تتمثل مراحل التنمية في النموذج الجديد للتنمية الذي أشرنا إليه في المقال السابق والذي أدرجه أحمد أويحيى في برنامجه في ما يلي: مرحلة الإقلاع (2016 – 2019)، مرحلة الانتقال (2020 – 2025)، مرحلة الاستقرار (2025 – 2030). أي مراحل متتالة تستمر 14 سنة مقبلة.
يعرض السيد أحمد أويحيى هذه المراحل وكأنه رئيس حزب كان في المعارضة تغلب في الانتخابات على حزب او أحزاب كانت في الحكومة، وها هو قد جاءنا بالبديل، بكل عزيمة وإرادة لإصلاح ما أفسده رئيس حكومة أو رؤساء حكومات آخرون. أليس أحمد أويحيى ممن سير وساند برامج التنمية السابقة ضمن ما سموه برنامج رئيس الجمهورية؟ ألم يتطرق هذا البرنامج إلى نفس المراحل بأسماء مختلفة على النحو التالي: برنامج الإنعاش الاقتصادي ( 2001 ـ 2004)، البرنامج التكميلي لدعم النمو (2005 – 2009)، برنامج التنمية الخماسي ( 2010 – 2014).
ألم يعلن أويحيى نفسه عن فشل هذه البرامج؟ ألم يقل لنا بأنهم أصبحوا غير قادرين على تسديد أجور العمال؟ ألم يقل بأننا نتجه نحو الجحيم ! ألم يحدثنا بنفسه عن عجز الميزان التجاري (16.8 مليار دولار) ، وعجز ميزان المدفوعات (21.4 مليار دولار)، وعجز الميزانية. إن أي شخص ذي معرفة متوسطة في الشأن الاقتصادي يعرف بأن نتيجة برامج التنمية هو بناء المؤسسات الاقتصادية في الصناعة والفلاحة والخدمات، ولكن رغم المداخيل العظمى من صادرات البترول والغاز (1000 مليار دولار) التي يمكن أن تصعد بها نصف دول افريقيا ، والوقت الطويل الذي ارتقت في نصفه دول كانت بحجمنا إلى مصاف الدول المتطورة لم يتجاوز عدد المؤسسات الاقتصادية نصف مليون مؤسسة ( أي بنسبة 1.25% من سكان الجزائر بعيدا جدا عن المعيار العالمي)، والأسوء من ذلك، وما يدمي القلب ويجعل الدم يفور في الشرايين هو أن بحبوحتنا المالية نمت بها المؤسسات الاقتصادية الأجنبية وخاصة الفرنسية. فحينما نقول مثلا أننا نشتري 90 % من حليبنا من فرنسا معنى ذلك أننا نشتغل لصالح القطاع الفلاحي لفرنسا في مجال لا يتطلب عبقرية كبيرة لتنميته، إذ لا يعقل أن الجزائر لا تستطيع أن يكون لديها اثنين مليون بقرة حلوب بما يحقق الاكتفاء الذاتي في الحليب، وكذلك من يستطيع أن يفسر لنا أن المزارعين الجزائريين يرمون محاصيلهم من الذرى مثلا لأن المؤسسة العمومية التي كانت تشتري منهم منتوجهم توقفت عن ذلك، وفي نفس الوقت هناك تشجيع ضمني لاستيراد الذرى من الدول الغربية، وموالون بقوا دائما تحت رحمة الأعلاف المستوردة؟ من يستطيع أن يفسر لنا العلاقات المتميزة جدا بين السفيرة الأمريكية السابقة ومستوردي الذرى؟ إلى حد الصداقة الشخصية والزيارة في البيوت؟ من يستطيع أن يفسر لنا التهاون في المحافظة على المصالح الاقتصادية الجزائرية، أو العمالة بالنسبة للبعض، في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي والتي في إطارها خسرت الجزائر أكثر من 07 مليار دولار؟ وعلاوة على كل ذلك، ألم يعلن قانون المالية لسنة 2017 فشل برنامج الرئيس بوتفليقه عمليا قبل وقته بإلغاء وتجميد كثير من مشاريع البرنامج الخماسي للتنمية 2014 – 2019؟ لو لم يكن أويحيى شريكا في هذا الفشل الذريع لكان حديثه عن البرنامج الجديد للنمو منطقيا من الناحية السياسية. إن هذا الرجل لم يكن في المعارضة، لقد كان رئيس حكومات عديدة في عهد بوتفليقة، وهو ولم يعتذر للشعب الجزائري عن الوضع المتهاوي الذي نحن فيه، ومع ذلك يريد أن يحكمنا ليس لخمس سنوات قادمة فقط، بل لأربع عشرة سنة أخرى. أؤكد جازما بأن أويحيى ومن كلفه يعتقدون بأن نواب الموالاة صادقوا له على برنامج يمتد لأربع عشرة سنة مقبلة، لا يوجد شيء يقلق السلطة القائمة بأنه يمكن أن يخلفهم حزب أو أحزاب من المعارضة في هذه السنوات المقبلة، فهم لا يؤمنون بالديمقراطية ولا يتصورون التداول بأي شكل من الأشكال، وهو واضح بجلاء في البرنامج بأن التركيز، كل التركيز، هو في المرحلة التي سموها الإقلاع من هنا إلى غاية 2019، تاريخ الانتخابات الرئاسية، هم يعتقدون أنهم إذا خرجوا من الأزمة من هنا إلى هذا التاريخ الذي تجتمع فيه كل عناصر الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فسيستمرون في الحكم. وبعد ذلك سيرون، إذا أخضعوا الشعب وجعلوه يقبل العيش في الفقر والعوز وضياع السيادة الوطنية فهو ذاك، وإن قاومهم الجزائريون وأعجزوهم فالحلول التي أمامهم: إما الهرب للتمتع بما تم تهريبه للخارج، أو المواجهة للاستمرار بالعنف والقهر، أو تقسيم البلد والعياذ بالله. لا يوجد في ذهنهم أي حل آخر ينقذ البلد يشارك فيه غيرهم قد يقلص سلطتهم أي إن ذهنيهم هي: ” السلطة ولا حفظ البلد”. والكلمة المضحكة جدا في هذاالبرنامج ..ضحكا يُخرج من الوقار، ضحكا إلى حد التقلب ظهرا وبطنا كلمة:”الإقلاع”. أي أنهم بعد 17 سنة من الحكم أنفقوا فيها 800 مليار دولار ولم يقلعوا ! يا جماعة !إنهم يقولون لنا بصراحة بأن مركبتهم لم تقلع إلى الآن !إنهم لم يقلعوا بالرغم من أن الجميع “دَزّمعاهم” . البترول “دز”ّ، الجيش “دزّ”، الإدارة “دزّت”، أحزاب المولاة “دزّت”، الأحزاب الطفيلية “دزّت”، النقابة “دزّت”، الإعلام “دزّ”،الإنتهازيون والطفيليون “دزّوا”، وحتى الأحزاب المعارضة “دزّت” بتعقلها ودعوتها الدائم للتوافق وبعدم استعمال الوسائل السلمية الشديدة في المعارضة كالخروج إلى الشارع، وكذلك الشعب المغبون الذي لا يزال “يدّز معاهم” بصبره وسكوته منذ أن اكتوى في أزمة التسعينيات. الجميع “دزمعاهم” هذه المركبة القديمة المتهاوية التي لم تستطع أن تتجدد. إنها لم تقلع !رغم الإنفاق عليها أموالا كثيرة تمكن من اقتناء ليس مركبة جديدة فقط، بل مراكب تحلق في الهواء وتخترق الزمن وتنقل للمستقبل.
لا أريد أن أدخل في تفاصيل البرنامج في شقه التنموي، فقد فعلنا ذلك مرات عديدة، في العديد من المقالات، ولا يوجد شيء جديد يمكن الوقوف عنده سوى مسألة الإصدار النقدي، لا يوجد شيء غير هذا، ولذلك المهم في تعليقنا على البرنامج هو ما يتعلق بهذا الإجراء الدراماتيكي. لن نعود للحديث عن طبيعته ومخاطره فقد فعلنا ذلك في مقال خاص بذلك. الذي أريد ان أركز عليه هو المبررات التي جاءت في مغالطات أويحيى. لقد أكد أويحيى مرات عديدة، بأن سبب اللجوء إلى خيار الإصدار النقدي دون غطاء هو لتجنب المديونية التي ترهن السيادة الوطنية. لقد تحدث في هذا باسم رئيس الجمهورية الذي أعطاه تعليمات صارمة لعدم الذهاب للمديونية كما يقول وكما قال من قبله تبون وسلال، ونقل عنه هذا القول أبواق عديدة من الموالين والانتهازيين. وهم جميعا يقولون هذا إما لأنهم لا يعرفون شيئا عن الحقيقة الاقتصادية أو أنهم جميعا يخادعون الجزائريين. والأغلب أن الرسميين يخادعون وأتباعهم يتبعونهم في الخداع بلا علم ولا معرفة.
لا شك أن العارفين بالحقائق الاقتصادية يضحكون ملأ أشداقهم عن تبريرات أويحيى ورئيس الجمهورية لأنهم يعلمون أن هذه التبريرات مخادعة وغير دقيقة وأن الحقيقة أن رفض المديونية له أربعة أسباب غير معلنة وهي:
1 ـ الرغبة في عدم خدش صورة رئيس الجمهورية في هذا الموضوع.لا يمكن للرئيس أن يعترف بأن عهدته لم تنجح اقتصاديا، وهو لا يريد أن يغير تلك الصورة التي صنعها لنفسه بتسديد الديون قبل آجالها. إن رجوعه إلى المديونية اعتراف عملي بالفشل وتأكيد بأن خطوة التسديد قبل الأوان كانت خاطئة اقتصاديا، لأنه أرجع ديونا لم تكن تمثل عبئا كبيرا على الجزائر ليأخذ ديونا أخرى تمثل عبئا شديدا على الجزائريين بسبب تحول الظروف وشروط المديونية.
2 ـ ليس من السهل على الحكومة الجزائرية أن تجد من يقرضها، والسبب هو عدم توفر ضمانات السداد. أما ما يتعلق بما بقي من احتياطي الصرف فإن النظام السياسي يريد الاعتماد عليه كأمان للميزانية يتصرف فيه كيف يشاء بدون رقابة لاستمراره إلى غاية الانتخابات الرئاسية، ولو وجد من يقرضه فإنه سيفقد هذه الحرية في التصرف.
3 ـ الحكومة في حاجة إلى سيولة لتسديد أجور العمال، وتغطية عجز صندوق التقاعد، والاستمرار في تسكين الجبهة الاجتماعية بالمحافظة على الهامش الممكن من التغطية الاجتماعية، وعلى رأسها السكن والمواد الاستهلاكية الأساسية. ولكن حتى إن وجدت الجزائر من يقرضها فإن البنوك لا تقرض الحكومات لهذه الأغراض، فهي حين تقرض تشترط عن طريق صندوق النقد الدولي إعادة هيكلة الاقتصاد بما لا يسمح بالدعم والتحويلات الاجتماعية الضرورية.
4 ـ السلطة السياسية الحاكمة ليس لها الثقة في نفسها بأنها ستنجح في تحقيق التنمية بالأموال التي تقرضها، وانها ستقدر على تسديد الديون من خلال القيم المضافة للعمل ونتائج المؤسسات في الصناعة والفلاحة والخدمات. ولتبسيط الفهم بما يبين عدم صدق أويحيى في حديثه عن علاقة المديونية بالسيادة من هذه الزاوية نضرب مثلا: حين تنقطع السيولة على مؤسسة اقتصادية ناجحة يسيرها مدير راشد ووجدت هذه المؤسسة خطوط قرض، هل ستعتبر هذا فرصة أم تهديدا؟ هل هذه فرصة لتقوى المؤسسة وتنمو وترتفع مكانة المدير، أم أنها خطر على المؤسسة وعلى سيادة مديرها عليها؟ الجواب بكل تأكيد وبالنسبة لكل عاقل أن هذه المديونية فرصة، وليست تهديدا، لأن ذلك المدير سيحول الديون إلى ثروة ينمي بها المؤسسة ويسدد بها الديون. و لا بأس أن أفصح عن مبادرة قمت بها بنفسي في هذا الإطار، خدمة للجزائر، حيث تحدثت مع وزير المالية الأسبق محمد جلاب بعد أن عين سنة 2014 بعد مرور بوتفليقة للعهدة الرابعة ضمن الظروف التي نعرفها فقلت له: سأنصحك بنصيحة لا ينصح بها حزب معارض وزيرا في حكومة يعارضها. قلت له ستتجهون إلى المديونة آجلا أم عاجلا وأنصحكم أن تتجهوا إليها الآن لأن الظروف المالية لا تزال جيدة بما يتيح ظروف مفاوضات مناسبة لصالح الجزائر، فإن لم تفعلوا ذلك الآن ستعودون إليها في ظروف تُفرض فيها على الجزائر شروط قاسية جدا. قلت له: من المفروض أن لا يهمني أمركم كذبصفتي رئيس حزب معارض، ولكن الأمر يتعلق ببلدي ولا أريده أن يغرق. بطبيعة الحال السلطة كانت في ذلك الوقت تنكر وجود أزمة، وكانت تتغطى وراء المؤشرات المالية الجيدة التي يعرف المدركون للحقائق بأنها ستتلاشى سريعا. وها هو اويحيى يعترف بذلك ..
يتبع…..
المقال المقبل: الردود على الردود
تعليقات الزوار ( 0 )