين وهو يغادر السنة المنصرمة فليفزع إلى خطة جديدة للسنة المقبلة يعبد بها ربه بفعل الخير ونصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق قوله تعالى: (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأؤلئك هم المفلحون)).
يؤطر فعل الخير في الشأن العام مساران متلازمان، أولهما الاهتمام بالشأن السياسي، فلا إصلاح لشؤون الناس دون صلاح السياسة وإقبال المصلحين عليها، وإنما يسعى المستبدون لإفساد السياسة وتشويه الساسة وغلق مجال الفعل السياسي ونشر اليأس في الحياة السياسية من أجل بقائهم على كراسيهم أبد الآبدين فلا ينشأ بين الناس بديل سياسي يهدد عروشهم، وأكبر حالة وعي تحدث للإنسان في بداية السنة الجديدة أن يتصالح مع السياسة على أصولها الحقة، القائمة على الصدق والرؤى السليمة والنضال والاستعداد للتضحية، البعيدة عن الفساد والظلم والانتهازية والزبونية، فينخرط في حزب قائم على تلك الأصول، أو يسنده من بعيد، أو يؤسس حزبا أو يجد لنفسه طريقة فاعلة يضمن بها موازين قوة سياسية لصالح الحق والعدل والفضيلة، ضد الفساد والفشل والاستبداد.
وعلاوة على العمل الحزبي السياسي فإن في مسارات المجتمع المدني الفسيح ما يتيح الفرصة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي العميق وتأهيل المورد البشري الضروري للقومة والنهضة، والتطوير الاقتصادي والترقية الاجتماعية والتنوير الثقافي وبناء الحواضن الاجتماعية الداعمة للنهوض الحضاري والرأي العام الراسخ الضامن لديمومة انتصار الحق المبين.
قد يظهر للقارئ أن هذه الرؤية الانتقالية بين عامين صعبة وشاقة، وهي في الحقيقة ليست كذلك حين يُتحكم في الأوقات الضائعة والانشغالات التافهة، سيجد الإنسان بإتقان التخطيط والإصرار على التطوير وقتا فسيحا يعطي فيه لكل حق حقه، وتبقى له ساعات وأسابيع للمرح والمتعة والفسحة، وتكون السعادة أكثر عند تقدم العمر العامر بالإنجاز، وتكون الجائزة الكبرى والسرور الدائم في الجنات العليّة المخصصة لأصحاب الهمم العليا.
والله ولي التوفيق.
د. عبد الرزاق مقري
رئيس حركة مجتمع السلم
تعليق