2 ـ مؤشرات الإخفاق والفشل: من المسؤول.
من أهم ركائز الحكم الصالح، وأكثر الصفات وضوحا للنظام الديمقراطي “المسؤولية”. أي أن الحاكم حين يحكم يشعر بأنه تحت رقابة من أوصله للحكم وأنه سيُسأل عن تصرفاته ونتائج أعماله، فإذا نجح وصلُح استحق التأييد والمؤازرة وتجديد الثقة، فإن فشل وتأكد فشله أو استحكم فساده واستمر في غيّه استحق الخذلان والاعتراض وسَحب الثقة منه بل ربما الخلع والنزع. إنه لا معنى لكلمة المسؤولية سوى هذا. إن ” المسؤولية” التي هي بمعنى تقلد المناصب وفق ما درج في لغة السياسة مأخوذة من كلمة سَأل يَسْأل فهو سائل، وسُئِل يُسأل فهو مسؤول. فإذا كنا في دولة تحترم القانون، ويقوم عليها أشخاص متحضرون كانت معالجة الأمر يسيرة سهلة: حين يفشل المسؤول أو يتورط في فضيحة يستقيل قبل أن يقال، فإن لم يفعل لاحقته المؤسسات الرقابية والقضائية حتى تأخذ الحق منه، فإن صمد وتحايل على المؤسسات تأتي الانتخابات الموالية فيُسقطه الناخبون بأصواتهم، ولكن إذ تسلّط على الحكم متخلفون، بهم عاهات نفسية وفكرية صعُب الأمر وتعقدت المعالجة واشتد الكرب على الناس، ولا يتغير الحال إلا بعد أزمات عظيمة وفتن شديدة لا تُبقي ولا تذر.
أخشى حقيقة أن يكون أمرُنا في الجزائر على هذا النحو الأخير. لقد حكم الجزائر منذ الاستقلال نظام سياسي واحد أتيحت له من الفرص ما لا يخطر على البال ولكنه في كل مرة يفشل فشلا ذريعا، وفي كل مرة يُدخل البلد في أزمات عظيمة تعمِّق تخلفنا. وكانت آخر الفرص هذه التي برزت منذ سنة 2000، نعمت الجزائر بالأمن والاستقرار، وتوفر للنظام السياسي قاعدة سياسية عريضة، وشعب صبور أحبطت طموحاتِه فتنُ الدماء والدموع، ومداخيل خيالية تمثل 70 بالمائة من مجمل المداخيل من الاستقلال. لقد أنفق النظام السياسي قرابة 800 مليار دولار ومع ذلك ازدادت تبعيتنا للمحروقات فأضحت مداخيل البترول والغاز تمثل 98 بالمائة، و60 بالمائة من إيرادات الدولة، وإلى 30 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، ولم يصل معدل النمو في هذه الفترة كلها 4 بالمائة، وفي الأخير وجدنا أنفسنا في أزمة اقتصادية تهدد مستقبلنا جميعا. إن الدراسة التي قام بها بعض المتخصصين في ما يمكن تحقيقه بهذا المبلغ تُطير النعاس من الهم بالمقارنة بما تم إنجازه فعليا في مختلف أنحاء العالم بهذا المبلغ: شبكة معاهد ومدارس وجامعات من الطراز الأول تخرج أنجب الإطارات، ومدن بكاملها تُبنى من الصفر، ومئات ناطحات السحاب، ومطارات لا مثيل لها، وإقامة شركات منتجة بمقاييس الشركات العالمية، ومستشفيات بأرقى المواصفات، وقطارات سريعة راقية بآلاف الكيلومترات، وطرق سيارة لا تبقى معها أزمة في السير أبدا، وفنادق فوق المعايير العادية، ويبقى في الخزينة فائض بمائة مليار دولار على الأقل. كل هذا لم يحدث في الجزائر للأسف الشديد، بل العكس هو الذي حدث، مشاريع في حالة مزرية أُنفق عليها أضعاف ما يجب إنفاقه ـ بسبب الفساد، وكثير من المشاريع آيلة للتوقف، وبعد كل الإنفاق الجنوني الذي وقع تواجه الجزائر أزمة عميقة مفتوحة على كل الاحتمالات.
لقد نبهتُ بنفسي المسؤولين مرارا وتكرارا، زرتهم في قصر الحكومة وفي رئاسة الجمهورية وفي العديد من مكاتب الوزارات وتحدثت معهم بالتحليل الاقتصادي وبالأرقام الصماء، ولكنهم لم يسمعوا، بل إن العديد من المسؤولين كانوا يُكذِّبون توقعاتنا، ويتهموننا أثناء خطبهم بالكذب وتسويد الصورة. بعضهم كان يتصرف هكذا رغم كفاءته لأنه يريد البقاء في منصبه، وبعضهم عديم الكفاءة قليل الإدراك بحقائق الاقتصاد ومقتضيات التسيير، وبعضهم كان ماكرا يعرف الحقيقة ولكنه يجحدها ربحا للوقت، وربما لحاجة في نفسه، خوفا من أن يؤدي الاعتراف إلى زعزعته عن الحكم، أو ربما، بالنسبة لبعضهم، لشر يضمره للبلد وأهله.
حينما انهارت أسعار المحروقات كشفت المستور قبل الأوان ولم يصبح ممكنا إخفاء الحقائق. إنه يمكن أن نفهم بأن انهيار أسعار البترول في هذه المرحلة بالذات نعمة من الله، ذلك أن المشكلة لا تتعلق في حقيقة الأمر بأسعار البترول فقط، بل الأزمة أعمق من هذا، ولو لا أزمة الأسعار لاستمر الغرور والخداع وقتا أطول و لأصبحت عملية الإنقاذ مستحيلة. إن معضلة المحروقات تتعلق أولا بمشكلة تراجع الاحتياطات، هذا الذي نبّهْنا له مبكرا، وصدّقنا في ذلك وزير الطاقة والمناجم يوسف يوسفي في مكتبه قبل أن يقال بشهر واحد، فقد أخبرني بأن الاحتياطات الجزائرية في تراجع منذ عشرين سنة، ويتبع هذا التراجع تراجع في الإنتاج، حيث لم نصبح قادرين على الوصول للسقف الذي حددته منظمة الدول المصدرة للبترول (opep)، ويضاف إلى هذه المعضلة مشكلة الاستهلاك المحلي حيث نستهلك في حدود 40% مما ننتجه من الطاقة. وفي ظل هذا الواقع كله ليست الجزائر متأكدة من قدرتها على تغطية احتياجات زبائنها في أوربا عندما يأتي أجل تجديد العقود سنة 2019 وفق ما أخبرني به ذات الوزير. فالمشكلة قائمة إذن في كل الأحوال، وإنما جاء انهيار أسعار المحروقات في الأسواق العالمية فانكشفت الحقيقة، ولما تأكد استمرار هذه الانهيارات أصبح المسؤولون غير قادرين على إخفاء هذا الواقع الأليم.
لقد صرح المسؤولون بشكل واضح أن الأوضاع أصبحت مخيفة، عبروا عن ذلك بأنفسهم في عدة مناسبات، ثم جاء قانون المالية فرسموه في أهم وثيقة قانونية تتعلق بالتسيير الاقتصادي والاجتماعي.
إننا كلما اطلعنا على المؤشرات الاقتصادية التي تصدرها العديد من المؤسسات الدولية التي تعترف بها الدولة الجزائرية وتتعامل معها نجد بلدنا في مؤخرة الركب عربيا ودوليا وبالنسبة لكثير من الدول الافريقية، ومن هذه المؤشرات ما يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره السنوي عن التنافسية العالمية حيث نجد في تقرير سنة 2015 ـ 2016 أن الجزائر في ذيل القائمة عربيا ( المرتبة 87 عالميا من 140 دولة) بعد دول مجلس التعاون الخليجي وبعد الأردن والمغرب ولا يأتي بعدها سوى الدول العربية التي تعيش أزمات كبرى مثل لبنان (101) ومصر (116) واليمن (غير مرتبة) وسوريا (غير مرتبة)، وحينما نذهب للتفاصيل نشعر بكثير من الحزن، ولا نركز في هذه التفاصيل هاهنا إلا على القطاعات التي أُنفقت فيها أموال ضخمة وكانت مجال مزايدة من السلطات وأزلامها وهو قطاع الهياكل القاعدية التي احتلت فيه الجزائر المرتبة 106 بشكل عام، وفي التفاصيل نجد مرتبتنا في نوعية الطرقات 117، والموانئ 117، ومنشآت النقل الجوي 128. ويمكن كذلك أن نتحدث عن مؤشر مهم من الناحية الرمزية وهو ما يتعلق بمرتبة الإبداع حيث نجد أنفسنا في المرتبة 128 من 140. ولعل هذا أسوء ما فعله بنا النظام السياسي أي أنه أنتج لنا مجتمعا بلا إبداع. غير أنه لا أدل ولا أبلغ ولا أوضح في حديثنا عن فشل النظام السياسي من الأرقام التي أعطاها بنفسه في قانون المالية.
لقد بينت مؤشرات الحكومة في قانون المالية 2016 بأن إنفاق قرابة 800 مليار دولار ذهبت هباء بالنظر لحجمها، وأننا نتجه بشكل مطرد إلى أزمة اقتصادية حقيقية، ويدل على هذا الأرقام الآتية:
ـ لم يتجاوز معدل النمو 4 % ، بمعنى أننا ننفق 7 دولارات ولا نربح إلا دولارا واحدا (المغرب ينفقون دولارا واحدا فيحصلون على ثلاثة دولارات).
ـ عجز في الميزانية ب: 4747،4 مليار دينار.
ـ عجز في الخزينة ب: 245،7 مليار دينار.
ـ عجز في الميزان التجاري ب : 26,4 مليار دينار.
ـ عجز في ميزان المدفوعات ب: 30،3 مليار دينار.
ـ والأخطر في هذه الأرقام هو ما صرحت به الحكومة في هذا القانون من أنه لن يبقى في صندوق ضبط الإيرادات في نهاية 2016 سوى 1797،4 مليار دينار أي ما يعادل 17،028 مليار دولار، وإذا أخذنا بعين الاعتبار مبلغ النفقات المقترح في مشروع قانون المالية 2016 المقدر ب 7 آلاف مليار دينار قد يبلغ العجز 2500 مليار دينار، وذلك بالرجوع لما هو معتاد في كيفية الحساب على أساس مراجعة السنوات السابقة حيث أن ميزانتي 2012 و 2014 اللتين بلغت فيهما النفقات سبعة آلاف مليار دينار بسعر مرجعي للبترول 37 دولارا تركت خلفهما عجزا ب 3000مليار دينار، فمن أين ستسدد الحكومة عجز الميزانية المرتقب في نهاية 2016؟
ـ وأما عن احتياطي الصرف فقد انبأنا قانون المالية بأنه لن يبقى منه في نهاية سنة 2016 سوى 121.2 مليار دولار أي ما يغطي 23 شهرا فقط من الواردات، فكيف ستصنع الحكومة لتمويل السوق الجزائرية وتلبية احتياجات الأسر والمؤسسات ابتداء من نوفمبر 2018؟
ـ ومما يجعلنا نشعر بضغط الأزمة أكثر أن ميزانية التسيير وحدها (4807.3 مليار دينار ما يعادل 45.544 مليار دينار) أكبر من إيرادات الميزانية ( 4747.4 مليار دينار ما يعادل 44.969 مليار دولار) في تقديرات قانون المالية لسنة 2016، وإذا علما أن كتلة الأجور وحدها تساوي 35 مليار دينار لنا أن نتصور المشكل الكبير الذي يتنظر العمال، هذا في حالة استبعادنا كلية لميزانية التجهيز المقدرة ب 3176،8 مليار دينار ما يعادل 30،096 مليار دينار.
إن الأمر الذي نريد أن نركز عليه في هذا المقال قبل تحليل التدابير التي تقترحها الحكومة في القانون، وقبل التطرق إلى الحلول التي نقترحها في المقالات المقبلة هو توضيح معالم الأزمة لكي لا يفلت النظام السياسي من المساءلة هذه المرة، وليس في اهتمامنا الاعتماد على خطاب الهوية أو برفع الصوت بالتقريع العام والشعارات الكبيرة كما هي عادت الإسلاميين في مراحل سابقة. نريد أن نُظهر عجز النظام السياسي بالخطاب العلمي بما لا يجعله يقدر على إدخالنا في مواجهات هامشية عقيمة يكون هو الناجح فيها، يستأسد فيها علينا بحلفاء كثر من الداخل والخارج. إن الأرقام التي تحدثنا عنها صماء لا تقبل النقاش وحالة الفشل واضحة لا يمكن لأحد أن يبررها.
إننا، من جهة، لا نريد في تركيزنا على الجانب الاقتصادي في معارضتنا للنظام السياسي أن نكون من أتباع نظرية “التفسير المادي للتاريخ”، المؤسِّسة للفكر الاشتراكي – الماركسي، وإنما قد حددنا لأنفسنا نظرية جديدة في تفسير التطورات السياسية وهي نظرية “المتتاليات الأربع“. وهي أن الحياة البشرية تدار وفق حلقات متتالية أولها التدبير السياسي أو ما يسمى بالحوكمة “La gouvernance ) ) فإن كانت هذه الحلقة الأولى موفقة وكان الحكم صالحا أو راشدا كانت الحلقة التي تليها موفقة وهي التدبير الاقتصادي إذ تَتَحقق التنمية في البلاد وتنشأ الثروة وتعم الوفرة وتُصنع القوة فتكون الحلقة الثالثة ناجحة كذلك وهو التدبير الاجتماعي إذ يكون المجتمع مزدهرا ينعم بالرفاهية والانسجام والتحضر والتطور فيؤدي ذلك إلى توفر الأمن والاستقرار فيعود هذا بالنفع على الحكم والتدبير السياسي. وعكس ذلك صحيح حين يؤدي فساد الحكم إلى الضعف الاقتصادي فيؤدي هذا الأخير إلى الفقر والحرمان والندرة والاضطرابات الاجتماعية فتجد البلاد نفسها في اضطرابات أمنية فتتعمق الاضطرابات السياسية وتتسع الأزمة وتجتمع كل مقومات التخلف. وعلى أساس هذه النظرية نعتبر أن المسؤول عن الفشل الاقتصادي هو النظام السياسي وأن هذه الحالة الاقتصادية ستؤدي إلى اضطرابات اجتماعية متتالية ابتداء من نهاية 2016 فإن أصر النظام السياسي على عتوه وظلمه وجبروته وتعامل مع التطورات بعنف سيؤدي هذا كله إلى اضطرابات أمنية كبيرة ستعصف بالاستقرار السياسي وربما ندخل في فتنة جديدة لا تُحمد عقباها.
إننا أمام هذه المؤشرات الخطيرة التي صرحت بها الحكومة نفسها لا بد أن نحدد من المسؤول؟ حتى نستطيع التغيير والإصلاح. إن المسؤول هو رئيس الجمهورية، فهو الذي صنع هذا الواقع، هو المسؤول عن الرجال الذين استعان بهم ومسؤول عن البرامج التي اختراها وأقرها ومسؤول عن الأموال الطائلة التي أنفقها دون جدوى تكافئها، ومسؤول عن تفويت الفرصة التاريخية لتحقيق إقلاع لا مثيل له بالنظر للإمكانيات التي توفرت، ومسؤول عن ترشحه للعهدة الرابعة رغم مرضه وعدم قدرته على الإشراف على الحكم ومتطلباته، ومسؤول عن غلق الساحة السياسية ومنع أي فرصة للتصحيح والاستدراك، بل محاربة كل الأصوات التي دعت للتصحيح من خلال قراراته غير الديمقراطية ومن خلال تسليط أزلامه في الأحزاب الموالية والمؤسسات الإعلامية الموالية، والمؤسسات الأمنية التي تحكّم فيها تحكما كاملا، وامام هذا الصد الشديد لم يستطع إلى الآن أولئك الذين أرادوا المساهمة الصادقة في خدمة البلد من خلال رؤية توافقية حكيمة اجتمعت عليها المعارضة بمجملها في ندوة مازفران التاريخية وفق مشروع الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه. وبعد رئيس الجمهورية تتحمل المسؤولية الحكومات المتعاقبة ووزرائها، كل على قدر مسؤوليته وصلاحياته و بقدر مساندته للأمر الواقع، وقد لا يعفى من هذه المسؤولية سوى الذين قرروا بمحض إرادتهم النأي بأنفسهم عن هذا الحكم حينما اتضحت لهم الأمور، كما هو حال السيد أحمد بن بيتور والسيد عبد العزيز رحابي وغيرهما، وكما فعل وزراء الحركة حينما رأت حركتهم بأن بقاءهم في الحكومة غير نافع للإصلاح السياسي. وبعد الحكومة تتحمل المسؤولية أحزاب الموالاة ونوابهم ومنتخبوهم والمنظمات المساندة للفشل والضعف والرداءة، بل يتحمل المسؤولية في الأخير الساكتون عن الحق والمناوئون لكل مخلص يريد الإصلاح لمصلحة الوطن ولمصلحة كل الجزائريين.
ـــــــــــــــ
عن قانون المالية 2016 (1\4) : الظروف السياسية المحلية والدولية التي يصدر فيها قانون المالية.
https://hmsalgeria.net/ar/hmsdz
تعليق
تعليقات الزوار ( 0 )