الرئيسية أخبار تركيا: محاولة إنقلاب ضد الفكرة والمشروع والنموذج (1)

تركيا: محاولة إنقلاب ضد الفكرة والمشروع والنموذج (1)

كتبه كتب في 30 يوليو 2016 - 1:28 ص
مشاركة

 حضرت لقاءات كثيرة مع مؤسسات التفكير الغربية بمشاركة قيادات الحركات الإسلامية في العشرية الأولى من القرن الجديد. كانت المراكز الغربية تحرص دائما أن يكون مع الضيوف العرب ممثلا أو أكثر عن حزب العدالة والتنمية التركي. وكانوا في كل مرة يعملون على إحراجنا بالسؤال عما إذا كانت تجربة العدالة والتنمية التركية نموذجا نقتدي به في بلداننا العربية. كان حزب أردوغان في عهدته الأولى بين سنة 2002 ـ 2008 وكان في وئام تام مع الغرب الأمريكي-الأوربي، كان يمثل فرصة العمر لهم لتدجين الحركات الإسلامية العربية على منوال التجربة الإسلامية التركية العلمانية المتصالحة مع إسرائيل. كان بعض الغربيين لا يثق بالواجهة المطمئنة التي كان يقدمها حزب العدالة والتنمية التركي، منها مسؤولة كبيرة في الاتحاد الأوربي مستشارة لدى رئيس المفوضية الأوروبية السابق جوزي مانويل باروزو سنة 2004 حيث قالت لي في حديث ثنائي كرد فعل على إصرار ممثل الحزب التركي على تأكيد علمانيته في اجتماع نظمه مركز كارنيجي في ألمانيا قالت: ” هل يظن أننا نصدقه !”. ربما كان كل الغربيين يعلمون بأن هذا الانتماء للعلمانية إنما هو انتماء اضطراري ولكن كانوا يتوقعون بأنه انتماء أبدي وأنه يجب وضع  كل الإسلاميين في الظروف التي تجعلهم علمانيين متصالحين مع إسرائيل وأنه يحسن كثيرا أن يُقدّم لهم نموذج ناجح لذلك.

كان جوابي في كل هذه اللقاءات جوابا بيّنا واضحا على شاكلة ما حدث في ذلك النقاش الثلاثي الحيوي الصريح في واشنطن في ندوة نظمتها منظمة “سنتيري فونديشن”  في شهر ماي سنة 2008 شارك فيها الأستاذ محمد يتيم من حزب العدالة والتنمية المغربي وممثل عن حزب العدالة والتنمية التركي، وكنت أمثل في الندوة حركة مجتمع السلم حيث قلت لمنظم الندوة الذي سأل مرة أخرى عن رأينا في النموذج التركي، قلت له: ” لا شك أن تجربة حزب العدالة والتنمية التركي تجربة رائدة في مجال الحوكمة والتنمية الاقتصادية يمكن الاستفادة منها لا سيما أنه وصل في تلك السنة في آخر عهدته الأولى إلى تحويل دخل الفردي التركي من 3500 دولار سنة 2002 إلى 10500 دولار سنة  2008 ونقل صادرات تركيا من 36 مليار دولار إلى 132 مليار دولار، غير أن ثمة فروقا أساسية في البيئة السياسية لا تتحمل التشبيه أولا تسمح بالمحاكاة منها أن تركيا أصبحت بلدا ديموقراطيا لا تُزوّر فيه الانتخابات، وما كان أردوغان ليحقق ما حققه لو لا توفر الحريات والديموقراطية في تركيا، وأن حزب العدالة والتنمية وجد وضعا علمانيا مستقرا لمدة سبعين سنة لا يمكنه تغييره، في حين أن دساتير بلادنا العربية كلها تُقر بأن الشريعة هي مصدر التشريع أو على الأقل أن الإسلام هو دين الدولة، وأن هذا الوضع الدستوري مستقر منذ عشرات السنين تحت حكم أنظمة قومية، فلا تتوقعوا أبدا أن الأحزاب الإسلامية ستخفض هذا السقف فتتبنّى العلمانية على شاكلة حزب العدالة والتنمية التركي وهي كلها أحزاب بنت وجودها على مواجهة العلمانية”.

لقد كنت أظن أنا كذلك بأن حزب العدالة والتنمية حزب لا علاقة له بالفكرة الإسلامية وأن مؤسسيه قد بعُدت عليهم الشقّة في كفاحهم الطويل مع شيخهم نجم الدين أربكان فغيروا وبدلوا طمعا في الاكتفاء بخدمة بلدهم في مجال التنمية ضمن المشروع الغربي الرأسمالي الربوي وأنهم، مهما كان احترامنا لهم بسبب إنجازاتهم في السنوات الخمس الأولى من حكمهم، لا يجب أن نعتبرهم نموذجا ومثالا يقتدى به، ذلك أن فكرتنا بقيت عالمية رغم الصعوبات التي نجدها في بلادنا العربية تهدف إلى تحرير فلسطين وتحرير العالم بأسره من السيطرة الرأسمالية الربوية الظالمة، وأن نظيرنا في تركيا هو حزب السعادة، حزب نجم الدين أربكان رحمه الله رغم انحصاره السياسي لدى الناخبين الأتراك.

بقيتُ هكذا لسنوات عديدة، يزداد إعجابي بإنجازات أردوغان وإخوانه في خدمة بلدهم، ولكنني لم أقبل مشروعهم على المستوى الفكري الحضاري أبدا وحسبته جزء من المنظومة الرأسمالية العالمية المهيمنة التي لا بد أن تنهار ذات يوم، واعتبرت بأن هذا المشروع التركي قد يكون مجرد مرحلة في الطريق لا يعتد به كنموذج نهائي للإسلام والمسلمين، نكتفي بالثقة بصلاح أصحابه وابتعادهم عن الفساد وبالاعتراف بنجاحاتهم الكبيرة التي وصلت في نهاية عهدتهم الثالثة إلى ما يشبه الخيال بالنسبة لما كانت عليه تركيا قبل توليهم الحكم، وقد دونت هذا الحكم عليهم في بحثي الذي قدمته في المؤتمر الأول لمنتدى كوالالمبور بماليزيا سنة 2013 والذي نشرته تحت عنوان: ” الدولة المدنية: رؤية إسلامية”.

غير أن صاعقا فكريا هزّني ذات يوم غيّر تصوري وحُكمي على الإنتماء الفكري لأردوغان وأصحابه تماما، حيث أدركت بأن هذا الفريق المسلم التركي الحاكم صاحب رؤية إسلامية عالمية أصيلة، وأنه يعرف ماذا يفعل، وأن مشروعه مشروع إسلامي تجديدي تجاوز كل التجارب العربية الإسلامية السابقة والحاضرة، وأنه يتعامل مع الواقع كما هو ويعمل على تغييره بالتدرج للوصول إلى صورة نهائية مرسومة لديه باستعمال الشرعية الشعبية التي لم يحصل عليها إلا بخدمة مصالح الناس والعدل بينهم وتوفير الحريات التي تحلّ كل القضايا الأيديولوجية الخلافية في إطار من السلم والاستقرار والوعي العام والتّحضُّر.

كان ذلك في المؤتمر السنوي الاقتصادي لجمعية رجال الأعمال والصناعة المستقلين ” موصياد”  سنة 2014. بدأ المؤتمر بتلاوة آيات تحريم الربا في سورة البقرة جعلتني أشعر بشيء من السعادة، وقلت في نفسي ربما ثمة في محيط هذه الحكومة أو المنظمة المشرفة على المؤتمر  من يحمل فكرنا واتجاهنا فاختار هذه الآيات من باب التذكير فحسب، غير أنّي سمعت بأذني ما لم أكن أتوقعه في المحاضرات المتسلسلة لوزراء الاقتصاد والمالية والتجارة ثم رئيس منظمة الموصياد ثم الرئيس التركي طيب رجب أردوغان سحلوا فيها كلهم الفكرة الرأسمالية الربوية الغربية، وكانت المحاضرة الأقوى هي محاضرة الرئيس التي حاكم فيها النظام الرأسمالي الغربي الربوي وحمّله مسؤولية الحروب والفقر والاستعمار والظلم والإرهاب وغير ذلك من الآفات التي تعرفها البشرية اليوم.

عندئذ قلت في نفسي لقد كشف أردوغان اتجاهه، وهو نفس الاتجاه الذي بقي يعلنه شيخه نجم الدين أربكان حتى وافته المنية والذي نؤمن به جميعا، ربما يكون أردوغان قد كشف حقيقة منهجه في الوقت المناسب، ولكن ذلك لن يمر بلا ثمن باهض سيدفعه عاجلا أم آجلا….. يتبع..

تعليق

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً