لن يموت شعب أو أمة من قلة أكل أو شرب أم متاع، لكنه سيموت حتما إذا صودرت حريته وسرقت رغبته في التعبير عن أرائه الدينية والفكرية والسياسية… لذلك أدركت الشعوب والحضارات والأمم المتحضرة عبر التاريخ بألا تطور ولا رقي من دون صون للحريات وضمان لمساحة واسعة من الرأي والرأي الآخر، وفي هذا السياق وجب الاستدلال بالمقولة الشهيرة لسيدنا عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.”
لقد دشن عمر بن الخطاب فترة حكمه الزاهر بضمان لحرية الرأي والتعبير، مما انعكس على نفسية الناس في ذلك الزمن فاجتهدوا في أعمالهم وواجباتهم تجاه الدولة ورئيسها ونظامها الساري المفعول، الذي ضمن لهم حرية الحراك والرأي والنقد أو ما نسميه بلغة عصرنا: “المعارضة”، لتترسخ بعد ذلك معادلة تاريخية أو ما يسمى (قانون السببية التاريخي) والذي يعني ألا عدل مع الاستبداد ولا تطور مع القمع ولا أمن مع مصادرة الكرامة والحريات.
لقد كفلت الأديان السماوية هذا الحق المقدس، كما كفلته تشريعات البشر أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، بالإضافة إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، وعلى الرغم من مصادقة الدول على هذه المواثيق والمعاهدات في دساتيرهم الوطنية وقوانينهم السارية المفعول، إلا أننا مازلنا نشهد انتهاكات فظيعة للحريات وتحت مسميات وخلفيات واهية من قبيل: حالة الطوارئ والأمن القومي للبلد، ومحاربة الإرهاب، والحقيقة عكس ذلك تماما فالدكتاتورية والقمع هي البيئات الخصبة لللاأمن واللااستقرار، بل هي المناخ الملائم للإرهاب والفساد الذي تصنعه الأنظمة الحاكمة في الغالب وتدفع ثمنه الشعوب كما يحدث اليوم في عديد الأقطار.
في الجزائر وما حدث لقناة الوطن الجزائرية ومن قبلها قناة الأطلس ومن قبلهما سجن عديد الصحفيين هو مؤشر خطير يعكس وضعية الحريات المتأزم في الجزائر، هذه الحرية التي دفع الشعب الجزائري ثمنها عندما انتفض سنة 1988 للمطالبة بحقوقه المشروعة للعيش بكرامة ويسر اقتصادي وسياسي. فالجزائر حسب التقارير الدولية المتواترة تحتل مراتب متقدمة في قمع الحريات والتضييق على الإعلاميين والمعارضين، وفي المقابل نجد دولا أقل من الجزائر مساحة وثروات وتطور خطت خطوات جبارة في صون الحريات وضمان الحق في التعبير وإبداء الرأي.
إن ما حدث لقناتي الأطلس والوطن وما تتعرض له باقي المؤسسات الإعلامية من تحرش ومضايقات وما ستتعرض باقي الفعاليات الأصيلة في هذا المجتمع يجب أن يتوقف عند محطته جميع النخب الحية: السياسية والفكرية وخاصة النخب الإعلامية يقودني للتأكيد على ما يلي:
- تصرفات السلطة من مضايقات وتحرشات وتعدي على الحريات يتنافى مع شعار الدولة المدنية الزائف الذي باتت السلطة تروج له في كل مناسبة.
- النظام السياسي في الجزائر ليست له الرغبة الحقيقية ولا النية الصادقة ليدفع بالحريات إلى الصون والتطوير والاحترام، فالعقلية التي تربى عليها زبانيته لا يمكن أن تترجم إلى إصلاح حقيقي ولا إلى انتقال ديمقراطي سلس.
- باب الحريات وصونها وترقيتها هو الفرق الأساسي ومعيار التمايز بين الأنظمة الشمولية والقمعية وما بين الأنظمة الديمقراطية، فمن أراد أن يقيس منسوب الديمقراطية أو الديكتاتورية في مجتمع ما فعليه أن يبدأ بالحريات.
- على المعارضة ألا تتنازل تحت أي ظرف مهما كان شكله أو درجته أو خطورته على الحريات والحقوق، وأن تجعلها خطا أحمرا غير قابل للبيع أو الشراء أو المساومة أو التنازل، وكذا مواصلة الضغط على السلطة السياسية تحت قاعدة: “ما ضاع حق وراءه طالب” وقاعدة: “الحقوق والحريات تؤخذ ولا تمنح..”
تعليقات الزوار ( 0 )