حين كان الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسطر طريقه نحو غار حراء من حين لآخر باحثا عن الحقيقة الأزلية لسنوات عديدة ،كان ذلك بصنع من الله تعالى ” ولتصنع على عيني” لم يفتر يوما ولم يتعب ولم يمل الطريق ولا المكان الموحش ،الذي كان عليه الصلاة والسلام يجد فيه أنسا ما بعده أنس،و حين شاء الله أن يريحه من حيرته وبحثه ــ هل كنا سنصبر كل تلك السنون لنعرف الحقيقة ؟ــ كان اليوم الموعود،اليوم الذي أنقذت فيه البشرية وليس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط ،اختار الله لهذا الحدث العظيم خير الشهور وأفضل الليالي،لينزل الروح على خير البشر كلهم، وبينما الحبيب غارق في سؤالاته ،يسبح في الكون الفسيح مشدوها إلى عظمته وشساعته ،يرفض عقله أن يصدق أن خالق كل هذه العظمة هو ذاك الصنم الذي لا يتحرك من مكانه ولا يستطيع رد الضرر عنه،ذلك الصنم الذي حطمه أبوه ابراهيم عليه السلام وما انتصر لنفسه،فبينما هو كذلك يخيم عليه السكون والهدوء،فإذا به يسمع صوتا ولايرى أحدا، هذا الغار ألف الحبيب وألفه ،منذ سنوات لم ير أو يسمع شيئا غريبا …إنه لأمر محير عجيب ،لنتصور ما دار في خلد الحبيب آنذاك ،هل خاف؟ هل ارتعب؟ ربما،لكن الذي هز كيانه وجعله يرتعد هو نزول الوحي عليه،هو شدة وطأ الكلام الإلآهي، ولأول مرة في حياة الكون يُسمع كلاما من رب السماء…فيه أمر بالقراءة ،وما محمد صلى الله عليه وسلم بقارئ،يجيب الحبيب وفرائسه تهتز، ما أنا بقارئ ،فيضمه جبريل ـ عليه السلام ـ ضمة قوية ثم يرسله،إنها ضمة تعطي قوة وثباتا لكل سنين الدعوة والجهاد القادمة لمحمد صلى الله عليه وسلم،ضمة تعيد للحبيب وعيه وتهيأه للحمل العظيم الذي ناءت عنه الجبال وأبت السموات والأرض تحمل عبء هذه الأمانة وأشفقن منها،ويجيب مرة أخرى وهو الصادق الأمين حتى مع الخيال ،نعم الخيال،إذ كان يسمع ولا يبصر بشرا أمامه،إنه والله لأمر جلل، يذهب بلب الحليم ويذهل الراشد الشديد ،يجيب الحبيب “ما أنا بقارئ” ،ليس رفضا للأمر ولا جدالا ،وإنما حقيقة،إذ لم يسبق له صلى الله عليه وسلم أن قرأ،أو فكر في القراءة ، وأنى له ذلك ؟ فقد عاش اليتم والفقر،رعى الغنم في صغره وعمل أجيرا حين شب،كل ما كان يشغل فكره هو ،إيجاد إجابة لسؤال حيره لسنوات طوال ، وقد هدته فطرته إلى ذلك الجبل حيث الغار،هناك…حيث لا أنفاس إلا أنفاسه ،ولا صدى إلا لصوته ، صوت فكره ،صوت روحه ،صوت قلبه ،وحين اطمئن الحبيب للغار الذي خرج عن دائرة الزمان والمكان ،وحين استأنس بوحدته فيه والتي كانت تلخص متعة اللقاء ،لقاء لم يفقه كنهه ،ولكن أحس بصفائه وبأنسه،حينها تنزلت رحمة الله ، لتضع حدا لحيرة طال مداها، وتأتي بالإجابة الأزلية أن لا إلاه إلا الله ،خالق الوجود و متفرد بالعبودية ،و تعلن بداية حياة للإنسانية ،التي كانت غارقة في الجهل والخزعبلات ،تعيش عيش الدهماء ، لا يحركها شوق للتقدم ولا أمل للتطور ، يأكل غنيها فقيرها ،ويستأسد قويها على ضعيفها.
نزل الوحي على الحبيب المصطفى ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيشع الغار بنور الله ويعلن في الكون من هذا المكان أن الحبيب هو النبي المرسل،وأن الله اصطفاه من بين كل خلقه ليكون آخر حلقة وصل بين السماء والأرض،وبه يوقع الله إنهاء مهام جبريل عليه السلام، بعد مصاحبته للحبيب طيلة ثلاث وعشرون سنة،نزل الوحي وانبلج به قلب محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ وعقله، ونزل مسرعا ليغادر الغار للأبد بعد ألفة دامت سنوات،فما عاد صالحا للمرحلة القادمة، إنها مرحلة تتطلب التحاما بالناس وقربا منهم،لا فردانية وبعدا عنهم،و تتطلب حركة وعطاء،لا سكونا وانزواء،فتلقته رفيقة دربه بحب وعطف وتثبيت له ،دثرته وزملته وطمأنته أنه على خير فلن يلقى إلا الخير وأن الله لا يخزيك أبدا،وانفرجت أسارير الحبيب لما علم من ابن عمها أن هذه علامات النبوة ،كما سمعها من جبريل حين خرج من الغار” يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل” ،وساعتها بدأت رحلة طويلة من الجهاد لأجل خير البشر، تحملها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والرعيل الأول الذي تربى على يده ، وقد أخرج الناس من الظلمات إلى النور،ومن عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان،فمتى تعي أيها الإنسان أنه لأجلك بعث الحبيب ونال ما نال ،وأنه لا بد لك من رد للجميل مهما كان،وأن الغار هو بداية المكان والزمان لرسالة الختام وانتهى الى انتشار للاسلام خير دين للأنام،فبه تمسك واحذر الغدر والعصيان،ففيه سعادتك إن كنت تعي الكلام،وخذ الكتاب بقوة وانطلق فثمة نصر وتمكين ونيل مرام.
تعليقات الزوار ( 0 )