الرئيسية أخبار سبيل تغيير العادات

سبيل تغيير العادات

كتبه كتب في 26 يونيو 2016 - 4:54 م
مشاركة
 شهر رمضان: المقصد والسبيل (2)
سبيل تغيير العادات
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ،  وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِى مُنَادٍ:  يَا بَاغِىَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاِغىَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)) رواه الحاكم في مستركه، صحيح على شرط الشيخين.
حين يتأمل الإنسان في هذا الحديث تأمّل المؤمن الواعي، المتحفز لإدراك المعاني، القاصد تغيير حاله في هذا الشهر الكريم، سيطرح على نفسه سؤالا مهما: هل المقصود من تصفيد الشياطين هو تحرير المؤمن من وساوس الملعون ليقدر على الإمساك عن الأكل والشراب فحسب، أم ليقبل على العبادات من ذكر وقيام وصدقة ونحو ذلك مما هو محبب في هذه الأيام والليالي المباركة فقط، أم ليقدر على الإقلاع عن المعاصي حتى لا يفسد صومه لا غير. كل ذلك لا شك مقصود ومطلوب، غير أن هذا الجواب وحده لا يشفي الغليل لمن أراد أن يذهب بعيدا في الفهم والإدراك، ثم الانتفاع والاستفادة. لقد قلنا في المقال السابق بأن شهر رمضان هو فرصة للحصول على التقوى وإصلاح النفس لكي يصبح المؤمن الصائم شخصا آخر عند نهاية شهر رمضان. ولا معنى للنجاح في هذه المهمة إلا إذا ثبت الإنسان على الحال التي وصل إليها في آخر يوم من أيام شهر رمضان عبر ما يلي من الأيام والأسابيع والشهور بعد رمضان. غير أنه لا يمكن للمؤمن أن يثبت على هذا الحال إلا إذا اشتغل على تغيير عاداته فحارب السيء منها في نفسه حتى أفناه، ونمّى الحسن فيها فأدامه وأبقاه.
لقد ابتلي الإنسان بعدوين لدودين يتحالفان ضده في كل آن، من أجل إبعاده عن الطاعة وجره للعصيان، أولهما الشيطان اللعين بالوسوسة وتزيين المعاصي والإغواء والإغراء حتى يكسر قلاع الصمود ويدمر دفاعات الإيمان، وله في ذلك منهجية خبثية تعتمد التدرج والتطور حسب قوة المؤمن وثباته، فهو يطمع بالكسب الأعلى إن قدر ولكنه يرضى بالهيّن منه إن عجز، يطمع في البدء بأن يجعل الإنسان كافرا أو مشركا أو منافقا، فإن عجز وكان الإنسان مؤمنا طمع في أن يدفعه للكبائر والموبقات، فإن وجد في المؤمن صلابة وثباتا زيّن له الصغائر أو اللمم من المعاصي، فإن خاب حاول صرف هذا المؤمن الصالح عن الطاعات بكل أنواعها، فإن انكسر مسعاه حاول شغله عن واجب الوقت أو عظيم الطاعات وأكثرها وأدومها أجرا وثوابا بتزيين الطاعات الصغيرة أو غير ذات وقتها. فإن فشل في كل هذا خنس لمدة ولكنه لا شك سيعاود الكرة.
لا يستطيع الشيطان تثبيت مقصده والتحكم  في مصير الإنسان دون العدو الثاني المتمثل في النفس الأمارة بالسوء التي تستقبل الوسوسة فتستمرئها وتدفع لها من داخل الحصن ووراء القلاع، فإن ثبتت المعصية ولم تجد وازعا إيمانيا يدفعها فورا بالاستغفار والتوبة العاجلة تحولها النفس إلى عادة فيصبح الإنسان يقترفها بشكل تلقائي يصعب الإقلاع عنها. مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير، عُوداً عوداً. فأيُّ قلب أُشربَها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على قلب أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادّاً كالكوز مُجخِّياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرِبَ من هواه” رواه الإمامان أحمد ومسلم.
ومن هنا جاءت أهمية الفصل بين الشيطان والنفس في شهر رمضان وكسر الحلف الدائم بينهما بتكبيل الشياطين ومنعها من الوسوسة ليتفرغ المؤمن إلى عدو الداخل فيعمل على ترويض نفسه، بينه وبينها، ضمن أجواء إيمانية جماعية مساعدة مشحونة بالطاعة والعبادة. فرمضان إذن هو فرصة لتغيير العادات، للتخلص من العادات السئية كلها، والتدرب على العادات الحسنة بكل أصنافها. ولذلك من أعظم الطاعات في شهر رمضان طاعة التفكر والتدبر، التفكر في النفس وأحوالها، ليقيّم المرء ذاته فيقف على عيوبه ويحصيها ثم يذهب لتغييرها وقد أصبحت معزولة عن حليفها طيلة شهر كامل، مستعينا بالصيام وما فيه من فوائد في كسر الشهوات وإخماد غلوائها، وبالإقبال على أنواع الطاعات وما تنشئه من طاقة روحية عظيمة تعين العقل على الإبصار وتجعل النفس سهلة الانقياد والانصياع، وبالدعاء وما فيه من شعور بالافتقار والقرب من الجليل وما يَلحقه من استجابة من المولى تختصر كل المسافات البعيدة والمسالك الطويلة. وكم تكون هذه الفرصة أعظم لو وجّه الصائم فعلا كل هذه الطاعات ولحظات الصفاء والدعاء وفق ما قرره في نفسه من تغيير عاداته بعباداته حتى يغنم مع الأجر تغيير ذاته.
إن العادات هي التي تصنع الإنسان، فالإنسان الصالح هو بعاداته الصالحة، والمرء السيء إنما هو صورة لعاداته السيئة. إنما ينقاد الناس في حياتهم لعاداتهم، سيئها وحسنها، وما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوالدين بحمل أولادهما على الصلاة من السنة السابعة أمرا، ومن السنة العاشرة ضربا إلا لتكون الصلاة عادة للولد يعيش معها طول حياته باعتبارها عماد الدين التي لا دين بغيرها. إن العادة إذا استحكمت في النفس البشرية يصعب زعزعتها إلا بطاقة عظيمة جبارة، ولذلك يصف ستيفن كوفي صاحب الكتاب المشهور ” العادات السبع” بأن التخلص من العادة المستحكمة يتطلب طاقة عظيمة كتلك الطاقة التي تُمكن صاروخ الفضاء من التخلص من جاذبية الأرض وهو يتجه إلى السماء، فإذا اخترق حجب الجاذبية أصبح يحلق في السماء بكل يسر وبلا حاجة لتلك الطاقة. وكذلك النفس البشرية تحتاج إلى طاقة عظيمة للتخلص من عاداتها السيئة، وهل من طاقة أعظم من طاقة الإيمان التي يجدها المؤمن في رمضان، يستعملها لتغيير عاداته السيئة وكسب عادات حسنة، فإذا تحرر من ذلك وكسب ذلك، أصبح يحلق في مدارج السالكين بعد رمضان دون تكلف ولا عناء…. فهنيئا له من فائز. 
د. عبد الرزاق مقري
اقرأ ايضا :

تعليق

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً